شمال الضفة الغربية، حيث الكثافة السكانية الفلسطينية والندرة في الوجود الاستيطاني، تشعلان الأضواء الحمراء في العقول الصهيونية المدججة بالكراهية والأساطير، لتتفتق عن مشاريع عنصرية تستبطن التهجير والتبديد لهذه المراكز الحضرية، وإطلاق غول الاستيطان في هذه المناطق، بعد التحرر من قيود قرار فك الارتباط عن غزة، الذي...
ليست مجرّد حملة عسكرية كسابقاتها من حملات الاستباحة للضفة الغربية بمدنها وقراها، رغم أنّها الأعنف والأكبر منذ عشرين عامًا. إنها الحرب على الضفة التي تعيد إنتاج سيناريو حرب التطويق والتطهير والإبادة على قطاع غزة، التي تكاد تتم عامها الأول، وفقًا لتصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس (الليكودي الليبرالي)، غير المحسوب على تيار الصهيونية الدينية الأكثر تطرفًا.
هي الحرب على "يهودا والسامرة"، وفقًا للقاموس التوراتي العبري، التي قال فيها نتنياهو، وليس بن غفير وسموتريتش وحدهما، إنها جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل "الموعودة"، وإن الاستيطان فيها و"تطهيرها" من أهلها وسكانها الأصليين هو تجسيد لـ"حق اليهود في العودة"، وفعل من أفعال السيادة، مدعَّمًا بقرارَين اتخذهما الكنيست بـ"الحق الحصري لليهود في ممارسة تقرير المصير بين النهر والبحر".
قراران اتُّخذا بأغلبية وازنة، ضمَّت نواب الائتلاف اليميني الحاكم، ونواب "المعارضة اليمينة" كذلك، فإسرائيل اليوم، كما يتضح للقاصي والداني، موزعة بين يمين متطرف في السلطة، ويمين لا يقلّ تطرفًا في المعارضة، كنتيجة لمسار الانزياح صوب التطرف الديني والقومي الذي ضرب المجتمع الإسرائيلي منذ عقدَين من الزمن على أقل تقدير. ويمكن العودة بتاريخ هذه التحولات إلى عام 1977 عندما وقع الانقلاب اليميني الأول، بفوز الليكود بزعامة مناحيم بيغن على الحركة العمالية المؤسسة للدولة والكيان.
لماذا شمال الضفة؟
شمال الضفة الغربية هو مركز هذه الحرب وساحتها الرئيسة، على الأقل في طورها الراهن، ولذلك أسباب عدة، من بينها أن مدن الشمال ومخيماته تحولت في السنوات القليلة الفائتة إلى بؤر للمقاومة بكتائبها وتشكيلاتها المختلفة، التي أخذت تتمدد إلى بقاع أخرى من الضفة المحتلة لم تكن ظاهرة على خريطة المقاومة وخطوطها، وهي تكاد تستنسخ تجربة المقاومة في غزة، لجهة كثافة العمليات، وتطوير وسائل القتال، وانتزاع هوامش حركة للمقاومين قلَّ نظيرها، في زمن "التنسيق الأمني" المستمرّ بين السلطة والاحتلال.
وفي ظلّ صلابة منقطعة النظير للحاضنة الشعبية للمقاومة والمقاومين، جعلت جيل الألفية، أو ما يعرف بـ"Generation Z"، أيقونات للعمل المقاوم، من نابلس و"عرين الأسود"، إلى جنين المخيم والمدينة و"الكتيبة"، مرورًا بطولكرم وقلقيلية وطوباس، وما يحيط بها من مخيمات، كانت على الدوام حواضن حصينة للثورة الفلسطينيّة في بواكيرها الأولى، وللمقاومة في مرحلتها الجديدة.
هذا الجيل خارج على "هندسات" توني بلير والجنرال كيت دايتون ونظرية "الإنسان الفلسطيني الجديد"، المنهك بقروض المصارف، ومطالبات البنوك، ومندرجات الاقتصاد الاستهلاكي، وأجهزة أمنية جديدة مكبَّلة بنظرية الجنرال حول إسرائيل كحليف قائم ومحتمل، والمقاومة بوصفها العدو ومصدر التهديد، بل و"خطر مشترك" على السلطة وإسرائيل، يتعين "التنسيق" من أجل اجتثاثه والتصدّي له.
وما كان للضفة الغربية أن تبرأ من ذيول هذه "الهندسات" إلا مع صعود هذا الجيل، جيل الألفية، المتحرر من قيود "الكمبيالات" والقروض، المتحرر من قيود التنسيق و"الإنسان الجديد"، الجيل الذي لم ينخرط بعد في دورة اقتصادية نظامية. ها هي الضفة الغربية تنفض عن نفسها غبار حقبة التنسيق الأمني، وتكسر قيود "الموفد الأممي"، بطل الحرب على العراق، أكثر رؤساء حكومات بريطانيا إثارة للشكّ والريبة، الذي عمل جنبًا إلى جنب مع الجنرال الذي ترتبط بشخصه "العقيدة الأمنية" للأجهزة المُعاد تشكيلها بعد الانتفاضة الثانية، واغتيال ياسر عرفات.
في هذا السياق، يمكن تفسير ظاهرة تمركز المقاومة في المناطق الطرفية الريفية، وفي أحزمة التهميش حول المدن: "المخيمات"، حيث النسبة العليا من الشباب، نشأت وترعرعت خارج هذه "الهندسات"، وبعيدًا عن مركز السلطة وتمركز أجهزتها.
شمال الضفة الغربية، حيث الكثافة السكانية الفلسطينية والندرة في الوجود الاستيطاني، تشعلان الأضواء الحمراء في العقول الصهيونية المدججة بالكراهية والأساطير، لتتفتق عن مشاريع عنصرية تستبطن التهجير والتبديد لهذه المراكز الحضرية، وإطلاق غول الاستيطان في هذه المناطق، بعد التحرر من قيود قرار "فك الارتباط" عن غزة، الذي شمل مساحات واسعة من شمال الضفة، قبل أن تسقطه حكومة اليمين المتطرف بزعامة نتنياهو، فيصبح الاستيطان مباحًا في هذه المنطقة، وتسقط حرمة العودة للمستوطنات والبؤر الاستيطانية السابقة على قرار فكّ الارتباط عام 2005.
شمال الضفة الغربية، بمخيماته المنتشرة على حواف المدن والبَلْدات، ينهض كهدف للتوسّعية العدوانية الإسرائيلية، فيصبح تدميرُ المخيم –وإبادة كل مظاهر الحياة فيه، وتحويله إلى مكانٍ غير صالح للعيش البشري– مكانًا طاردًا لأهله وساكنيه. في الخلفية الصهيونية، دائمًا ما ينهض المخيم لا كشاهد على اللجوء والنكبة فحسب، بل وكرافعة وتذكير بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى بلداتهم وقراهم التي هُجّروا منها، ولعل الحرب الدائرة حاليًا توفر فرصة سانحة للخلاص من المخيم ورمزيته، وتشتيت ساكنيه، في غزة وبالأخص في الضفة.
اضف تعليق