الإنسان الحكيم يعيش وهو يستثمر في الحُبّ. ويتلذذ بتجلياته الآسرة وتعبيراته الجميلة. حُبّ من يحب يتحقّق بوصفه طهورًا يغتسل فيه القلب، ولؤلؤة متوهجة تضيء الأعماق. السفيه مَن يخسر كنزًا كالحُبّ يُداوي جراح قلبه، وأشد سفاهة منه مَن يخسر الحُبّ الأخلاقي، كلُّ حُبّ أخلاقي نبيل يتوطن القلب لن يغادره...

المحبة مطلوبة لذاتها. توالد المحبة يتحقق باتساعها وتكثيفها. يحتاج الإنسان محبة كل إنسان أخلاقي نبيل. تكمن قوة الحب في قدرته على إيقاظ مشاعر الطفولة بحميميتها وإيقاد وهجها. لا يتعلم الإنسان الحبّ إلا بالحبّ، لا رافد يستقي منه الحبّ خارج الحبّ. الحب محبوب لذاته وليس لأي غرض آخر، مكافأة الحب هي الحبّ ذاته. لا يعني هذا القول الاكتفاء بالكلمات، كما يفعل بعض من يغرقون غيرهم بكلمات المحبة بلا أي تعبير عملي.

الحُبّ حالة تُحدِث فاعليات خلّاقة، تتجلى بهبات ومبادرات ومواقف نبيلة تُهدِي المسرات، وتعبّر بلطف وتهذيب عن الصدق والامتنان والثقة والإخلاص.

 بعضُ المحبين يُفسِد حبه بالمنّ والأذى، يظل يؤذي مَن يُحِبّ بابتزازه بمكافأة استثنائية، ولا يتقبل أية مكافأة ما لم تكن استعبادَ مَن يحُبّ، وتسخير كل شيء في حياته لمصالحه الشخصية. الرحمةُ حالةٌ، الشفقةُ حالةٌ، المحبة حالةٌ، كلُّ حالةٍ تتجسّد في موقفٍ وفعلٍ يعبّر عنها. مكافأة الرحمةِ التحقّقِ بالرحمة، مكافأةُ الشفقةِ التحقّق بالشفقة، ومكافأة المحبةِ التحقّقِ بالمحبة؛ ذلك ما يسمو بالإنسان ويرتقي به إلى عوالم الأنوار، ‏الحُبّ نورُ المعرفة، يوقظ الحُبّ في الإنسان بصيّرةً تلهم المعرفة. الحُبّ يري الإنسان محبوبَه ضوءًا يبهج القلب. الحُبّ بعد أن يطهِّرَ القلب يطهِّر العلاقات الإنسانية. ما أجمل أن تكون رسالة الإنسان في الحياة تكريسَ إيمان المحبة والرحمة، وإنقاذَ الأرواح المنكسرة من الغرق في الظلام.‏‏ الحُبّ كيمياء تصهر عناصرَ متنوعة في حياة الإنسان، فتنتج منها توليفةً مبهرة، كأنها إكسيرُ يحوّل كلَّ عنصر إلى كنزٍ ثمين. ‏

 مَن يقع في ‏ الحُبّ يقبض عليه بقوة، يكبّل إراداتَه ويسلب اختيارَه. الحُبّ ضربٌ من تسامي الإنسان وشعوره بالامتنان، وإن كان لا يخلو من إكراهٍ على ما لا طاقة للإنسان بالخلاص منه. أخطر أنماط ‏ الحُبّ عندما يتحول إلى استعبادٍ للعقل والروح والضمير. تحتجب الأسبابُ ويغيب الزمان والمكان في ‏ الحُبّ، يتجلى الحُبّ كضوءٍ يعيشه الإنسانُ خارج الزمان والمكان. الشعور بوطأة الزمان يهدّد الأمنَ الداخلي للإنسان ويهدر سكينتَه. الزمن الماضي تظلّ ذاكرةُ شيء من جروحه مريرة، الزمان المستقبل يكتئب الإنسانُ لحظة التفكير فيه بعمق، ‏أقسى ما يقلق الإنسانَ غموضُ الأيام الآتية، وما هو مباغتٌ ولا متوقع مما يفاجئه فيها.

المحبة الصافية ضوء يكشف تجليات جمال المحب والمحبوب. المحبة من أعظم وأجمل النعم الإلهية. الحُبّ الأصيل يعتق الإنسان من الانزواء والعزلة في حياته. أن نحب إنسانًا جديرًا بالحُبّ يصيّرنا هذا الإنسانُ إنسانًا جديدًا. جوهر الحُبّ الأصيل لا يمكن أن يستغني عنه الإنسانُ يومًا في حياته. 

