قوة المسلمين الهائلة، هو حينما يلتزمون بالقوة الناعمة للإسلام، وعناصر القوة الناعمة في الإسلام، هي تشريعات خالدة ومطلوبة من الإنسان المسلم في كل الأحوال والظروف.. والدفاع عن الإسلام في ثوابته ومقدساته، لا يمكن أن يتم بممارسة السلوك النقيض لقيم الإسلام، بل بالالتزام بالإسلام قولا وفعلا.. فقتل الخصوم...

أسئلة الراهن وآفاق الخروج

في خضم الصراعات والنزاعات الكبرى التي تعاني منها البشرية اليوم. وفي ظل الحروب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تنتاب العديد من مناطق العالم البشري. من الضروري أن نتساءل: كيف لنا في هذا الجو المحموم، أن نبدع ثقافة حوارية، تساهم في تطورنا الروحي والإنساني والحضاري. كيف لنا أن نطور ثقافة البناء والإصلاح في عالم يمور بالنزاعات والحروب. 

ونحن حينما نتساءل هذه الأسئلة المحورية، لا نجنح إلى الخيال والتمني، ولا نتجاوز المعطيات الواقعية، وإنما نرى أن الخروج من نفق الحروب والنزاعات ومتوالياتهما النفسية والاجتماعية، لا يتم إلا بتوطيد أركان ثقافة الإصلاح والحوار والتوازن. ولا بد من إدراك أن هذه الثقافة، ليست حلاً سحرياً للمشكلات والأزمات، وإنما هي الخطوة الأولى لعلاج المشكلات بشكل صحيح وسليم. 

فالعنف المستشري في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن مقابلته بالعنف، لأن هذا يدخل الجميع في أتون العنف ومتوالياته الخطيرة. ولكن نقابله بالمزيد من الحوار والإصلاح في أوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم بشكل أو بآخر في تغذية قوافل العنف والقتل والتطرف بالمزيد من الأفكار والتبريرات والمسوغات. 

فالاختناقات المجتمعية، تؤدي لا شك إلى بروز حالات من العنف ومظاهر الانحراف والجريمة. وعلاج هذه المظاهر، لا يتم إلا بعلاج البيئة التي أخصبت هذه المظاهر، وهي بيئة مغلقة، تصادمية، تشاؤمية، ذات نسق تعصبي. 

فالتعصب يؤدي إلى العنف، والتزمت يفضي إلى الانغلاق والانطواء والانحباس. ولا علاج إلى العنف إلا بتفكيك نظام وثقافة التعصب، ولا علاج إلى التزمت إلا بالمزيد من الحوار، ونبذ الأحكام المطلقة، وتأسيس قواعد موضوعية للتعارف الفكري والمعرفي. وهذا يجعلنا نؤكد في هذه الخاتمة على النقاط التالية: 

1- ثقافة سياسية جديدة: 

إن التحولات الكبرى التي تجري في العالم اليوم، تؤكد على ضرورة بلورة ثقافة سياسية جديدة، ترى في الحوار جسر الوفاق الوطني، وإن السلم الأهلي والمجتمعي، هو مستقبلنا الذي ينبغي أن تسعى كل التيارات والوجودات إلى إنجازه، وإنضاج الظروف المؤدية إليه. 

فالمصالحة السياسية التي ندعو إلى إرساء قواعدها الحضارية، وتوفير ظروفها الذاتية والموضوعية، بحاجة دائماً وفي كل المراحل إلى ثقافة سياسية جديدة، تمارس عملية القطيعة المعرفية والمرجعية مع ثقافة التعصب والإقصاء والنبذ والعنف، لتؤسس نمطا ثقافيا سياسيا جديدا، يأخذ من قيم الحرية والمسؤولية وحقوق الإنسان كرامته، الإطار المرجعي لهذا النمط. 

ولا بد أن ندرك في هذا الإطار، أن الثقافة السياسية الجديدة، لا تبنى في لحظة زمنية واحدة، وإنما هي بحاجة إلى عملية تراكم معرفي ومجتمعي، حتى تتشكل تلك الثقافة السياسية الجديدة، التي نراها ضرورية للمصالحة السياسية المنشودة. وذلك لأن "الفكر والثقافة ليسا بنية معرفية مغلقة تتناسل معطياتها بينها كالفطر، بل هو يمثل مستوى من مستويات (أو لحظة من لحظات) التعبير عن المحيط الواقعي والتاريخي. 

وبالتالي، فالأفكار لا تكتسب قيمتها من نفسها مجردة، بل من قدرتها على تمثيل اللحظة التاريخية، والتعبير عنها، والمساهمة في تغييرها ثورياً". (راجع: العولمة والممانعة - دراسات في المسألة الثقافية - عبد الإله بلقزيز - ص83-82) 

ودواعي ومسوغات بناء ثقافة سياسية جديدة في المجالين العربي والإسلامي عديدة، ولعل من أهمها حالة الإخفاق التي لحقت بالمشروعات الفكرية والسياسية المتداولة في الفضائين العربي والإسلامي. وذلك لأن الكثير من عناصر الثقافة السياسية السائدة، مستمدة من تلك المشروعات. وإخفاق هذه المشروعات، لا شك يدفعنا إلى ضرورة مراجعة هذه الثقافة، والعمل على بناء حقائق سياسية نظرية وعملية جديدة، تتجاوز عوامل الإخفاق الذاتية والموضوعية في تلك المشروعات. كما أن استيعاب التحولات الكبرى، ومعرفة رهانات العمل الجديدة على المستويين الإقليمي والعالمي، بحاجة إلى تجديد الثقافة السياسية، والوعي السياسي والحضاري، حتى يتسنى للعالمين العربي والإسلامي من تجاوز عوامل الفشل والإخفاق، وامتصاص نقاط القوة، وفهم محركات وآليات العمل الجديدة. 

2- تنظيم العلاقة بين الثقافي والسياسي: 

لعل من المداخل الأساسية لنهوض الأمة في هذا العصر، وللخروج من المآزق الحضارية والمجتمعية التي يعانيها راهننا وواقعنا، هو تنظيم العلاقة بين الثقافي والسياسي، وذلك من اجل الاستفادة من كل الطاقات في سبيل البناء، ولمنع توترات وحروب تهدر طاقات الأمة في سياق الهدم والقطيعة مع مكونات الأمة المختلفة. فاستبداد السياسي يدفعه إلى العمل على إخضاع الثقافي إلى كل توجهاته وخياراته، مما يلغي فعالية الثقافي على مستوى المعرفة والمجتمع. كما أن نرجسية الثقافي في بعض الأحيان، تدفعه إلى التخلي عن الساحة الاجتماعية، والانعزال عن خيارات الأمة بدعاوى وتبريرات مختلفة. مما يجعل الساحة حكراً للسياسي ومشروعاته المميتة لروح الأمة. وقد عانت الأمة خلال العقود الماضية، من الكثير من النزاعات والحروب والتوترات، جراء العلاقة السيئة بين السياسي والثقافي في المجالين العربي والإسلامي. 

لذلك نرى أن أحد العوامل الرئيسة، للخروج من واقعنا المأزوم، تنظيم العلاقة بين حقلي السياسة والثقافة في تجربتنا الإسلامية المعاصرة. 

وفي البدء ينبغي أن ندرك أنه ليس في مقدور أحد، إلغاء قانون التدافع الاجتماعي بين جميع القناعات والمكونات. لذلك فإن المطلوب تنظيم هذا التدافع بحيث يكون في سياق البناء والعمران الحضاري، لا في سياق النزاعات الهدامة والحروب العبثية. 

