لا مجال امام المركزي العراقي والحكومة سوى الاستمرار في تشديد اجراءات عدم استغلال الدولار، والتعاون مع وزارة الخزانة ومكتب مراقبة الاصول الاجنبية في هذا الاطار. ومن دون ذلك ستكون الحكومة العراقية امام احراج كبير امام الشعب ويساهم في عدم استقرار الاسواق ورفع المستوى العام للأسعار (التضخم) مما يعزز الرفض الشعبي لسياسات الحكومة...

فرضت الحرب الجارية في مدينة غزة – فلسطين، حيث الصراع المسلح بين حركة حماس والفصائل الفلسطينية الاخرى من جانب، والحكومة الصهيونية من جانب اخر تداعيات كبيرة على دول المنطقة. وعقدت كثيرا من المشهد الجيوسياسي والامني والاقتصادي في المنطقة. وبرزت مواقف اقليمية رافضة للحرب الشعواء التي تشنها الحكومة الصهيونية ضد قطاع غزة بعد الهجوم الذي شنته حركة حماس ضد بعض المستوطنات في الاراضي المحتلة. وهذه الحرب لاتزال تداعياتها كبيرة ومؤثرة ولاسيما في الدول التي تشهد هشاشة كبيرة ومستويات من الاستقرار الهش كسوريا والعراق. 

من المؤكد ان العراق احد ابرز الدول التي تفاعلت مع هذه الحرب مستنكرة لها ورافضة لها على المستوى الرسمي والشعبي. وتعدت ذلك الى مواقف ذات بُعد عسكري تُرجم الى الدعوة والتهديد باستهداف المصالح الاميركية – ابرز الداعمين للحكومة الصهيونية في حربها على غزة – في المنطقة، من قبل فصائل "المقاومة الاسلامية"، فضلا عن مواقف سياسية ودبلوماسية اخرى شملت جلسة خاصة لمجلس النواب، واجتماعًا طارئًا للاتحاد البرلماني العربي عُقد في بغداد. 

يمكن القول ان الموقف العراقي من الحرب ليس موقفا واحدا معبرا عن موقف كامل الدولة العراقية. فالموقف الرمسي الحكومي والشعبي رافض لهذه الحرب ومستنكرا لها، في قبالة موقف اخر وهو موقف فصائل "المقاومة الاسلامية" التي تتشارك مع "حركات المقاومة" في المنطقة ومنها حركة حماس التي شنت هجمات بطائرات مسيرة وصواريخ على مواقع عسكرية يوجد فيها جنود أميركيون، هي قاعدتا فيكتوريا قرب مطار بغداد وعين الأسد غرب العراق وحرير في أربيل، فضلًا عن قاعدة التنف في ريف دير الزور شرق سوريا. واستمرت تعلن بين الحين والاخر استهداف المصالح الصهيونية من منشآت عسكرية وطاقوية ومطارات داخل الاراضي المحتلة.

منذ بداية الحرب وايران وواشنطن وتل ابيب تبنت مواقف متشابهة في عدم اتساع رقعة الحرب، وهذا الموقف الايراني اجهض مبدأ وحدة الساحات الذي يتبناه محور المقاومة والذي يقتضي ان تشترك جميع فصائل محور المقاومة في المنطقة في شن الحرب ضد الكيان الغاصب. كما ان الموقف الايراني بدد التهديدات التي كانت تصدر بكثافة من اطراف المقاومة في العراق والمنطقة ضد "اسرائيل" في حال شنها حربا بريا وغزوا بريا لقطاع غزة. وحصل الاجتياح البري ولم تُنفذ تلك التهديدات.

الحكومة الصهيونية تدرك جديا خطورة اتساع رقعة الحرب خارج قطاع غزة، وتتوافر على قراءة استراتيجية للمخاطر السياسية والاقتصادية في الداخل " الإسرائيلي"، فضلا عن اتساع رقعة الرفض للحرب في الرأي العام العالمي، والموقف الامريكي، والتي لم تعرها "اسرائيل" اهمية كبيرة.

اما الاعمال العسكرية خارج قطاع غزة، فيمكن القول انها تضمنت عمليات هجومية دقيقة ومحدودة من دون ان تكون حربا شاملة، ضد "فصائل المقاومة" في المنطقة منها مثلا ضد قيادات حزب الله في لبنان والتي شملت المئات منهم، واهداف عسكرية للحزب في سوريا والعراق. كما ردت تلك الفصائل بهجمات على المصالح الاميركية وجوبهت بعمليات قصف محددة ودقيقة كما حصل مؤخرا في جرف الصخر والرد عليها في قاعدة عين الاسد غربي البلاد.

