عندما يكون الفساد اكبر من قدرة تلك المؤسسات لابد وان يكون للشعب موقف يؤدي به واجبه الدستوري بمناصرة اجهزته القضائية والتحقيقية والرقابية، ويتخذ من الحق الدستوري الممنوح له في حماية المال العام وتعزيز حرمتها، وبواسطة الاليات الدستورية التي وفرها الدستور له عبر جملة من الحقوق ومنها حقه...

تعتبر حماية المال العام من الواجبات الملقاة على عاتق كل مواطن، وهذا الوجوب اقره المبدأ الدستوري في المادة (27) من الدستور النافذ (للأموال العامة حُرمة، وحمايتها واجب على كل مواطن)، لكن السؤال هو كيف يؤدي المواطن هذا الواجب، حيث لم يرد أي تفصيل في الدستور عن تلك الكيفية، وبذلك فان القواعد العامة هي التي تنظم تلك العملية وهو اللجوء الى القضاء والأجهزة الرقابية، لان لا يجوز لأي مواطن ان يمارس أي عمل فيه محاسبة او فرض عقوبة على من يسرق المال العام او يعتدي عليه، الا عن طريق القضاء حصراً وعلى وفق احكام المادة (37/اولاً) من الدستور التي جاء فيها (لا يجوز توقيف احد أو التحقيق معه الا بموجب قرار قضائي).

واللجوء الى القضاء لا يكون الا بموجب اخبار يقدم الى احدى السلطات التحقيقية التي لها الحق في تلقي الاخبار وهي (1- قاضي التحقيق 2- المحقق او المسؤول في مركز الشرطة 3- أعضاء الضبط القضائي 4- الادعاء العام) وعلى وفق احكام المادة (1) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنى 1971 المعدل، وفي الجرائم المتعلقة بالفساد المالي والإداري الذي يقع على بالأموال العامة او سرقتها واختلاسها او الاضرار بها، يجوز ان يقدم ايضاً الى هيئة النزاهة لأنها مكلفة بالتحقيق في قضايا الفساد الإداري والمالي.

لكن هل واجب المواطن والالزام الدستوري الملقى على عاتقه، بان يخبر السلطات التحقيقية فقط؟ ممكن تكون الإجابة بنعم، لان ليس لأي مواطن ان يحاسب أي موظف في أي منصب او وظيفة كانت وليس له ان يراقب عمله بشكل مباشر والا اعتبر مرتكب جريمة إعاقة العمل الوظيفي او تعطيل المصالح وغيرها من الأفعال التي جرمها قانون العقوبات.

وممكن جداً ان تكون تلك الإجابة وافية، لان السلطات التحقيقية المكلفة باتخاذ الإجراءات القانونية هي من تمثل الشعب والمواطن، لأنها مؤسسات عامة تخصص لها المليارات من الدنانير ولربما الترليونات من أموال الشعب (الأموال العامة)، فضلا عن ذلك ان الدستور افترض بان الموظفين والمكلفين بالتحقيق الذين يشغلون مختلف الوظائف وبكافة درجاتها العليا والدنيا، هم اليد الحارسة للمال العام والعين الساهرة عليه والضامنة لعدم المساس به، لانهم يتقاضون رواتبهم التي هي اكثر بكثير من رواتب سائر الموظفين ولربما بأضعاف مضاعفة من المال العام، وهذه أموال الشعب وليس هبة وهبها الواهب لهم.

مع ان ذلك قد يتقاطع مع مبدأ المساواة الذي اقره المبدأ الدستوري في المادة (14) من الدستور وكذلك مع مبدأ تكافؤ الفرص الذي اقره المبدأ الدستوري في المادة (16) من الدستور، الا ان المبرر الذي يساق لتبرير هذه الزيادة والتضخم في رواتبهم على انهم يواجهون خطر أكبر في أعمالهم لأنهم يتصدون الى الفساد والجريمة، وكذلك لابد من تحصينهم من المغريات التي قد تعرض عليهم، والسؤال الذي يراود الذهن، هل الإخلاص بالعمل مقرون بالجوانب المادية؟ ام انه عقيدة تتعلق بشرف الذمة وصدق العمل وترتبط بالضمير الحي والايمان بالله ورسوله؟ 

كما ان هذا التبرير لا يمكن تسويقه لان الموظف الشريف يبقى على بياض قلبه وضميره ويده مهما كان اجره، لأنه ليس مرتزق وليس بسارق، او معدوم الضمير ويتعامل مع الأمور بمادية صرفة، حيث ان هذه تعني اننا نفترض في كل واحد من هؤلاء فرصة ان يكون سارق ومرتشي اذا ما انخفضت مخصصاته او توقف راتبه لفترة معينة.