إن معيار القوة هو الذي يحكم علاقة السياسي بالثقافي. بمعنى أن السياسي بما يمتلك من قوة وأدوات للفرض والقهر والتخويف، فهو يمارس دور الإخضاع لكل ما عداه. وسيبقى هذا النمط من العلاقة مسيطراً بين السياسي والثقافي، ما دام الأخير لا يمتلك عناصر قوة ووقائع مجتمعية تساند خياراته وتدافع عن انشغالاته. 

لذلك نرى أن بوابة تنظيم العلاقة بين السياسي والثقافي في تجربتنا المعاصرة، هي أن يمتلك الثقافي مقومات الاستقلال ومكونات القوة ووسائل للتأثير بشكل مباشر. 

فوحدها القوة (بالمعنى الحضاري) للثقافي، هي القادرة على تنظيم العلاقة مع السياسي. وذلك عبر الوصول إلى مستوى من توازن القوة بين الطرفين، يدفع هذا التوازن ومتوالياته المجتمعية، إلى إعادة النظر في طبيعة العلاقة السائدة، وذلك من منطلق واقعي - مصلحي، بحيث لا يمكن لأي طرف من إلغاء الطرف الآخر من الخريطة الاجتماعية. 

هذا في تقديرنا هو الطريق الواقعي، لتنظيم العلاقة بين السياسي والثقافي في تجربتنا المعاصر. وبدون بناء القوة الحضارية للثقافي، ستبقى العلاقة بينه وبين السياسي، إما علاقة توتر وتأزم ونزاع، أو علاقة إخضاع وتبعية وإذلال. وكلتا العلاقتين تفضيان إلى توتر الأوضاع الاجتماعية وتأزم الحالة السياسية، والدخول في حروب جانبية، مما يعرقل مسار النهوض الحضاري في الأمة. 

وأزمة المثقف والسلطة في التجربتين العربية والإسلامية المعاصرتين، مرآة لأزمة الثقافي مع السياسي في واقعنا الراهن. وستبقى هذه الأزمة، تأخذ أشكالاً مختلفة، ما دام الثقافي هامشياً وبعيداً عن مكونات القوة الحضارية.

3- عقد اجتماعي - سياسي جديد: 

إن طبيعة العلاقة المأمولة بين السلطة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، تتطلب العمل والسعي الجاد لتأسيس عقد اجتماعي-سياسي جديد بين الطرفين، يحافظ على حقوق كل طرف، ويبلور ويحدد واجباتهما ومسؤولياتهما أيضاً. 

وهذا العقد الاجتماعي-السياسي هو الذي يحفظ مصالح الجميع، وهو المرجعية العليا لكلا الطرفين. فمفتاح الخلاص للعديد من التوترات والأزمات، وجود عقد ينظم طبيعة العلاقة بين قوى الأمة ومؤسساتها المتعددة. ويحدد الأهداف المرحلية والإستراتيجية التي تسعى إليها قوى الأمة، وتبلور حقوق وواجبات كل قوة. 

ولاشك أن العقد الاجتماعي-السياسي، الذي نتطلع إليه، سيساهم في ردم الفجوة بين السلطة والمجتمع، وسيقرب من خياراتهما، وسيذوب العديد من الحجب التي تحول دون التفاعل المطلوب بين الطرفين. وهذا العقد المأمول، ليس وصفة جاهزة، وإنما ينبغي أن تسعى جميع قوى الأمة ومؤسساتها في إنشائه وبلورة عناصره وبنوده، وتوفير الأرضية الاجتماعية المناسبة لاحتضانه والدفاع عنه وتطويره. 

وجماع القول: إن تنظيم العلاقة بين الأمة والدولة في المجالين العربي والإسلامي، بحاجة إلى العديد من الجهود والإمكانات، وإلى ثقافة سياسية جديدة، تأخذ على عاتقها تعبئة جماهير الأمة من جديد ووفق أهداف واضحة وأساليب ممكنة وحضارية. وإلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية والثقافية، بحيث نصل إلى مستوى حضاري يحكم علاقة السياسي بالثقافي والعكس. 

كما أن تنظيم العلاقة بحاجة إلى عقد اجتماعي-سياسي جديد، يستوعب جميع التحولات، وينصت إلى جميع التطلعات والطموحات، ويخلق آليات عمل جديدة، تترجم جميع التطلعات الإنسانية إلى وقائع قائمة وحقائق محسوسة. 

إننا نعيش في زمن الأسئلة الصعبة والحسابات الدقيقة والمعقدة، لذلك ينبغي أن لا ننجرف تجاه الأوهام، وإنما نحاول أن نبني قناعتنا ومواقفنا استناداً إلى الحقائق والوقائع القائمة، وذلك ليس من أجل الانحباس فيها أو الخضوع إلى السيئ منها، وإنما لكي تكون حركتنا ومواقفنا ووجهتنا منسجمة ومنطق التاريخ الإنساني. فالإنصات الواعي إلى تساؤلات الواقع وتحديات الراهن، يؤدي إلى نضج الخيارات وسلامة الإستراتيجيات، وذلك لأن هذا الإنصات هو الذي يؤدي إلى تحديد البداية السليمة لعملية الانطلاق في معالجة المشكلات وبلورة الحلول. 

إننا جميعاً مطالبون في ظل هذه الظروف الحساسة والخطيرة، بفتح عقولنا ونفوسنا على العصر وآفاقه، حتى تتكامل اهتماماتنا، ونزداد قدرة على اجتراح تجربتنا في البناء والتنمية والعمران الحضاري.

وبما أن هناك علاقة وطيدة بين منظومة الأفكار وطبيعة المشاعر والميول النفسية العامة. حيث أن الثقافة التي تختزن البغض والكراهية للآخرين، فإنها ستنعكس على مشاعر الأفراد والمجتمعات الملتزمة بتلك الثقافة. لذلك فإن المطلوب باستمرار تنقية الموروث الثقافي لكل مجتمع وأمة، والعمل على إزالة وطرد كل العوامل والأسباب التي تدعو إلى العداء الذاتي أو ممارسة أشكال الإقصاء والتهميش للآخرين. وعملية التنقية المطلوبة، ليست عملية سلبية فقط مهمتها طرد عناصر الكره والبغض في الثقافة، بل هي عملية إيجابية أيضا تستهدف تعميق أسس ثقافة الانفتاح والتسامح والمحبة والألفة، وتكريس مقتضياتهما في البناء الاجتماعي.

 إذ إننا نرى أن المسؤول عن العديد من ظواهر الكراهية وحالات التهميش والإقصاء، هي تلك الثقافة التي تسوغ لأبنائها هذه الممارسات والسلوكيات. ولا وقف لها إلا بتغيير الثقافة ومناهج التثقيف والتربية التي تكرس هذه العقلية، وتوفر لها التبريرات اللازمة. إننا بحاجة إلى ثقافة تحتضن الجميع كما تعبر عنهم جميعا، وتغرس في نفوس الناس وعقولهم حب الناس وضرورة خدمتهم والتحلي بالأخلاق الفاضلة والسلوك القويم في التعامل معهم. هذه الثقافة هي التي تعمق خيار المحبة في المحيط الاجتماعي. أما الثقافة التي تصنف الناس، وترتب مواقفها التفاضلية بين الناس على قاعدة ذلك التصنيف، فإنها تعمق الإحن وتزرع الأحقاد وتطمس كل نوازع الخير في النفس الإنسانية.

 لذلك فإن المطلوب دائما، هو تنقية الموروث الثقافي لكل مجتمع، ورصد مظاهر الانحراف والزيغ في هذه الثقافة، ومن ثم العمل على إخراج كل ما يسئ التفاضلية بين الناس على قاعدة ذلك التصنيف،. لذلك فإن المطلوب دائما، هو تنقية الموروث الثقافي لكل مجتمع الناس من التداول والتأثير. وهذه مسئولية كبرى، تتطلب تظافر كل الجهود والإمكانات في سبيل بلورة ثقافة اجتماعية ووطنية تعمق خيار المصالحة والوئام، وتحارب كل أشكال التمييز والتهميش بين البشر.. 