لغة الحُبّ مشبعة بالعواطف الدافئة والتراحم. لغة الحُبّ الأصيل صادقة، لا تخشى المكاشفة والبوح والغفران، ‏تغفر حتى الخطايا الكبيرة. ‏الإنسان كائنٌ يصنع اللغةَ وتعود اللغةُ لتصنع علاقاته وصلاته بغيره من الأشخاص والأشياء والعالم من حوله. باللغة يستطيع الإنسان أن يحدّدَ نمطَ وجوده، لو أراد أن يعيش الحُبّ بوصفه طورًا وجوديًّا يتحقَّق به ويحققه، فهو بحاجة ماسَّة إلى توظيف لغة الحُبّ الأصيل وكلماته بشكل واسع في حياته اليومية، واستثمار هذه اللغة في العائلة والمجتمع والعلاقات العامة. يتجلَّى الحُبّ بأصفى مصاديقه بالاهتمام الأقصى بالمحبوب.

لا قليل في الحُبّ، قليل الحُبّ كثير. الحب يتشكّل على شاكلة المحبين، حُبّك لأيِّ إنسانٍ يتحقّق على وفق ذات الإنسان المحبوب، حُبّ الأم يتشاكل مع الأمومة، وهو ضربٌ من الحُبّ غير المشروط، حُبّ الأب يتشاكل مع الأبوة، وهو ضربٌ من الحُبّ المشروط. حُبّك لبناتك يتشاكل مع طبيعة الأنوثة وحنانها، حُبّك لأولادك يتشاكل مع الرجولة. حُبّ كلِّ واحد من البنات أو الأولاد يتشاكل مع ذاته وذات الأبوين، ونمط صلته بأبويه.

معنى الحُبّ خنقته بعضُ الأعراف المتشددة، وتقاليدُ كبت العواطف، والأحكامُ المغلقة، وحظرُ البوح بالمحبة، والعبث باحتياجات الطبيعة الإنسانية. الحُبّ الطارئ الذي يعكس توهجًا عاطفيًا مؤقتًا غير الحُبّ الأصيل، الحُبّ الأصيل يمكث طويلًا، بعد أن يتحقق فيه الإنسانُ بطور وجودي أكثف وأصفى. 

تشوّه الحُبّ بمصاديق منحطة أحيانًا، طالما بدأ الحُبّ مشبعًا بالأحلام الرومانسية المبهجة، وطالما انتهى مليئًا بالخيبة والندم والجروح النازفة. من لوازم الحُبّ المسؤولية الأخلاقية تجاه مَن تحب، الحُبّ بلا شعور بمسؤولية حيال من نحب كذبة. لا يتحقق الحُبّ الأصيل إلا أن يكون محكومًا بسياج أخلاقي يضمن الوفاء. ‏الوفاء قيمة أخلاقية أصيلة، مَن لم يكن وفيًّا لمحبة ‏الناس وعطائهم ‏المعنوي، لن يكون وفيًّا لمحبة الله وعطاياه.

المحبة فضلًا عمّا تتطلبه من كيمياء مشتركة بين إنسانين، تتطلب وعيًا بطبيعة الإنسان، واكتشافًا لتذبذبات شخصيته وتقلباتها وتناقضاتها المزمنة. يمكن التعرّفُ على شيءٍ من أعماق النفس الإنسانية، والتعلّمُ من أخطائنا وأخطاء غيرنا، والتربيةُ الصارمة للذات، والحذرُ من أن تُفسِد الكراهيةُ المحبة، والسعي لتجفيف منابع الكراهيةَ بالمزيد من المحبة. الكراهيةُ مرض، يحتاج القلبُ إلى الاغتسالَ منه بالمحبة على الدوام لئلا يمرض. تربيةُ الذات على المحبة شاقةٌ جدًا، وأشقُّ منها التدريبُ على أن يغتسلَ القلبُ كلَّ يوم بالمحبة. لا تتجذّر المحبة إلا بسلسلة مبادراتٍ تبهِج القلب.

 التسابقُ والتزاحمُ والتنافس والمحاكاة والغيرة ضروريةٌ في الحياة، من دونها لا تحدث عمليةُ خلقٍ وإبداعٍ وابتكارٍ وتطور، ما لم يتحول ذلك إلى صراعٍ عنيف. ما يفسد المحبة تحوّلُ الحُبّ إلى استعبادٍ تام، فقد تصل الغيرةُ على المحبوب لحالةٍ مرضية حادّة تحاول استملاكَ كلِّ شيء في حياته، والاستحواذَ على ماضيه وحاضره ومستقبله. الغيرة على المحبوب ربما لا تتوقف على ملاحقة كلماته وأفعاله وسلوكه ومواقفه فقط، بل تصل إلى التلصص على أفكاره ونواياه. هذا الضربُ من الحُبّ يتحول أحيانًا إلى سمّ يشلّ المحبوبَ ويمحق

الحُبّ.