لكن عند قيام المواطن بواجبه الدستور بالإخبار عن المخالفات والسرقات، فانه يكون او كان قد تعرض او يتعرض الى الخطر، لان بعض الحالات يتعرض بها المخبر الى المواجهة الشرسة من الفاسدين قد تؤدي به الى التضحية بالنفس او بعياله وبمصيره بالمجمل، واعتقد هذا هو سبب عزوف المواطنين عن الاخبار لدى الجهات المكلفة، مع ان القانون يلزم تلك الجهات بتوفير الحماية له والحفاظ على سرية معلوماته الشخصية، ولا يجوز البوح بها، وعلى وفق قانون حماية المخبرين والشهود رقم 58 لسنة 2017، لكن الواقع يشير الى عدم فاعلية هذا القانون، ولم يمنع تسرب أسماء المخبرين وعناوينهم، مما عرضهم الى الخطر.

مع ان القانون اعتبر الاخبار هو تحريك للشكوى فانه افترض بان التحقيق سوف يسري على وفق الأصول القانونية وان العدالة تأخذ مجراها، وهذا ما يجب عليه ان يكون حتى يكون المواطن مطمئناً ويكتفي بممارسة واجبه الدستوري بالإخبار عن الفساد، لان مؤسسات الدولة التحقيقية والرقابية والقضائية هي مؤسسات عامة تعمل على وفق القانون وتخضع لسلطان القانون الذي هو بالأصل يخضع للشعب لأنه مصدر السلطات بموجب المادة (5) من الدستور.

لكن عندما يكون الفساد اكبر من قدرة تلك المؤسسات لابد وان يكون للشعب موقف يؤدي به واجبه الدستوري بمناصرة اجهزته القضائية والتحقيقية والرقابية، ويتخذ من الحق الدستوري الممنوح له في حماية المال العام وتعزيز حرمتها، وبواسطة الاليات الدستورية التي وفرها الدستور له عبر جملة من الحقوق ومنها حقه في التعبير عن الراي تجاه استشراء حالة الفساد عبر كل الوسائل المتيسرة وعلى وفق احكام المادة (38) من الدستور التي الزمت الدولة بكفالتها كما كفلت حقه في التعبير عن موقفه الرافض للفساد ولكافة الجهات التي تعمل على تغذيته او التي تتوانى عن مكافحته، من خلال التظاهرات التي الزمت الدولة بكفالتها على وفق احكام المادة (37) أعلاه.

لكن الواقع غير الفرض المطروح، لان اغلب وسائل الاعلام غير متاحة للمواطن، إذا ما أراد ان يحتج او يعبر عن موقفه تجاه الفساد، حيث نرى ان الاعلام يخفت صوته إذا ما واجه المحتجون السلطة للمطالبة بحقوقهم في التعيين والعمل الذي كفله الدستور بموجب المادة (22/أولا) من الدستور، بل ان السلطة توظف قوتها لمواجهة هؤلاء بكل قسوة وعنف.

فضلاً عن ذلك نجد ان وسائل الاعلام يختفي دورها في اظهار ومتابعة حالات الفساد، ومنها على سبيل المثال، ما جرى في المؤتمر الصحفي في أربيل للسيد رئيس هيئة النزاهة وصرخته من ضعف المؤسسة التي يفترض ان تكون اقوى من الفاسدين، فنجد الاعلام مر عليها مرور الكرام ولم يجعلها في مقدمة نشراته الإخبارية او يكثر من تحليلها وعرضها ودراستها، حتى يكون المواطن على بينة مما يجري تجاه الأموال العامة التي الزمه الدستور بحمايتها، ولربما ، وهذا ما يردده البعض، ان تلك الوسائل سواء الاعلام او التواصل الاجتماعي تخضع لسطوة وتأثير منظومة الفساد التي اضعفت اقوى مؤسسة افترض الدستور بانها الأقوى تجاه محاسبة الفاسدين، واضعف ثقة المواطن بها.

ومع ذلك ما زال الامل في المواطن بان يؤدي دوره وواجبه الدستوري بحماية المال العام الوارد في المادة (27) من الدستور، وان الشعب اقوى من الطغاة والظالمين وله القدرة على إيجاد السبل الدستورية والقانونية لأداء واجبه الدستوري.

* قاضٍ متقاعد

اضف تعليق