العرب ومتطلبات الثقافة السياسية الجديدة

عديدة هي الدوافع والمعطيات التي تدفعنا إلى القول: إن هناك ضرورات ذاتية وموضوعية قصوى لتنمية ثقافة سياسية-ديمقراطية جديدة في المجالين العربي والإسلامي، تتجاوز كل عناصر التخلف والانحطاط والاستبداد العالقة في الثقافة السياسية السائدة. 

وذلك لأنه لا يمكن الخروج من مآزق الراهن والتفاعل الإيجابي مع مكاسب الحضارة، بدون ممارسة قطيعة معرفية وسياسية مع ثقافة التخلف والاستبداد وتقاليدهما. وذلك لأنها هي المسئولة عن عرقلة الكثير من مشروعات التقدم والحرية في الأمة. 

فالاستبداد السياسي الجاثم على صدر الأمة، هو الذي يعرقل انطلاقتها الحضارية الجديدة، وهو الذي يكبل الأمة بالمزيد من الكوابح التي تحول دون التقدم والتطور السياسي والحقوقي والحضاري. من هنا تتشكل الحاجة الماسة إلى تفكيك ثقافة الاستبداد والديكتاتورية في الفضاء الثقافي والسياسي العربي، وبناء فكر وثقافة سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وصيانتها. 

ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن المسئول الأول عن إخفاقات الأمة المتتالية في كل حقول الحياة، هو الاستبداد والاستئثار بالرأي والقرار والاستفراد بالسلطة. 

وذلك لأن الاستبداد بمتوالياته العديدة والخطيرة، هو الذي يؤسس للفشل والإخفاق، ويشرع للهزيمة والانكسار. فحيثما كان هناك استبداد سياسي. توافرت كل موجبات الإخفاق والهزيمة. بل لا يكتفي فعل الاستبداد بذلك، بل يحاول إسقاط كل عناصر القوة في الأمة، وذلك من أجل ضمان ديمومة استبداده واستمرار ديكتاتوريته. 

لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع التقدم في المجالين العربي والإسلامي، هو نبذ الاستبداد وتفكيك ثقافية وموجباته، ودحر مبرراته، ومقاومة رجاله ومؤسساته. وبدون إزالة الاستبداد السياسي، ستبقى كل التطلعات مجردة، وكل الأعمال والأنشطة بدون أفق حقيقي. 

من هنا ينبغي أن تتجه كل الجهود والطاقات لمقاومة الاستبداد، وإرساء معالم وحقائق سياسية - اجتماعية جديدة تستند إلى قيم الديمقراطية والشورى والتداول السلمي للسلطة. وهذا بطبيعة الحال، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تتجه إلى صياغة العقول وبناء الحقائق على هدي هذه الأسس والمرتكزات. 

فالاستبداد هو أم الرذائل كلها، ولا خيار أمامنا إذا أردنا الأمن والتنمية والاستقرار، إلا التحول نحو الديمقراطية وبناء أنظمتنا السياسية والتربوية والثقافية على أسس الديمقراطية والمشاركة وحقوق الإنسان. 

فالاستبداد بمتوالياته وتأثيراته المتواصلة، هو الذي أوصل العديد من المناطق والدول في المجالين العربي والإسلامي إلى دوامة العنف والقتل المجاني. وذلك لأنه (الاستبداد) هو الذي يغذي مصادر العنف وينشط حركة الصراع السلبي في المجتمع. وهو الذي يشرع في كل الأحوال إلى ممارسة القهر والقوة في العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية. فالاستقرار لا يتحقق بالإرغام والإكراه المتعسف، بل بالرضا والمشاركة والتوزيع العادل للثروات وتكافؤ الفرص. 

و"الاستبداد أو الطغيان (Tyranny) يمكن تعريفه على أنه ذلك الإكراه الذي تمارسه سلطة ليس لها الحق في استعمال القوة، أو حتى سلطة شرعية تتجاوز القيود والحدود في استعمالها. والإرغام (أو الإكراه) الذي (قد) تمارسه السلطة المستبدة هو عادة إرغام يمكن تجنبه (أو تجنب القسط الكبير منه) من ناحية، ويتعذر التنبؤ به (في أغلب الأحيان) من ناحية أخرى. أما ضحيته الأولى فواضحة وجلية: الفرد وحريته. ومن الشرور البارزة لهذا الإكراه الاستبدادي أنه يلغي الفرد كشخص مفكر ومقيم ويجعله مجرد أداة لتحقيق أهداف الآخرين. فهو مرغم على التصرف وفق خطة حياة ليست له. وعلى خدمة أهداف لا تخصه. والاستبداد، دون أدنى شك، من الممارسات الملازمة لأي نظام ديكتاتوري أو قل، لأي نظام حكم مطلق". 

والاستبداد كثقافة وممارسة لا تتوقف فقط عند طبيعة وآليات صنع القرار السياسي وتسيير شؤون الدولة الكبرى، بل هي تتسرب إلى كل الحياة والتفاصيل. بحيث يكون الطابع الاستبدادي هو المسيطر على مختلف شؤون المجتمع وقضايا الوطن. وحاجتنا الطبيعية والإنسانية إلى الانضباط والنظام والوحدة، ينبغي ألا تقودنا إلى ممارسة الكبت والاستبداد. 

وذلك لأن هذه الممارسات لا تؤدي إلى الغاية المنشودة، بل على العكس من ذلك تماماً. حيث إن الكبت لا يصنع انضباطاً، والاستبداد لا يخلق وحدة، بل تشتتا وتداعياً مستمراً. فالاستبداد ليس هو الحل العبقري والحضاري لتلبية حاجات الإنسان المتعددة. بل هو حل العاجزين والجاهلين لسنن الاجتماع الإنساني. 

و"إن الدول الاستبدادية التي تبدو قوية للمراقبين في الخارج، كما بدا الاتحاد السوفيتي، وكما تبدو الصين نسبياً حتى الآن، هي في واقع الأمر دول ضعيفة من الداخل لا تجرؤ على الخيار الديمقراطي وعلى حمل جنين الديمقراطية في جوفها الضعيف والمريض. أما الدول القوية، فعلى ما نسمع عنها من مشكلات داخلية، فهي التي تواصل المسار الديمقراطي على رغم تلك المشكلات الداخلية، بل تحلها بالديمقراطية". 

حاجتنا إلى ثقافة سياسية جديدة: 

من المهم القول: إن عملية تأسيس ثقافة سياسية جديدة وبنائها، تتجاوز رواسب الانحطاط وموروثات الاستبداد السياسي، ترتبط بطبيعة الهدف أو الأهداف المتوخاة من هذه العملية. وعليه فإن الغاية المتوخاة من الثقافة السياسية الجديدة، هي إشاعة النمط الديمقراطي في الحياة العامة للعرب والمسلمين. بحيث تكون الديمقراطية كثقافة وآليات ووسائل ونظم، هي السائدة في الحياة السياسية وإدارة شؤون الدولة والسلطة، كما هي جزء حيوي في النسيج الاجتماعي والثقافي. 

فالثقافة السياسية الجديدة التي ننشدها ونتطلع إليها، هي تلك الثقافة التي تعزز التطور الديمقراطي والحقوقي في مجتمعاتنا، وتحول دون بروز السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية المفضية والمؤسسة إلى الديكتاتورية والاستبداد. 

