حاولت ان اظهر قويا وبقلب برجوازي لا يأبه بمجوهراتهم... مدعيا في نفسي بان ثعبان الغنى لايلدغ فريسته من الفقراء الا عند الخوف!! ولا اعداء لي في هذه اللحظة الا الرواسب البرجوازية القديمة، بعد ان أظلم لمعان الماس في عينيَ وغطست الاحجار الكريمة في محاجرها وتحول الذهب...

بدت لي سنغافورا محطة تتهيأ للبحث عن كنوزها الهائلة، وهي تفتتح بوابات يومها التي اكتسحها الشروق من حيث تبدأ دورة الارض وتستوي الشمس على سطح العالم. كانت حقا واحدة من صباحات شهر تشرين الاول اكتوبر، وكأنما هو وقت الدرس لا أستيقظ على صوت من يهمس في اذني بان احلام ليلك التي رسمت فيها السحب العالية جبالا من الرؤى هي حقائق غدك التي ستفاجئك بما قد يسعدك!.

قلت في سري لاسعادة بلا كرامة... وانا من بلاد شرق المتوسط تهب الخير بلا ثمن! تطلعت حقا من نافذة غرفتي الى السماء التي انجلت من زحام امطارها والتي توافرت عليها ليلا ليسقط نظري ارضا على سطح غابة استوائية زاهرة ندية، تنوعت ورودها بانسجام، واستظلت الوانها في طيف يزحف في اوانه لايرده شيء من بقايا الظلام الهابط الذي اختفى متلحفا بدثار ليلتي التي اغدقت السماء فيها وصبت انهارا من الماء دون حراك يذكر. كان الحي الصيني، في تلك البلاد المزدهرة، ملاذي الاخير للهروب نحو المطلق الذي ولده مرتسم احلام ليلي المبهم.

جلست الى جانبي، في حافلة التكسي التي أقلتني الى الحي الصيني، سيدة رائعة من بلاد رافًديَ جاءت لتستظل هي الاخرى في بلاد انضبط فيها كل شيء الى درجة انفلتت فيها القوة العادلة للطبيعة والحياة! ظل سائق حافلتنا وهو رجل صيني يواصل السير ولم تغادر الابتسامة تقاسيم وجهه، وهو يشير في معرض حديثه بان هذه البلاد ينعدم فيها الفقر تماما.

واشار الى واحدة من الابنية الجميلة التي يستقر تحتها مركز عملاق للتسوق، ليقول بإستثناء هذه العمارة التي هي على يساركم، فإنها مخصصة للناس العاطلين عن العمل وان مركز التسوق هو المكان الذي يغطي احتياجاتهم اليومية في قسائم يجري تصريفها بالسلع التي يبتاعها ذلك المتجر العملاق كي تستمر حياتهم!! توقف سائق الحافلة فجأة ونحن نغادر حي الفقراء امام متجر غريب الاطوار، واشار بالبنان انه ما من زائر تطأ قدميه هذه البلاد الاستوائية الغنية بتجارة الماس دونما ان يأخذ فرصته بالمرور بمركز المجوهرات، الذي هو واحد من اكبر مراكز قطع الماس والاحجار الكريمة النادرة وبيعها في آن واحد في هذه البلاد.

ترددت في بادئ الامر... لان ما في جيبي ومحفظة السيدة لايتحمل حتى شراء (كتلوك) معروضات المتجر الذي يوزع مجانا!! فرحت السيدة التي هي الى جانبي شأنها شأن اي إمراة ترغب الاطلاع ولاتشتري!!. واجه اصراري بالإقلاع عن فكرة زيارة المتجر بنظرات تلك السيدة التي تقول بصمت... ألا لعنة الله على الجبناء!!. فانتفضت من فوري وقلت لم لا! لنتطلع على حي الاغنياء مثلما مررنا بحي الفقراء قبل لحظات!! فاجئني في امر زيارة المتجر ذلك الاستقبال الحافل، الذي لا يجري الا للطبقة الارستقراطية ولاسيما نحن القادمون من بلاد الثروات النفطية!!! افزعني ذلك الاستقبال الذي اصطف فيه امام المتجر حشد من المستقبلين ممن إرتدوا زيا موحدا طغى علية اللون الاسود وهم زمرة من الفتيان والفتيات في عمر الزهور. فقلت في سري اي مجوهرات سنشتريها؟ وان ماتبقى من مال لدينا لايستحق اي استقبال يذكر حتى وان كان الشراء من متجر حي الفقراء!! اخذنا نتطلع في اركان المكان الثماني الشكل والذي زين بمقاطع زجاجية داخلية عملاقة لامعة شديدة الشفافية وزعت بشكل جدران متماسكة من حول صالة العرض نفسها. وبامكاننا حقا مشاهدة الحرفيين المهرة من خلال تلك الزجاجات النافذة وهم يمارسون صناعة قطع الماس والاحجار الكريمة وصناعة الذهب، في حين انتظمت داخل قاعة العرض الثمانية الاضلاع، تشكيلات من معروضات الحجارة الكريمة تليق بالأغنياء حصريا!!