امكانية تحييد الفصائل عبر العقوبات الاقتصادية 

على الرغم من ان الارادة الدولية والاقليمية كانت مع عدم توسع نطاق الحرب، وعلى الرغم من محاولات الولايات المتحدة منع انتشار الصراع، فقد هاجمت الجماعات المدعومة من إيران في جميع أنحاء المنطقة مجموعة من الأهداف منذ تشرين الأول 2023، بما في ذلك إسرائيل والقوات الأمريكية. وقد سعت الولايات المتحدة الى ردع هذه الهجمات والرد عليها، بما في ذلك من خلال العمل العسكري. وربط المسؤولون الإيرانيون الصراع الإقليمي الجاري بحالة الحرب في غزة. على سبيل المثال، قال وزير الخارجية الإيراني في منتصف كانون الثاني 2024 إن إنهاء الصراع في غزة "سيؤدي الى إنهاء الأعمال العسكرية والأزمات في المنطقة". ويقدر مجتمع الاستخبارات الأمريكي أن إيران "ستظل تشكل تهديدًا لإسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة بعد فترة طويلة من صراع غزة، وربما تستمر في تسليح حلفائها ومساعدتهم لتهديد الولايات المتحدة".

وقدر تعلق الامر بالعراق، وحتى قبل احداث غزة، فأن واشنطن عملت سابقا على تصنيف جماعات وافراد على لائحة الارهاب الدولي، وفرضت عقوبات عليهم وسببت ذلك بأنهم لهم علاقات وطيدة بإيران والحرس الثوري الايراني، ويمكن القول ان تلك العقوبات جاءت بموازاة عقوبات مالية طالت العشرات من المؤسسات وافراد ايرانيين منذ عام 2018 ولغاية الان.

مسألة العقوبات الاقتصادية على الكيانات والافراد في العراق لم ترتبط بالأساس بمرحلة الصراع في غزة، بل ان تلك العقوبات على مؤسسات مصرفية وافراد سبقت الحرب على غزة. كذلك استمرت العقوبات على الكثير من المصارف العراقية المرتبطة بجهات حزبية ومجاميع مسلحة موالية لإيران. عليه، مشكلة الولايات المتحدة تتعلق بمنع حصول ايران على الاموال الاجنبية لتمويل برامجها التسليحية عن طريق وكلائها في العراق من جهات حزبية وغيرها وما يرتبط بها من بنوك ومؤسسات مالية عاملة في العراق.

لكن من جانب اخر لا ننسى ان واشنطن في ايلول 2023 سهلت تحويل 6 مليارات دولار من الأموال الإيرانية من كوريا الجنوبية (حيث تم الاحتفاظ بها كدفعة لصادرات النفط الإيراني إلى كوريا الجنوبية قبل عام 2019) الى قطر. وفي 17 أيلول 2023، صرح مسؤول أمريكي لم يُذكر اسمه أن الأموال في قطر ستكون "متاحة فقط للمعاملات الخاصة بالسلع الإنسانية [أي الغذاء والأدوية والأجهزة الطبية والمنتجات الزراعية] مع موردين تابعين لجهات خارجية غير إيرانية تم فحصهم". وزعم بعض المنتقدين من الداخل الامريكي أنه حتى إذا لم يكن النظام قادرًا على استخدام الأموال غير المجمدة في أنشطة خبيثة، فإن وصول النظام الى أموال إضافية لأغراض إنسانية سوف يحرر موارد أخرى لتلك الأنشطة المزعزعة للاستقرار.

اضرت واشنطن بالاقتصاد الايراني عبر العقوبات التي فرضت على عشرات البنوك والمؤسسات المالية ايرانية وعراقية، وحرمت طهران من الحصول على الدولار الامريكي منذ تشديد العقوبات بدءاً من العام 2018 وما بعدها. وتدرك واشنطن ان الفصائل المسلحة في العراق وبعض الجهات السياسية لديها مؤسسات مالية وبنوك مُشكّلة وفق القوانين العراقية تمارس دورها في تمويل حركة البضائع بين البلدين وهو ما يساهم في حصول طهران على الدولار. 

ولهذا استقرار سعر صرف الدولار في السوق المحلية، يتطلب من العراق إيجاد حلول متفق عليها مع الجانب الأمريكي لتمويل التجارة مع إيران، فالدولار مازال يتم جمعه من السوق من قبل بعض التجار من أجل تمويل تجارتهم مع إيران وسوريا ودول أخرى، ودون وجود أي اتفاق ودون موافقة واشنطن لن يكون هناك أي تطور للتعاون المالي والمصرفي بين البلدين، فضلا عن انه لن يكون استقرار في سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الامريكي. وبهذا لم يعد للعقوبات المفروضة على تلك المؤسسات المالية او الافراد دور كبير في حرمان ايران من الحصول على الدولار والعملات الاجنبية. 

كيف يمكن للولايات المتحدة معاقبة الدولة العراقية اقتصاديا؟

لازالت وزارة الخزانة الاميركية والفيدرالي الاميركي على تواصل مع الحكومة العراقية والبنك المركزي العراقي عبر اللقاءات والاجتماعات للحد من تهريب الدولار وايجاد حل لمسألة لعدم استقرار سعر الصرف الحقيقي ومساواته مع السعر الحقيقي (سعر السوق). ويبدو انه لا مؤشر ازاء احراز البنك المركزي العراقي لتقدم يذكر في مواجهة مشكلة تهريب الدولار والفواتير المزورة على الرغم من ان المركزي العراقي وضع مجموعة اجراءات ساهمت بشكل نسبي في الحد من المشكلة. 