إننا بحاجة إلى ثقافة سياسية تعزز الخيار الديمقراطي في صفوف المجتمع، وتعمل على تهيئة المناخ لرفض كل محاولات تكميم الأفواه والعودة بالمجتمع إلى الأنظمة الشمولية التي تلغي الإنسان وحقوقه، وتحارب كل محاولاته للتحرر والانعتاق من ربقة الاضطهاد والقهر السياسي والاجتماعي. 

ومحاولات الأنظمة الشمولية في رفع شعارات تقدمية لتعبئة المجتمع باتجاهها، دون خطوات عملية تترجم هذه المحاولات، أضحت عملية مكشوفة، ولا تثمر إلا المزيد من التوتر والاحتقان. لذلك فإن حاجتنا إلى ثقافة سياسية جديدة، تتكثف في النقاط التالية: 

1- بناء الوعي الاجتماعي والسياسي على أسس العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتجاوز كل أشكال الوعي الاجتماعي والسياسي المشوه. الذي يبرر استخدام القهر ويسوغ ممارسة الاستبداد ويقبل بتأجيل مشروع حقوق الإنسان وامتهان كرامته. 

إننا لا نبالغ حين القول: إن الذي ساعد بشكل مباشر في تغول الأنظمة الاستبدادية-الشمولية في العديد من دولنا ومجتمعاتنا، هو الوعي الاجتماعي والسياسي المشوه، الذي لم يتعامل بفعالية وصدق مع مشروع الديمقراطية وحقوق الإنسان. 

إن هذا الوعي الممسوخ الذي يرحب بالاستبداد السياسي ما دامت السلطة في يده، ويتجاوز عن كثير من الانتهاكات التي تتعرض لها الحريات السياسية وحقوق الإنسان، هو أحد المسئولين المباشرين عن تردي أوضاعنا وتدهور استقرارنا السياسي. 

وحاجتنا إلى الثقافة السياسية الجديدة، تنبع من حاجتنا إلى بناء وعي اجتماعي وسياسي جديد، يمارس القطيعة بكل مستوياتها مع الديكتاتورية والاستبداد وكل مسوغات تعطيل مشروع الحريات السياسية والديمقراطية الشاملة. ويبني هذا الوعي الجديد حقائق العدالة والمساواة وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة واحترام حق التعبير والاختلاف، وصياغة واقعنا كله وفق مقتضيات الديمقراطية وحقوق الإنسان. 

2- إن الديمقراطية كبنية وآلية وممارسة، ترتكز على مفهوم المشاركة السياسية. إذ لا يمكن أن تبنى الديمقراطية في أي بيئة اجتماعية، بدون مشاركة سياسية-مجتمعية فاعلة. 

إذ إن مستوى المشاركة هو الذي يحدد مستوى الديمقراطية، كما أن توسع دائرة المشاركة السياسية في الفضاء الاجتماعي، هو أحد التعبيرات المهمة على الوعي الديمقراطي في المجتمع. 

لذلك كله فإننا بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تدفع المجتمع وتحفزه بكل فئاته وشرائحه وأجياله إلى المشاركة السياسية وشؤون إدارة الشأن العام. من هنا فإن حاجتنا إلى الثقافة السياسية الجديدة، بمستوى حاجتنا إلى الديمقراطية والحريات السياسية. وذلك لأنه لا يمكن إنجاز ديمقراطية في بنائنا الاجتماعي والسياسي من دون مشاركة الناس. 

ووسيلتنا الحضارية لتحفيز الناس للمشاركة في هذا المضمار، هو خلق ثقافة سياسية جديدة، تدفعهم بشكل ذاتي-دينامي إلى تحمل المسؤولية العامة والمشاركة بحيوية وفعالية في الشأن السياسي العام. 

"والثقافة السياسية الجديدة التي تفترضها استراتيجية الانتقال الديمقراطي هي -باختصار- الثقافة التي تحمل النزعة النسبية في وعي السياسة والمجال السياسي محل النزعة الشمولية (أي التوتاليتارية)، وتحمل التوافق والتراضي، والتعاقد، والتنازل المتبادل، محل قواعد التسلط، والاحتكار، والإلغاء.... إلخ، فتفتح المجال السياسي -بذلك- أمام المشاركة الطبيعية للجميع. وتفتح معه السلطة أمام إرادة التداول السلمي عليها. هذا يعني أن في قاع هذه الثقافة السياسية النظري مفهوماً مركزياً تأسيسياً للسياسة والسلطة: إنهما - معا بحسبها - ملكية عمومية للمجتمع برمته يلتقي معها أي سلم معياري تتوزع بموجبه أقساط ومستحقات السياسية والسلطة على قواعد الامتياز أو الأفضلية أو ما في معناها من أسباب السطو على الرأسمال الجماعي السياسي. 

وغني عن البيان أن مفهوم السياسة والسلطة، بهذا المعنى، يعيد تعريف الشرعية السياسية بوصفها تلك التي تتحصل برضا الشعب وحرية اختياره، من حيث هو مصدر السلطة والتشريع في النظام المدني الحديث، وليس بوصفها حاصل امتياز ما: عرقي، أو فئوي، أو ثيولوجي، أو أيدلوجي... إلخ". 

3- إن كثيراً من التناقضات والتوترات السياسية والاجتماعية الداخلية، لا يمكن معالجتها بدون ثقافة سياسية جديدة، تؤسس لنمط جديد من العلاقة والتواصل بين مكونات المجتمع وقواه قوامها التسامح والحرية وسيادة القانون وقيم حقوق الإنسان. فكثير من مشكلات الداخل في المجالين العربي والإسلامي، بحاجة إلى رؤية وحلول جديدة، تتجاوز النمط التقليدي في معالجة هذه المشكلات. فأزمات السلطة وعلاقتها بالمجتمع وتعبيراته المتعددة وطبيعة الموقف من التعدد والتنوع المذهبي والقومي والعرقي المتوافر في العديد من المجتمعات، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تعيد صياغة العلاقة وعلى أسس جديدة بين السلطة والمجتمع، كما أنه لا يمكن تجاوز معضلات التمييز الطائفي والعرقي والقومي، بدون ثقافة سياسية، تعيد إلى التنوع كينونته ومتطلباته، وترسي دعائم المواطنة وأسس الوحدة وفق رؤية وثقافة لا تلغي الخصوصيات الثقافية لكل فئة أو شريحة في المجتمع والوطن، دون أن تشرع إلى الانكفاء والإنحباس في الذات. 

من هنا فإن إعادة بناء أسس الثقافة السياسية في المجالين العربي والإسلامي، وبناء أنماط جديدة للعلاقة بين مختلف مكونات المجتمع والوطن على أسس الحرية والعدالة من المداخل والروافد الأساسية لبناء واقع ديمقراطي وسياسي جديد. 

فالثقافة السياسية الجديدة هي الإطار الضروري لتمكين أفراد المجتمع من ممارسة وظائفهم العامة والقيام بمسؤولياتهم السياسية. وتنظيم العلاقات بين تنوعات المجتمع تنظيماً حضارياً وبعيداً عن الصراعات والحروب المفتوحة. 

4- إن الإصلاح السياسي الذي تتطلع إليه الشعوب العربية والإسلامية اليوم، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تبلور تطلعات الإصلاح السياسي، وتنضج المضامين السياسية والمجتمعية لعملية الإصلاح السياسي. وبالتالي فإن الثقافة السياسية المنشودة هي التي تساهم في إنضاج الشروط الاجتماعية والثقافية والسياسية للانخراط في مشروع الإصلاح السياسي. 

فالقطع المعرفي والعملي مع حقائق التسلط والهيمنة وموجبات احتكار السلطة والقرار والرأي وانتهاك حقوق المواطنين وإرادتهم، بحاجة إلى رؤية سياسية جديدة وثقافة مجتمعية ودستورية، تأخذ على عاتقها بلورة برنامج وطني متكامل للإنعتاق من كل أشكال الاستبداد السياسي وموجباته، والانخراط الفعلي في بناء حياة سياسية جديدة للمجالين العربي والإسلامي على قاعدة الديمقراطية وحقوق الإنسان. 

