اختفت الوسطية، ونمت الشعبوية. لم يعد العراق كما عرفناه، ولم يعد المجتمع كما عهدناه. حصل كل ذلك في ظل تحول أكبر وأحداث أسرع أصابت العالم ككل، وكان العراق أقل المستعدين لها. كيف ذلك؟ هذا ما سيتضح في مقالات لاحقة...
"أنا الدولة والدولة أنا" لويس الرابع عشر
ان ما ضاعف أثر زلزال الاحتلال في العراق في 2003 هو الاختلاف والانقسام الواضحَين في تعريف طبيعة ما جرى، فهل هو تحرير للعراق، أم احتلال له؟ هل هو أسقاط للنظام أم للدولة؟ هل هو أرادة أمريكية أم عراقية أم اقليمية؟ هل هو نشر للديموقراطية أم للفوضى؟ هل هو خدمة للعراقيين أم لأمريكا أو اسرائيل أم لإيران؟
ان كل الاستطلاعات التي أجرتها مجموعتي البحثية (المستقلة لأبحاث الرأي) أظهرت أن العراقيين كانوا-وما زالوا- منقسمين بشدة حول هذا الموضوع. ففي أول استطلاع للرأي العام في بغداد أجريته بعد أقل من شهر من الاحتلال سألتُ عينات ممثلة (1200 بغدادي) عن كيفية رؤيتهم لما جرى في العراق، فأجاب حوالي 48 بالمئة بأنه احتلال وتقريباً نفس النسبة قالت أنه تحرير للعراق!
سقوط البعث
وفي شهر نيسان من كل سنة ينقسم رواد التواصل الاجتماعي بين من يعدّ 9 نيسان يوم لسقوط البعث والتحرير، وبين من يعده يوم للاحتلال والتدمير! لذا لا زال العراقيون مختلفون حول يومهم، وعلمهم، ونشيدهم الوطني.
هذا الاختلاف، في جزء مهم منه، يعود لاختلافهم حول ما جرى في 2003. أذكر أنه في محاضرة لي في أحد معاهد واشنطن المرموقة قبل 10 سنوات تقريباً أن أحد السياسيين العرب المعروفين بمساندتهم لأمريكا أعترض على استخدامي مصطلح «الاحتلال» لتوصيف ما جرى في العراق.
وقال لي هل تقول عمن حرروكم من صدام ونظامه بأنهم محتلين؟! فأجابه مدير ذلك المعهد البحثي قبل أن أجيبه أنا: لقد اعترفنا كدولة بقرار أممي صادر عن مجلس الأمن بأن أمريكا هي دولة احتلال، فلماذا ترفض أنت وصفنا بأننا قوة احتلال؟! أن هذا الاختلاف حول تعريف ما حصل القى بظلاله على كل ما جرى مجتمعياً وثقافياً واقتصادياً، والأهم سياسياً .لقد تاه الناس ما بين مقاومٍ ثائر، وطائفيٍ قاهر، وارهابيٍ جائر، ووطنيٍ حائر. وباعتقادي فأن من المهم فهم تلك اللحظة التاريخية الفارقة التي قادت الى نهاية تاريخ، وبداية آخر.
مثل سقوط تمثال صدام حسين تجسيد مهم لتلك اللحظة التاريخية الفارقة، لكن لماذا؟ لم تتعرض الأجيال التي نشأت في العراق بعد خمسينات القرن الماضي الى أي تجربة احتلال أجنبي، وكانت شديدة الاعتداد بوطنيتها، وقوميتها، وقوتها بل وقدرتها على نصرة المظلومين في فلسطين وأفريقيا وآسيا وسواها.
لقد تم نفخ الذات العُلوية المنتصرة عبر كثير من الممارسات بدءً من رياض الأطفال، مروراً بالمدارس والأشبال والشباب وسواها من الممارسات الثقافية والفكرية. وسخرت الدولة كل آلتها الإعلامية لنفخ الروح الانتصارية.
نشأت هذه الأجيال على مفاهيم لبيك يا علم العروبة، وبلاد العرب أوطاني، و دايم يا نصر بيد العراقيين»…الخ. وجاءت نهاية حرب الثمانينات مع ايران، البلد الأكبر والأغنى (والأقوى) لتغذي مثل هذا الشعور بالتفوق.
وحتى حرب تحرير الكويت التي خرج فيها الجيش والنظام العراقي مكسوراً، ومهزوماً ومحاصَراً جرى تسويقها (بطريقة أو بأخرى) من قبل النظام وآلته الإعلامية القوية والمُحكمةِ الإغلاق بأنها (أم المعارك) والانتصارات.