انصرف الباعة وانشغلوا بجدية هائلة في وصف معروضاتهم علينا من مختلف اساور الماس والاقراط المطعمة بالأحجار الكريمة والتي تبتدئ بهدايا اعياد الميلاد وتنتهي بهدايا الزواج...! اندمجت السيدة التي رافقتني بلبس الاساور والاقراط على سبيل التجربة وتبديل رغباتها وهي تتطلع امام المرايا. في حين ظلت اسئلة الباعة من محترفي التعامل مع الاغنياء تنهمر كالمطر... وهم يتسائلون... هل ترغبين سيدتي بهذا اللون من الاساور او تلك التشكيلة من القلائد وذلك النوع من الاقراط الماسية... انها اسئلة لا اجوبة عليها في ظل روافعنا المالية الخاوية الى الحضيض ولكلينا معا!!! اخذت ضربات قلبي تطرق مخاوفي في هذا المكان الذي يلفظ فكرة الفقراء في اساسيات جدول اعماله.... اذ اصابني ألم مفترس بعد ان هرب دمي واصبحت كالطير بين مخالب النسر، والسيدة مستمرة في وضع تلك الكتل الماسية على معصميها، في حين امتدت الاقراط الماسية لتأخذ في هذه المرة موقعها الطبيعي تحت اذنيها وهي في غاية الاناقة والسعادة والفرح!!... وانا ابعث اليها برسائلي التحذيرية كي نغادر المكان امام إلحاح الباعة وقناعاتهم بالسؤال عن ماذا نبحث من الاحجار الكريمة ولأي مناسبة نشتري!!! 

حاولت ان اظهر قويا وبقلب برجوازي لا يأبه بمجوهراتهم... مدعيا في نفسي بان ثعبان الغنى لايلدغ فريسته من الفقراء الا عند الخوف!! ولا اعداء لي في هذه اللحظة الا الرواسب البرجوازية القديمة، بعد ان أظلم لمعان الماس في عينيَ وغطست الاحجار الكريمة في محاجرها وتحول الذهب في نظري الى نحاس لا معنى له!!

استطعت في نهاية المطاف ان اقنع السيدة بترك المتجر الذي ازدحم بالأغنياء عندما بدأت مكائن الدفع ترفع اصواتها بجدية عالية ازاء انسحابنا الهادي واختفت الابتسامة من على اوجه مودعينا في مخارج المتجر على عكس استقبالهم لنا... ولم استطع ان ارد انفاسي الا بعد دخولي حافلة التكسي التي كان سائقها بانتظارنا وهو مبتسم جدا وفي غاية السرور... وقال انه لن يتقاضى اجر الانتظار وانه اشفق علينا كي نتطلع على ذلك المتجر الرأسمالي الذي لاتقدر موجوداته بثمن!!

وحتى بلوغنا الحي الصيني، وانا أفكر في ما الذي جعلني اصارع نفسي وازيد من مقادير همومي وانا غارق بهذا اليأس الذي انتشر في مخيلتي بسرعة نشوء الطين بعد المطر في بلادي وانا اتطلع على المعروضات في متاجر الاغنياء؟ التفت الى السيدة التي كانت برفقتي فوجدتها وهي على عكس حالتي تماما، فقد ظلت مبتسمة وكانت في غاية المتعة بعد ان اشبعت شراهتها وتبخرت همومها وهي سعيدة في اللاشيء من الشراء!! ظلت نفسي تقول، لقد اضاع الباعة وقتهم سدى معنا... وانه لولا انفلات القوة العادلة في هذه البلاد العالية الانسانية لمزقونا، نحن الفقراء المتطفلين من ذوي الجيوب المليئة بكل شيء الا من المال،... ارباً اربا!!!!