إننا في العالم العربي والإسلامي اليوم، بحاجة إلى ثقافة سياسية تعيد تنظيم أولياتنا السياسية وتصيغ علاقات مكوناتنا بعضها مع بعض على أسس الحرية والعدالة، وتولي اهتماماً خاصاً وحيوياً لمسائل التنمية والتعايش الأهلي والمواطنة الدستورية. وتدعم سياق التحديث السياسي القيمي والمؤسسي الذي يتطلب القبول القانوني بالتعددية وتشكيل الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية والتشكيلات النقابية وضمان المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين. 

وبكلمة: إننا بحاجة إلى ثقافة سياسية تنسجم ومتطلبات الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية وقيم الحوار والتسامح وحقوق الإنسان. 

إننا بهذه العناصر والقيم الأساسية، نتمكن من تجديد حياتنا السياسية وتجاوز تحديات المرحلة والانطلاق من إمكانات الواقع وممكناته لبناء واقعنا الوطني على هدى هذه القيم ومقتضياتها الثقافية والمؤسسية.

العالم العربي وأوليات الثقافة السياسية

 من الطبيعي القول: أن العالم العربي اليوم بكل دوله وشعوبه، يعيش تحديات عديدة ومتنوعة، ولا يمكن مواجهة هذه التحديات إلاّ بتطوير الثقافة السياسية العربية، وذلك حتى يتسنى للعرب دولاً وشعوباً من مجابهة التحديات والاستجابة لها على نحو حضاري. 

والثقافة السياسية التي نتطلع أن تسود فضاءنا الوطني والقومي والإسلامي، لها أجندة وأولويات، تسعى إلى التركيز عليها وإعطائها الأولوية على مستوى المعرفة والموقف. 

وهذه الأولويات هي التالي: 

1- الحريات السياسية: لقد أبانت تطورات المنطقة وتحولاتها المتلاحقة، أن الداء العضال الذي يعاني منه جسم الأمة، ويساهم في تدهور أوضاعها وانحطاط أحوالها. هو داء الاستبداد والاستفراد بالحكم والسلطة. إذ أن العديد من الإخفاقات والتوترات التي تعيشها المنطقة اليوم وفي مختلف المجالات، هي جراء سياسات وتأثيرات أنظمة شمولية-استبدادية، تمارس القهر والإقصاء تجاه شعبها، وتحول بكل الوسائل لمنعه من ممارسة حريته ونيل حقوقه. 

إن هذه الأنظمة بسياساتها وخياراتها الداخلية والخارجية، هي المسئول الأول عن تردي أوضاعنا وتدهور أحوالنا في مختلف المجالات. وإن الخطوة الأولى في مشروع التحرر من هذه الظروف والأحوال السيئة. هو بناء ثقافة وواقع سياسي جديد، يعتبر الحريات السياسية للمواطنين بصرف النظر عن أصولهم القومية أو العرقية أو منابتهم الدينية والمذهبية من أوليات الأعمال التي ينبغي أن تتوجه جميع الجهود إلى بلورة الإطار النظري الذي يؤكد على هذه الحقيقة، ويعمل على إنضاج الشروط المجتمعية التي تدفع باتجاه تبني خيار الحريات السياسية أولاً ودائماً. 

إن المجال العربي والإسلامي اليوم، بحاجة إلى ثقافة سياسية، تؤسس لقيم الحرية والشورى والديموقراطية، وتعطي الأولوية لبناء واقع اجتماعي وسياسي يقبل الالتزام بكل مقتضيات ومتطلبات الحريات السياسية في الواقع الاجتماعي. 

فبمقدار ديمقراطية ثقافتنا السياسية وإصرارها على الحريات الأساسية للفرد والمجتمع، نتمكن من معالجة العديد من مآزق رهاننا وتوترات مجتمعنا. وذلك لأن هذا المضمون الديمقراطي لثقافتنا، سيمارس دوره في صناعة رؤية جديدة لمعالجة أزمات الواقع، وسيعيد تنظيم العلاقة بين مختلف القوى والتعبيرات على أسس العدل والإنصاف والمساواة. وذلك لأنه "تفرض ديمقراطية الثقافة السياسية تحقيق المساواة وإتاحة المشاركة في العملية السياسية أمام أفراد المجتمع بغض النظر عن الاختلافات العقائدية أو الدينية أو اللغوية أو السلالية بين هؤلاء الأفراد. والديمقراطية تفرض المساواة بحكم التعريف. وإسباغ الطابع الديمقراطي على الثقافة السياسية المحلية قد يتم في سياق ضغوط عملية التحديث، وما تفرضه من تأكيد لدور العقل والعمل الفعال للإنسان وكثيراً ما تثار التحفظات في هذا الشأن على أساس أن هذا قد يؤدي إلي النيل من القيم الروحية والتراث الثقافي للمجتمع النامي وان القيم الروحية لهذه المجتمعات يجب أن تكون هي المنطلق لتحقيق الديمقراطية".. فمن الأولويات القصوى التي ينبغي أن تتجه الثقافة السياسية إليها في مجالنا العربي والإسلامي، هي الحريات السياسية. وذلك من أجل أن تتشكل الإرادة المجتمعية المطالبة بها والمدافعة عن متطلباتها. 

2- حقوق الإنسان: حين التحليل العميق والتأمل المتواصل في أسباب الاستقرار السياسي وعوامل الانسجام الاجتماعي الذي لا يلغي الفعالية والدينامية. نكتشف أن توفر قيم حقوق الإنسان في الفضاء الاجتماعي من العوامل الرئيسية لعملية الاستقرار السياسي والانسجام الاجتماعي. حيث أن المجتمع الذي تتوفر فيه حقائق ومتطلبات حقوق الإنسان وتصان فيه كرامة الإنسان، هو المجتمع الذي يتمتع باستقرار متين وانسجام صلب. أما المجتمع الذي تهان فيه كرامة الإنسان، ويمارس النظام السياسي فيه كل ألوان وأشكال التجاوز لحقوق الإنسان، فإن هذا المجتمع يعيش الإضراب وتتوفر في فضائه كل عوامل وأسباب الفوضى على الصعد كافة. لذلك فإن من الطرق الأساسية لتعزيز خيار الاستقرار السياسي والاجتماعي في فضائنا الوطني والقومي، هو العمل على صيانة حقوق الإنسان بكل مستوياتها، وتوفير كل ما من شأنه احترام هذه الحقوق، التي هي بمثابة الضرورات في حياة الإنسان الفرد والمجتمع. 

من هنا فإن الثقافة السياسية، من الأهمية، أن تتجه إلى الإعلاء من شأن هذه القيم-الحقوق، وتسعى نحو تربية أبناء المجتمع على مقتضياتها. فكلما تعزز هذا الواقع في فضائنا، توفرت عوامل الاستقرار وأسباب الانسجام. وهذا بطبيعة الحال، بحاجة إلى نبذ كل الموروث الثقافي والسياسي والاجتماعي المضاد والمناقض لحقوق الإنسان وقيمه الأساسية. فكل رؤية تستهين بحقوق الإنسان أو تسوغ امتهانها، هي رؤية تزيد من الإرباك السياسي، وتساهم بشكل أو بآخر في عملية الاختراق الأمني والوطني.