بمقابل ذلك لم يكن لدى الفيدرالي الامريكي سوى التوجه نحو البنك المركزي والحكومة العراقية ودفعها لمواجهة المشكلة وبدا ذلك مع الربع الاخير من العام الماضي 2023 . ففي ايلول 2023 رفض الفيدرالي الامريكي طلب الحكومة العراقية بالحصول على مليار دولار، وأعادت الحكومة العراقية تقديم الطلب خلال تشرين الاول وخضع للدراسة من قبل الفيدرالي الامريكي. 

اذ يحصل العراق على 10 مليار دولار نقدًا كل عام على متن رحلات شحن نصف شهرية من بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. ويخطط الفيدرالي الامريكي الى تخفيض كميات الدولار الممنوحة للعراق الى النصف سنويا (اي 5 مليار دولار). اذ أخبر مسؤولو وزارة الخزانة الأمريكية مسؤولي البنك المركزي العراقي أن “إرسال شحنة إضافية كبيرة يتعارض مع هدف واشنطن المتمثل في تقليل استخدام العراق للأوراق النقدية الأمريكية لصالح المعاملات الإلكترونية التي يمكن تتبعها بسهولة أكبر. 

ويبدو ان الفيدرالي الامريكي والخزانة الاميركية مصران على حرمان الدول والمؤسسات والشخصيات المشمولة بالعقوبات من الحصول على الدولار. ولهذا لا مجال امام المركزي العراقي والحكومة سوى المواجهة الحقيقة لأساس المشكلة. وعدم الحصول على الدولار سيحد من قدرة الحكومة على تمويل استيراداتها من السلع الاساسية كالغذاء والدواء (تراجع ملف البطاقة التموينية، وتوريد الادوية). وسينعكس عدم الالتزام سلبا على التصنيف الائتماني للعراق مما يعني الحد من القدرة على الاقتراض في وقت ينص قانون الموازنة للاعوام (2023، 2024، 2025) على عشرات الفقرات للاقتراض من جهات دولية لتمويل المشاريع الاستثمارية.

الامر الاخر، هو مسألة حماية الاموال العراقية، فواشنطن يمكن ان تستخدم هذه الورقة للضغط على الحكومة العراقية والجهات الحزبية المتحكمة بالنظام الحاكم ودفعها للامتثال لأهدافها السياسية والاقتصادية في العراق والمنطقة ومواجهة من يعرض المصالح الاميركية للخطر. 

ولازالت واشنطن عبر وزارة الخزانة الاميركية ومكتب مراقبة الاصول الاجنبية تمارس هذا الدور في التضييق على المركزي العراقي في تحويلات الدولار من خلال الاجتماعات التي تعقدها مع وزارة الخارجية العراقية والبنك المركزي والذي يبدو انه لم ينجح في منع تهريب الدولار الى الخارج، ودلالة ذلك لازال الفارق كبير بين السعر الرسمي والسعر الحقيقي (الموازي). 

تدرك واشنطن ان أقصر الطرق لتحييد تلك الفصائل والجهات السياسية المناوئة لمصالحها هو تجفيف منابع حصولها على الاموال، ولهذا اصرت ولا زالت تصر على التضييق على البنك المركزي العراقي لتشديد الاجراءات في مزاد العملة وضمان حصول المستفيدين فعلا عليه وبطرق شفافة وتمتع بالنزاهة والمصداقية. ويبدو ان المركزي العراقي عاجز عن غير قادر على انضباط المصارف التي تستغل الدولار بطرق ملتوية، ولازال يطالب في كل اجتماع مع الخزانة الاميركية برفع العقوبات عن بعض المصارف المعاقبة ولا اكثر في حقيبة المركزي العراقي في اجتماعاته مع الجانب الاميركي. ومن المرتقب ان يعقد الاجتماع القادم في الايام القادمة ومن دون ان يحرز المركزي العراقي اي تقدم ملحوظ في هذا الجانب. 

استمرار العجز في عدم استغلال الدولار، يعني ان العراق سيبقى على تصنيفه في كونه قناة لتوفير الدولار الى اعداء المصالح الاميركية في المنطقة وابرزها ايران. ومع استمرار ذلك ومجيء ادارة اميركية ربما من الجمهوريين بقيادة ترامب ستعمل واشنطن على اجراءات اكثر حزما تجاه العراق، ربما يكون من ضمنها رفع الحماية عن الاموال العراقية، وتعقيد اجراءات طلبات الحكومة العراقية في الحصول على الدولار من (حساب العراق 2). ولذلك لا مجال امام المركزي العراقي والحكومة سوى الاستمرار في تشديد اجراءات عدم استغلال الدولار، والتعاون مع وزارة الخزانة ومكتب مراقبة الاصول الاجنبية في هذا الاطار. ومن دون ذلك ستكون الحكومة العراقية امام احراج كبير امام الشعب ويساهم في عدم استقرار الاسواق ورفع المستوى العام للأسعار (التضخم) مما يعزز الرفض الشعبي لسياسات الحكومة. 

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2024

www.fcdrs.com

اضف تعليق