وقبل ان نمسك ببوابات الحي الصيني سررنا برؤية الكنائس والمساجد والمعابد التي جاور بعضها البعض لتظهر قوة التسامح الديني وعشق الاثنيات فيما بينها... وقلت في نفسي اي امة عظيمة هذه ياترى!! وبالرغم من ذلك الانسجام بين الطبيعة والحياة في هذه الارض، فلم يمنعني الحال من التخبط بذكريات القوة العمياء من الماضي وانا اتذكر مفارقة حصلت في حادثة مماثلة تعرض اليها دبلوماسي متواضع من شرق المتوسط زار سنغافورة قبل اكثر من ثلاثين عاما ووقع في مطب متجر المجوهرات نفسه، ليروي لي الحكاية الاتية:

انه كان برفقة وزير من بلدان شرق المتوسط كان يومها يزور سنغافورا في مهمة رسمية، حيث وجه متجر المجوهرات انفاً الدعوة للوزير للتسوق في يوم عطلة الاحد يخصص له حصريا ويفتح ابوابه لهذا الغرض، وان ما سيجرى للوزير الشرق اوسطي هو شيء مماثل جرى سابقا من العام نفسه لوزير آخر من واحدة من البلدان المنتجة للنفط الشديدة الثراء، يوم اشترى ذلك الوزير الثري مجوهرات من المتجر المذكور ببضعة ملاين من الدولارات، وكتبت الصحافة وقتها عن اعجوبة الشراء بمثل هذا السخاء.

اما الوزير الشرق اوسطي الاخر، فقد احترم جيبه وأرسل مرافقه الدبلوماسي لغرض المجاملة والاطلاع. فرح الدبلوماسي في بداية الامر بهذا التكليف، الا ان الذي فاجئه هي تلك السيارة (الكاديلاك) التي اصطفت امام الفندق لتصطحب الضيف الى مكان استقباله الحافل في متجر الماس نفسه الذي زاره من قبل وزير الدولة الثرية واغدق في شرائه للمجوهرات!!! نزل الدبلوماسي المسكين من حافلته وهو مفعم بالسعادة وكان باستقباله زمرة من موظفي متجر المجوهرات وهم يحملون باقات الورد يتقدمهم المدير التنفيذي واركان المتجر كافة ظانين انه الوزير نفسه!.

بدأت مراسم الزيارة بعرض المجوهرات على الضيف الزائر وكان رد محدثي هو بإظهار ابتسامته المجانية دون اظهار اي رغبة جدية في الشراء، وبعد برهة علم جميع من في المتجر ان الزائر هو ليس الوزير وان الرجل الشرق متوسطي هو مرافق دبلوماسي للوزير وقد جاء للاطلاع وللمجاملة الفارغة ليس الا!!! انقلبت حينها الابتسامات الى حزن غامر بين المستقبلين وانسحب الجميع وترك الضيف الزائر برفقة حارس المتجر الذي اصطحبه الى بوابة الخروج!!

يقول محدثي مواصلا كلامه، ان فأر الهزيمة اخذ يلعب في شرايينه في تلك اللحظات وهو يترك المتجر الذي غلقت ابوابه واقسامه كافة الا باب الخروج من غير عودة. ووصف لي حاله وهلعه من اي ركلة ربما تطيح به من الخلف في حينها!!!!عاد الدبلوماسي المسكين خائبا وهو محمل باللا شيء حاصداً ادراج الرياح باستثناء الهموم والخوف من الغنى والخواء ازاء مجاهيل الثروة في متجر السعادة، بعد ان تحنطت جديته في الشراء، لتنفرد به قوة واحدة في دواخله، كان جوهرها العبث الذي سار بحرية في مجرى دمه المتجمد!...

 توقفت سيارته الفخمة امام الفندق ووثب منها كالملدوغ، الا انه لم يغفل سماع تمتمة سائق حافلة (الكاديلاك) التي لم يفهم من كلماته الصينية شيء سوى ان لسان حاله يقول: يجب ان تخجل الحياة لانتسابكم اليها ممن لاتملكون شيء!!! فقلت لمحدثي، وما كانت اجابتك له؟ قال تمتمت بنفسي ايضا وقلت: ان الناس تخضع لقوة المال لا لقوة الشرف!!!

ختاما: تركنا حافلتنا انا والسيدة التي هي برفقتي في قلب الحي الصيني، بعد ان طوانا الجوع الذي غلب همنا في هذه اللحظة، وانتهينا في اقرب مطعم شعبي لتناول سندويجات سريعة مادتها السمك يشتهر بإعدادها العالم الصيني كافة، حيث اكتظ مطعمنا بأمة من المستطرقين والسائحين وهي تماثل سندويج (الفلافل) من حيث المبدأ في عالمنا العربي، فهي طيبة المذاق ورخيصة الثمن!

قلت في سري، انه المكان المناسب لكي يشبع اولئك ممن افرغت جيوبهم وخوت بطونهم، وانه في نسيان الماضي يطمئن الحاضر. وسيظل متجر الماس ملاذاً للأغنياء دون غيرهم، طالما هم متخمين بأرزاق الناس، وان ذباب البشر لايقترب من اقراطهم الماسية اللامعة ليلثمها بنظرات حتى وان كانت مغلفة باللا شيء والعفوية!

اضف تعليق