 إنه آن الأوان بالنسبة لنا جميعاً ومن مختلف مواقعنا العمل على تعزيز قيم حقوق الإنسان في فضائنا السياسي والثقافي والاجتماعي، ومقاومة كل توجه أو إرادة تمتهن هذه الحقوق أو تستخف بمتطلباتها وشروطها. وإن استقرارنا السياسي وأمننا الاجتماعي والوطني اليوم، يتوقف إلى حد بعيد على قدرة الأنظمة السياسية في مجالنا العربي والإسلامي على اجتراح واقع سياسي جديد، يعلي من شأن حقوق الإنسان، ويتجاوز كل حقائق ومحاولات الامتهان الذي يتعرض لها الإنسان في ظل أنظمة شمولية - استبدادية ساهمت بسياساتها وخياراتها الداخلية في القضاء على الكثير من حقائق وقيم حقوق الإنسان. لذلك فإن من الأولويات الأساسية لثقافتنا السياسية المطلوبة، هي العمل على تعميق وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان، ودفع قوى المجتمع وتعبيراته الحية إلى احترام وصيانة هذه الحقوق. 

3- بناء القوة الحضارية: ثمة حقيقة أساسية يكشفها المشهد السياسي المعاصر، وهي: أن الشعارات واليافطات الكبرى المجردة، لا تصنع واقعاً جديداً، ولا تغير واقعاً سيئاً. وإن استرسالنا في إطلاق الشعارات ورفع اليافطات، لا يغير من أوضاعنا شيئاً. لذلك فإن العمل الحيوي والهام، هو الذي يتجه إلى بناء القوة الحضارية للمجالين العربي والإسلامي. القوة التي لا تنحصر في جانب واحد، بل هي قوة شاملة وتستوعب القدرات العملية والقوة الاقتصادية والمادية والتطور السياسي والاجتماعي. 

من هنا فإن الثقافة السياسية المطلوبة، ليست هي الثقافة التي ترفع شعارات فضفاضة أو تحمل يافطات كبرى، وإنما هي الثقافة التي تنصب بوعي وحكمة لأسئلة الواقع وتتفاعل على نحو إيجابي مع إمكاناته وقدراته، وتسعى نحو خلق الحقائق والوقائع البديلة، في سياق العمل على بناء القوة الحضارية للعالمين العربي والإسلامي. 

فالتحولات الكبرى والحقيقية، لا تنجز بالشعارات المجردة، بل بالكفاح المتواصل في بناء الحقائق وتشييد القوة وتوطيدها في الواقع الاجتماعي والسياسي. 

ويخطئ من يتصور أن التغيير الاجتماعي، ينجز بالشعارات واليافطات، صحيح أن لهذه الشعارات الدور الأساسي في تعبئة المجتمع وتحشيد طاقاته، ولكن التحولات لا تتحقق بالتعبئة العاطفية، بل بالعمل الذي يستلهم من القيم الكبرى والأهداف العليا برنامج عمل وطني، يستهدف بناء القوة الحضارية والحقيقية للمجتمع. حيث إن القوة الحضارية وحدها، هي القادرة على إخراجنا من دهاليز الضعف والتردي. 

ولا ريب ان انخراط قوى المجتمع الحية في مشروع المطالبة بالديمقراطية وتعزيزها في الفضاء السياسي والاجتماعي، سيساهم بشكل كبير في رفد هذه الحركة بقوة إضافية حقيقية على المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية. 

وذلك لأنه "دفع الإسلاميون غرامات باهظة من حرياتهم، وحقوقهم، وكرامتهم، في سجون النظام العربي أسوة بغيرهم، ولذلك، من الطبيعي أن يعرفوا جيداً قيمة الحرية، وان يحرصوا عليها ضد الكبت والقمع والطغيان. لكن الأهم أنهم إذ اختاروا أن يضووا في مجرى الكفاح الديمقراطي الواسع، أدخلوا إلى ساحة هذا المعترك قوة جماهيرية ضخمة ذات ثقل في ميزان القوة، و- بالتالي - فقد عززوا من رصيد هذا النضال، وحسنوا من حالة التوازن التي كانت دائماً مختلة لصالح النخب الماسكة بالسلطة". 

وفي تقديرنا أن هذا الانخراط، سيضيف للواقع السياسي في الدائرتين الوطنية والإسلامية، العديد من عناصر القوة التي هي في المحصلة النهائية ذات إثر إيجابي وحيوي في مشروع التحول السياسي-الديمقراطي. 

ولقد أثبتت أحداث المنطقة وتطوراتها، أنه لا يمكن مقايضة الديمقراطية وحقوق الإنسان بأهداف وتطلعات أخرى. وذلك لأنه لا يمكن إنجاز تطلعات المجتمع والأمة إلاّ على قاعدة الديمقراطية وحقوق الإنسان. 

لذلك نقول وبشكل جازم، أن الديمقراطية بكل ما تحتضن من قيم الحرية وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة، هي حجر الأساس في مشروع التقدم والتطور السياسي والاجتماعي. وكل محاولات التقدم بعيداً عن الديمقراطية ومقتضياتها، فإن مآلها الأخير هو المزيد من تراكم الأخطاء والإخفاقات. 

فالإصلاح السياسي والحد من مظاهر الاستفراد بالقرار والسلطة، هو حجر الزاوية في مشروع الخروج من مآزق الراهن وتوتراته الصعبة.

احترام الإنسان

 ثمة حقيقة أساسية يبرزها النص القرآني، وهي أن الإنسان هو صانع حركة الحياة ضمن السنن الكونية والاجتماعية التي تمثل القوانين التي أودعها الله في الكون وفي حركة الإنسان في المجتمع. لذلك يقول تبارك وتعالى {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميعٌ عليم} (الأنفال، الآية 53). 

فالإنسان يتحرك في الحياة من خلال أفكاره، وحركة الأفكار هي التي تمثل حركة الحياة. لأن حركة الحياة هي صورة ما نفكر به. لذلك كله فإن التغيير الذاتي على مستوى الطبائع والأفكار والقناعات، هو قاعدة التغيير الاجتماعي والسياسي. فقضايا الاجتماع الإنساني لا تتغير وتتحول إلا بشرط التحول الداخلي-الذاتي-النفسي. 

فالتعاليم القرآنية واضحة في أن في هذا الكون وحياة الإنسان سنناً وقوانين، هي التي تتحكم في مسيرة الكون، كما أنها هي القوانين المسيرة لحياة الإنسان الفرد والجماعة. 

والإنسان في المنظور القرآني، هو نفحة ربانية استحقت التكريم الذي بوأها أعلى مرتبة في الوجود، أعني الاستخلاف في الأرض بصريح الآية القرآنية {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون) (البقرة، الآية 30). 

ومن أجل ذلك استحق الإنسان التكريم بقوله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} (الإسراء، الآية 70). 

وحتى يحقق الإنسان وظيفته على أحسن وجه كان كل ما في الوجود مسخراً لفائدته، وكان العالم مسرحاً لكل فعالياته بصريح آيات قرآنية عديدة منها قوله تعالى {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم} (الحج، الآية 65). 

والكائن الإنساني في الرؤية القرآنية، له القدرة والاستطاعة على ممارسة الحرية والاختيار. بمعنى أن الفعل الإنساني ليس خاضعاً لمقولات القسر والجبر، كما أنه ليس بعيداً عن قوانين الله سبحانه وأنظمته في الكون والمجتمع. بمعنى أن الباري عز وجل هو خالق أفعال الإنسان، لأنه بجميع أفعاله مخلوق الله، ولكن مع ذلك له استطاعة يحدثها الله فيه مقارنة للفعل. لذلك فإن الإنسان مكتسب لعمله، والله سبحانه خالق لكسبه. فالفعل الإنساني في مختلف دوائره ووجوده، هو خاضع لمنظومة من القيم والسنن والتي ينطلق الفعل الإنساني من خلال الالتزام بهذه المنظومة. فالإنسان ليس خالقاً لأفعاله، كما أنه ليس مجبوراً في أفعاله وإنما هو (لا جبر ولا تفويض وإنما أمر بين أمرين)..