وساعدت استعادة الدولة السريعة لسيطرتها على النظام، وإعادة بناءها لما تهدم -برغم الحصار- والنفخ العالمي في قدرات العراق العسكرية والنووية، واعتباره (خامس جيش في العالم)، فضلاً عن بقاء النظام قوياً ومتماسكاً لثلاث عشرة سنة -رغم كل مشاكله الداخلية، بتعزيز الانطباع بين العراقيين بأن هذا النظام لا يمكن أزاحته أبداً.
كما أدى الأعلام الحكومي العراقي وكل ممارساته السلطوية الى خلق حالة مما يسمى الارتباط الشرطي conditional association بحسب نظرية بافلوف السلوكية بين صدام والدولة والنظام السياسي. لقد سادت مقولة «أذا قال صدام قال العراق» بين العامة حتى آمن بها-شعورياً أو لا شعورياً- كثير من العراقيين. فحين يظهر صدام تظهر الدولة بكل قوتها وسطوتها، وحين يغيب، بخاصة لمدة غير قليلة – كما حصل بعيد الاحتلال مباشرةً- يحدث ما يسمى بالانطفاء Extinction ،أي لا يصبح للمثير الشرطي (الدولة وصدام) أثر في سلوك العراقيين. تغيب حينذاك الدولة، ويغيب الخوف عنها ويسقط النظام في النفس قبل السلوك.
احباط نفسي
لقد أدت رؤية العراقيين المشبعين بروح المعارك (والانتصارات) من جهة، ورؤية دولتهم و(قائدهم) القوي وهو يسقط من علياءه، في الوقت الذي تتجول فيه الدبابات الأمريكية في أزقتهم، وتدوس البساطيل الغربية على شوارعهم، الى احباط نفسي شديد.
فكلما زادت التوقعات كلما زاد الإحباط حينما لا تتحقق. هذه حقيقة نفسية معروفة. ومع تكرار فيديو سقوط التمثال-الرمز- أمام العراقيين، وسقوط دولتهم ونظامهم القادر-كما كانوا يعتقدون- على تدمير المحتل بما يمتلكه من قوة وجبروت وإمكانات مخفية(كالكيمياوي والنووي…الخ) أصاب كثير من العراقيين مزيج من صدمتَي الغضب و الخوف.
الغضب مما آل اليه حال العراق الذين بات كتلك الشعوب المغلوبة على أمرها والمحتلة من الأجنبي التي طالما ساعدوها. والخوف من المصير المجهول الذي ينتظرهم بعد هذا الاحتلال الذي لم يعرفوه أو يتوقعوه سابقاً. ومما ساعد في هذا الخوف من المجهول أن دولتهم التي.
حتى وإن لم يحبها كثير منهم، عوّدّتهم أن تقوم عنهم بكل شيء(توظيف، تعليم، صحة، سكن، غذاء، أمن…الخ) وها هي قد تلاشت واختفت ولا يعرف أحداً ما سيفعل بهم المحتل بعدها. هذا المزيج (الجهنمي) من الخوف والغضب أدى الى ردود أفعال سلوكية مختلفة لتقليل الخوف والتنفيس عن الغضب.
فهناك من أنتقم من الدولة بأن سرقها (حواسم)، وهناك من أنتقم منها بجلدها ورميها بكل الخطايا التي حصلت، ومنهم من أنسحب نفسياً وأنكفأ على ذاته، ومنهم من وجد بديلاً عنها في الدين والمذهب والعشيرة. منهم من نفّس عن غضبه بالجريمة، ومنهم من هدّأ قلقه بالأيمان والدين.
منهم من أغلق باب بيته عليه وأمتنع عن أي مشاركة في المجال العام، منهم من حمل السلاح (الساقطة) فأنشأ ميليشيات، وقاد عصابات، ومنهم من أباح سرقة الدولة وتخريبها باعتبارها ملكاً مشاعاً. لقد تراوحت ردود الأفعال المتطرفة في الغالب بهذا الاتجاه أو ذاك، لكنها كانت في الغالب (وليس دائماً) تعبير عن حالة عارمة من الغضب فعمت الفوضى وتداعت كل معايير القوة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والعسكرية التي طالما تعودها العراقيون لثمانين سنة.
اختفت الوسطية، ونمت الشعبوية. لم يعد العراق كما عرفناه، ولم يعد المجتمع كما عهدناه. حصل كل ذلك في ظل تحول أكبر وأحداث أسرع أصابت العالم ككل، وكان العراق أقل المستعدين لها. كيف ذلك؟ هذا ما سيتضح في مقالات لاحقة.
اضف تعليق