أتحدث عن الحُبّ بوصفه نمطَ وجود لحياة الإنسان، ‏يتحقّق كلُّ إنسان فيه بنمط وجوده الأسمى على شاكلته. الإنسان لا يستطيع أن يتنكر أو يخرج على طبيعته الإنسانية. الحُبّ معنى آسر، تجلياته متنوعة ومتناغمة الإيقاع في الحياة. الحُبّ عندما تتوفر شروط تحققه لا يتحقّق فيه الإنسانُ بقرار اختياري. تتنوع وتتعدد تجليات الحُبّ الحقيقي بثراء شخصية الإنسان وتعدد تجلياتها وتنوعها.

الحاجة لإيقاظ الشعور بالأمان والمحبة والثقة بالنفس من أعمق احتياجات النفس الإنسانية. أحيانًا يصير الحُبّ قناعًا يختبئ خلفه احتياج عاطفي شديد أو مادي، فإذا استطاع الإنسان تأمين هذا الاحتياج عبر شخص آخر أو أية وسيلة أخرى يستغني عن الذي يحبه. 

وربما يكون الإنسان بحاجة ماسَّة إلى ملاذ يحتمي فيه، فيرى أحدَ الأشخاص يمكن أن يوفر له ذلك. أحيانًا يمارس أحدهم ابتزازًا عاطفيًّا مضجرًا لمن يحب، يتخطى كلَّ حدود الذوق والأخلاق. وأحيانًا تلتقي دوافع متنوعة، وحتى متضادة، للحُبّ. في كلّ هذه الحالات وأمثالها سرعان ما ينهار الحُبّ، وكثيرًا ما يؤول إلى كراهية ممقوتة. الإنسان الحكيم يعيش وهو يستثمر في الحُبّ. ويتلذذ بتجلياته الآسرة وتعبيراته الجميلة. حُبّ من يحب يتحقّق بوصفه طهورًا يغتسل فيه القلب، ولؤلؤة متوهجة تضيء الأعماق. السفيه مَن يخسر كنزًا كالحُبّ يُداوي جراح قلبه، وأشد سفاهة منه مَن يخسر الحُبّ الأخلاقي، كلُّ حُبّ أخلاقي نبيل يتوطن القلب لن يغادره. حتى لو أساء المحب وأزعج مَن يحبّه يمنحه فرصة ويمهله، ولو قرر مقاطعته يحترم موقفه. الحكيم لا يخسر حبّه، مادام الحُبّ مطلوبًا لذاته في حياته، وسرعان ما يغتسل القلبُ بالحُبّ من الأذى. كلما تزايد عدد من يحبّهم الإنسان اتسع قلبُه وأضاء بالحُبّ، حتى يصير كأنه مرآة صافية.

 الحُبّ الزائف يبدأ وينتهي باستعباد إنسان لإنسان. الهاربون من الذات وبعض المرضى الذين يعانون من اضطرابات نفسية يفتشون عن ملاذ يأويهم، لحظة يعثرون على مَن يلوذون به يبتزّونه عاطفيًا، ويتهافتون على استنزاف حنانه وشفقته ورعايته واحتضانه.

الحُبّ لا يبلغ نصابَه الحقيقي، ولا يستوفي الإنسانُ منه احتياجَه إلا بالتكافؤ في المحبة. الاستعمال البراغماتي للحُبّ أخطر تهديد يقوِّض الحُبّ. ‏عندما لا يجد الإنسانُ ذاتَه إلا بأن يظفر بعطف وحنان واهتمام وشفقة غيره، يحاول أن يغويه، ويغرقه بكلمات تبالغ بإفراط بمحبته وعدم الاستغناء عنه، لأجل استدرار محبته وابتزازه عاطفيًا. ‏لا يمكن أن يتواصل ويتكرس الحُب الأصيل بهذه الوسائل، وكثيرًا ما يتقنع بقناع زائف.

‏ أحيانًا يتحول الحُبّ إلى قناع لصعلوك بارع بالابتزاز والخدع العاطفية، يمكن أن أعبر عنه بـ "المتسول للعطف والشفقة"، الذي يختبئ خلف قناع الحُبّ، وهو لا يحُبّ أحدًا حبًّا حقيقيًا. هو يترقب من الآخرين احترامه وإكرامه ومحبته، وكأن تلك وظيفة الناس حياله، من دون أن يبادر هو بموقف عملي يدلل على العطاء العاطفي في حياته. ينبغي ألا نترقب من الإنسان الآخر أن يحبنا ويحترمنا ويكرمنا من دون أن نبادر بالمحبة والاحترام والإكرام. مَن يبادر بالإحسان والتراحم والمحبة ينبغي إكرامه ولو بكلمة محبة صادقة. الإحسان المبادرة بالإحسان، التراحم المبادرة برحمة خلق الله، الاحترام المبادرة باحترام الإنسان، المحبة المبادرة بالمحبة. لا يدوم الحب إلا بالتواضع، والتكافؤ في المحبة، والحق في الخطأ، والحق في الاختلاف، والاعتراف بالخطأ، والاعتذار.

اضف تعليق