 لذلك يقول تبارك وتعالى {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون} (القصص، الآية 68).. والله سبحانه وتعالى أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون، والله أعز من أن يكون في سلطانه مالا يريد.. فإرادة الله هي التي صنعت إرادة الإنسان. والإنسان هو الكائن الوحيد الذي اختار أن يكون قدره أكثر من إمكان واحد، وأوفر من احتمال واحد في الزمان والمكان. لهذا كله فإن احترام الإنسان وصيانة حقوقه من أعظم المهام والوظائف في حياة الإنسان في الوجود. فلا يصح بأي شكل من الأشكال أن الباري عز وجل يكرم الإنسان ويصون حرماته وحقوقه، ويأتي الإنسان ويمتهن حقوق الإنسان وكرامته. 

إن التوجيهات الإسلامية، تؤكد وبشكل لا لبس فيه، أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال انتهاك كرامة الإنسان أو التعدي على حقوقه ومكتسباته الإنسانية والمدنية. 

والاختلافات العقدية والفكرية والسياسية بين بني الإنسان، ليست مدعاة ومبرراً لانتهاك حقوقه أو التعدي على كرامته. بل هي مدعاة للحوار والتواصل وتنظيم الاختلافات وضبطها تحت سقف كرامة الإنسان وصون حقوقه. 

ولقد آن الأوان بالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين، إلى إعادة الاعتبار إلى الإنسان ومقاومة كل حالات التعدي على حقوقه ومكتسباته. فالاختلاف مهما كان شكله أو طبيعته، ليس مبرراً ومسوغاً لانتهاك حقوق الإنسان. فالخالق سبحانه وتعالى أكرم الإنسان، ودعانا وحثنا جميعاً وعبر نصوص قرآنية عديدة على احترام الإنسان بصرف النظر عن لونه أو عرقه أو فكره، وصيانة كرامته وحقوقه. 

والحرية بوصفها مصدر المسؤولية، لا تفضي بالكائن البشري إلى اختيار الحق والعدل والخير بالضرورة. بل تجعل الاختيار مفتوحاً على جميع الاتجاهات والاحتمالات. لذلك كان التاريخ البشري حافلاً باختيار الظلم والشر إلى جانب العدل والخير، وكان الإنسان مسؤولاً عن ذلك كله. أما الكائنات الأخرى، فليست مسؤولة عن ما يعرض لها أو بسببها لأنها ليست كائنات مختارة. 

فالباري عز وجل لم يخلق الإنسان خلقاً جامداً خاضعاً للقوانين الحتمية التي تتحكم به فتديره وتصوغه بطريقة مستقرة ثابتة، لا يملك فيها لنفسه أية فرصة للتغيير وللتبديل، بل خلقه متحركاً من مواقع الإرادة المتحركة التي تتنوع فيها الأفكار والمواقف والأفعال، مما يجعل حركة مصيره تابعة لحركة إرادته. فهو الذي يصنع تاريخه من خلال طبيعة قراره المنطلق من موقع إرادته الحرة، وهو الذي يملك تغيير واقعه من خلال تغييره للأفكار والمفاهيم والمشاعر التي تتحرك في واقعه الداخلي لتحرك الحياة من حوله. 

وهكذا أراد الله للإنسان أن يملك حريته، فيتحمل مسؤوليته من موقع الحرية. ويدفعه إلى أن يواجه عملية التغيير في الخارج بواسطة التغيير في الداخل، فهو الذي يستطيع أن يتحكم بالظروف المحيطة به، بقدر علاقتها به، وليس من الضروري أن تتحكم به. فالإنسان هو صانع الظروف، وليست الظروف هي التي تصنعه. وعليه فإن تطوير واقع الحرية في الحياة الإنسانية، يتوقف على الإرادة الإنسانية التي ينبغي أن تتبلور باتجاه الوعي بهذه القيمة الكبرى أولاً، ومن ثمَّ العمل على إزالة كل المعوقات والكوابح التي تحول دون الحرية. فالحرية في الواقع الإنساني لا توهب، وإنما هي نتاج كفاح إنساني متواصل ضد كل النزعات التي تعمل على إخضاع الإنسان وإرادته. سواء كانت هذه النزعات ذاتية مرتبطة بحياة الإنسان الداخلية، أو خارجية مرتبطة بطبيعة الخيارات السياسية والاقتصادية والثقافية، التي قد تساهم في إرجاء الحرية أو تعطيلها ووأد بذورها الأولية وموجباتها الأساسية.

وما دام الإنسان يعيش على ظهر هذه البسيطة، سيحتاج إلى الحرية التي تمنحه المعنى الحقيقي لوجوده. ولكي ينجز هذا المعنى، هو بحاجة إلى إرادة وكفاح إنساني لتذليل كل العقبات التي تحول دون ممارسة الحرية الإنسانية على قاعدة الفهم العميق لطبيعة عمل سنن الله سبحانه في الاجتماع الإنساني. ومن هنا ومن خلال هذه المعادلة التي تربط الوجود الإنساني برمته بالحرية والإرادة والمسؤولية، فإن الكدح الإنساني سيتواصل، والشوق الإنساني إلى الحرية والسعادة سيستمر، والاحباطات والنزعات المضادة ستبقى موجودة وتعمل في حياة الإنسان. لذلك فإن الوجود الإنساني هو عبارة عن معركة مفتوحة بين الخير الذي ينشد الحرية والسعادة والطمأنينة القلبية، والشر الذي لا سبيل لاستمراره إلا البطر والطغيان والاستئثار. 

ولكي ينتصر الإنسان في معركته الوجودية، هو بحاجة إلى الإيمان والعلم والتقوى، حتى يتمكن من هزيمة نوازعه الشريرة وإجهاض وتهذيب نزعات البطر والطغيان. 

ولا يخفى أن شعور الإنسان بالأمن والطمأنينة في الحياة هو الشرط الضروري لكي يقدم على العمل والإنتاج والتعمير في الأرض. ففي مناخ الأمن النفسي تنمو القدرات الذهنية وتتجه نحو الإبداع، وتنشيط القدرات الإنجازية وتتضاعف فعاليتها ويزكو إنتاجها. فإنسانية الإنسان في جوهرها وعمقها مرهونة بحرية الإنسان. إذ ان الحرية هي شرط إنسانية الإنسان. وحينما يفقد هذا الشرط، يفقد الإنسان مضمونه وجوهره الحقيقي. لذلك فإننا نرى أن احترام آدمية الإنسان، ومجابهة أي محاولة تستهدف انتهاك حقوقه الأساسية، هي الخطوة الأولى في مشروع تحقيق إنسانية الإنسان. فالإنسان بكرامته وحرماته وحقوقه، هو حجر الأساس في أي مشروع تنموي أو تقدمي. لذلك فنحن بحاجة دائماً إلى رفع شعار ومشروع صيانة حقوق الإنسان وكرامته بصرف النظر عن عرقه أو لونه أو قوميته أو ايدلوجيته.

المسلمون وقوتهم الناعمة

أصدر جوزف س ناي مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق في عام 1994 م كتابا أسماه (القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية).. تحدث فيه بتفصيل عن مفهوم القوة ودورها في السياسات الدولية والإقليمية.. وقسم مفهوم القوة إلى قسمين: القوة الصلبة أو الخشنة وهي مجموع المؤسسات العسكرية والأمنية المباشرة والقاهرة في آن.. 

والقوة الناعمة وهي شبكة العلاقات والإعلام والثقافة وكل عناصر التأثير على الآخرين بدون قوة خشنة مباشرة.. ويعتقد جوزف ناي أن ثمة متغيرات دولية واجتماعية وعلمية كثيرة، تدفع باتجاه أن تكون القوة الناعمة هي مصدر القوة الأساس لدى الأمم والشعوب المتقدمة.. ويشير في كتابه على (أن القوتين الصلبة والناعمة مترابطتان لأنهما معا من جوانب قدرة المرء على تحقيق أغراضه بالتأثير على سلوك الآخرين.. وما يميز بينهما هو الدرجة في طبيعة السلوك وفي كون الموارد ملموسة فالقوة الآمرة – أي القدرة على تغيير ما يفعله الآخرون – يمكن أن ترتكز على الإرغام أو على الإغراء.. أما قانون التعاون الطوعي – أي القدرة على تشكيل ما يريده الآخرون – فيمكن أن ترتكز على جاذبية ثقافة المرء وقيمه أو مقدرته على التلاعب بجدول أعمال الخيارات السياسية بطريقة تجعل الآخرين يعجزون عن التعبير عن بعض التفضيلات.. لأنها تبدو بعيدة عن الواقع أكثر من اللازم.. وتتدرج أنماط السلوك بين الأمر والتعاون الطوعي على مدى الطيف من الإرغام على الإغراء الاقتصادي، إلى وضع جدول أعمال، إلى الجاذبية المحضة.. وتميل موارد القوة الناعمة إلى الترابط مع طرف التعاون الطوعي من طيف السلوك، بينما تترابط موارد القوة الصلبة في العادة مع السلوك الآمر ولكن العلاقة غير كاملة).. 

ولو تأملنا في التجربة الإسلامية التاريخية، لكتشفنا بوضوح موقع ما يسمى اليوم بالقوة الناعمة في انتشار الدين الإسلامي ودخول الناس أفواجا في دين الله، بدون فرض وقهر، وإنما بفعل الجاذبية الأخلاقية والسلوكية.. وثمة نصوص قرآنية عديدة، تؤكد هذا المعنى، وتحث عليه، بوصفه الوسيلة الفعالة لنقل الآخرين من موقع الخصومة والعداء إلى موقع الصديق والمؤمن والمنتمي إلى ذات المنظومة العقدية والأخلاقية.. قال تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (سورة الحشر – الآية 9).. وقال عز من قائل (ادفع بالتي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (سورة فصلت – الآية 34).. وقال تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) (سورة الحجرات – الآية 12).. وغيرها الكثير من الآيات القرآنية الشريفة، التي تؤكد على العدل والصفح والحب، تنبذ كل أشكال القوة الخشنة التي تمارس بحق الآخرين مهما كانت درجة الاختلاف والتباين.. فأخلاق المسلمين مع بعضهم ومع خصومهم، هي من عناصر القوة الأساسية في التجربة الإسلامية التاريخية.. فالالتزام بمقتضيات الأخلاق الفاضلة في التعامل مع الآخرين، هو أحد عناصر القوة الأساسية، وليس عنصر ضعف، يمكن أن يعاب عليه الإنسان.. الإنسان يعاب عليه، حينما يتحول إلى وحش كاسر، يقتل ويفجر ويحرض عليهما..لأن هذه الممارسات ليست لها صلة جوهرية بقيم الإسلام الخالدة، حتى لو تجلبب قائلها بالإسلام.. أن قوة المسلمين الهائلة، هو حينما يلتزمون بالقوة الناعمة للإسلام، وعناصر القوة الناعمة في الإسلام، هي تشريعات خالدة ومطلوبة من الإنسان المسلم في كل الأحوال والظروف.. والدفاع عن الإسلام في ثوابته ومقدساته، لا يمكن أن يتم بممارسة السلوك النقيض لقيم الإسلام، بل بالالتزام بالإسلام قولا وفعلا.. فقتل الخصوم والمختلفين، ليس من الإسلام في شيء، وتفجير دور العبادة ليس من الإسلام في شيء، وبث الكراهية والبغضاء بين الناس، ليس من أخلاق الإسلام في شيء.. فتعالوا جميعا نعيد حساباتنا على هذا الصعيد.. فحق الإنسان الأصيل أن يدافع عن مقدساته وثوابته، ولكن بالوسيلة المشروعة، التي لا تأباها شريعة الإسلام وأخلاقه.. 

أما أن يتحول الإنسان المسلم باسم الدفاع عن المقدسات والثوابت، إلى قاتل ويستسهل سفك الدم الحرام، فهذا مما يناقض عدل الإسلام ورحمته.. واليوم حيث تعاني العديد من البلدان العربية والإسلامية، من عمليات القتل والتفجير وبث الأحقاد والضغائن بين الناس، تتأكد الحاجة للعودة إلى أخلاق الإسلام ورحمته.. فلا دفاع عن الإسلام إلا بعدل الإسلام، ولا صيانة لمقدسات الإسلام إلا بالالتزام التام بهدي الإسلام وتشريعاته الخالدة.. فالقوة الناعمة هي التي وسعت دائرة المنتمين إلى الإسلام تاريخيا.. فالملايين من المسلمين دخلوا الإسلام وتعرفوا عليه من خلال قيم الرحمة والرأفة والأخلاق الفاضلة وحسن الجوار وحرمة الدم والعرض والمال والبر بالآخرين.. فلا نطرد الناس من الإسلام اليوم بممارسة القتل وسفك الدم وتجاوز كل الحرمات.. فما نشاهده على شاشات التلفاز وفي وسائل التواصل الاجتماعي من صور مرعبة ووحشية باسم الإسلام، هي من أعظم الصور التي تشوه الإسلام في اللحظة الراهنة، وتخيف العالم من المسلمين.. 

فحري بنا جميعا اليوم، أن نعود إلى رشدنا، ونقف بوجه كل صور سفك الدم والتعدي على الحقوق والممتلكات والأعراض.. لأن الإسلام جاء لصيانة هذه الحقوق والأعراض، ولمنع سفك الدم بغير وجه حق.. وما يجري اليوم في أكثر من بلد عربي وإسلامي، هي جرائم موصوفة، حتى لو مورست باسم الإسلام.. ولا يجوز لنا جميعا القبول بهذه الممارسات الخطيرة بدعوى أن المقتولين والمذبوحين يستحقون ذلك.. فلا قتل في الشريعة إلا بحكم قضائي عادل، وما نشاهده بعيدا كل البعد عن المحاكمات العادلة والقضاء العادل.. فحكم الله في الأرض لا يقوم إلا بالعدل وإشاعة الأمن ومراعاة الحدود مع الآخر قبل الذات.. 

وإن البطولة الحقيقية، ليس إطلاق مارد التوحش والغرائزية لدى الإنسان، وإنما كظم الغيظ والصبر على الأذى والعفو عمن ظلمك.. 

وندعو في هذا السياق جميع علماء الأمة ودعاتها ونخبها الدينية والثقافية والإعلامية، إلى رفع الغطاء عن كل الممارسات الوحشية التي ترتكب باسم الإسلام، ودعوة جميع أبناء الأمة من مختلف مواقعهم المذهبية والجغرافية إلى الالتزام بقيم الحوار والتسامح ونبذ العنف والوقوف بحزم ضد كل أشكال العنف والقتل التي بدأت تجتاح مناطق الصراع في العالمين العربي والإسلامي.. وثمة ضرورة ينبغي لنا جميعا أن نعمل من أجلها في الواقع العربي–الإسلامي المعاصر، ألا وهي إشاعة ثقافة التعايش ونبذ نزعات الإقصاء، وإدارة اختلافاتنا بعيدا عن لغة السيف والقتل والمغالبة العنفية.. 

فنحن جميعا في سفينة واحدة، ومعنيون جميعا بحمايتها وصيانتها من عبث العابثين وتخريب المخربين..

اضف تعليق