التطرف له علاقة بالفكر، ويصيب الفكر، ولهذا جاز وصفه بالظاهرة الفكرية، ومن هذه الجهة يفترق التطرف عن الإرهاب، فالتطرف يكون ناظرا إلى الفكر، بينما الإرهاب يكون ناظرا إلى العمل، والتطرف يقود إلى الإرهاب، ويشكل محطة على طريق التحول نحو الإرهاب، لكن ليس كل تطرف يقود إلى الإرهاب...

التطرف من الظواهر الفكرية التي ظهرت وتظهر في جميع الأزمنة القديمة والحديثة والمعاصرة، وظهرت وتظهر في جميع المجتمعات والثقافات والديانات، وأنها من الظواهر التي لن تختفي أو تنتهي أو تتلاشى في الاجتماع الإنساني، حالها حال الظواهر الفكرية الأخرى التي يفرزها الإنسان، ويظل يحتلك بها، ويتعايش معها، اختيارا أو إكراها، توافقا أو اختلافا.

وتتعدد صور هذه الظاهرة بتعدد الميادين كافة، ففي الميدان الفكري يمكن الحديث عن تطرف فكري، وفي الميدان الديني يمكن الحديث عن تطرف ديني، وفي الميدان السياسي يمكن الحديث عن تطرف سياسي، وفي الميدان الاقتصادي يمكن الحديث عن تطرف اقتصادي، وهكذا في الميادين الأخرى الاجتماعية والإعلامية والتربوية وغيرها.

ومن حيث الأصل فإن التطرف له علاقة بالفكر، ويصيب الفكر، ولهذا جاز وصفه بالظاهرة الفكرية، ومن هذه الجهة يفترق التطرف عن الإرهاب، فالتطرف يكون ناظرا إلى الفكر، بينما الإرهاب يكون ناظرا إلى العمل، والتطرف يقود إلى الإرهاب، ويشكل محطة على طريق التحول نحو الإرهاب، لكن ليس كل تطرف يقود إلى الإرهاب، فهناك تطرف يتحدد بهذا الحد ولا ينتهي بصاحبه إلى الإرهاب، وهناك تطرف لا يقف عند هذا الحد وينتهي بصاحبه إلى الإرهاب.

والإنسان بصورة عامة معرض للإصابة بالتطرف، وهناك درجات وأطوار في هذه الإصابة، فهناك من يصاب به بدرجة منخفضة ومن يصاب به بدرجة عالية، وهناك من يصاب به بدرجة منخفضة لكنها تتصاعد مع مرور الوقت وتتحول إلى درجة عالية، وهناك من يصاب به بدرجة عالية لكنها تتنازل مع مرور الوقت وتتحول إلى درجة منخفضة، وهكذا تتحرك هذه الإصابة صعودا وهبوطا، ولا تظل على حالة ودرجة واحدة وثابتة.

ومن ناحية الأطوار، فهناك من يصاب بالتطرف في طور معين من أطوار الحياة، وغالبا ما يكون في طور الشباب، ويتخلى عنه في طور آخر، وغالبا ما يكون في طور ما بعد مرحلة الشباب، إلى جانب من يصاب به في طور معين، ويظل عليه ثابتا في باقي أطوار حياته الأخرى.

من هنا يتبين أن التطرف من الظواهر الفكرية والإنسانية العامة، والممتدة في تاريخ الفكر الإنساني، وأنها من الظواهر الباقية، وتعبر عن أحد صور التفكير عند الإنسان، وتظهر في أنماط وأشكال متعددة، وتتباين في درجاتها قوة وضعفا.

والظاهرة التي تكون بهذا الحال، تدخل في نطاق البحث عن البنية، الأمر الذي يعني أن التطرف له بنية، ومن ثم يصبح من الجائز استعمال تسمية بنية التطرف، التسمية التي يمكن وصفها وضبطها وتحديدها، واعتبارها من التسميات المحكمة، ويجوز إدراجها ضمن قائمة المصطلحات المنتسبة إلى حقل الدراسات الاجتماعية والإنسانية.

وعلى ضوء هذا السياق من التحليل ما هي بنية التطرف؟

عند النظر والفحص يمكن القول إن هذه البنية تتحدد من خلال ثلاثة عناصر أساسية، هي:

العنصر الأول: له علاقة بطريقة التموضع، والذي يكون على الطرف مبتعدا عن جانب الوسط، بمعنى الخروج أو الابتعاد عن حالة الوسطية والاعتدال.

العنصر الثاني: له علاقة بطريقة التمثل، والذي يغلب عليه حالة التشدد والحدية، وأخذ الأمور بالشدة والتشدد.

العنصر الثالث: له علاقة بطريقة التفكير، والذي يغلب عليه حالة الجزم والأحادية والإطلاقية، فالتطرف هو تفكير جازم لا يقبل الجدل والنقاش، وهو تفكير أحادي لا يقبل التعدد والاختلاف، وهو تفكير إطلاقي لا يقبل النسبي والنسبية.

وأما نقطة المركز في هذه البنية فمدارها يتركز على مفهومي الحق والحقيقة، فالتطرف يتولد من القول بادعاء امتلاك الحق المطلق وسلبه عن الآخرين، وامتلاك الحقيقة المطلقة وسلبها عن الآخرين.

ونقطة المركز هذه هي الناظم الأساس لتلك العناصر، وكل تأثير يطرأ على هذه النقطة يترك تأثيرا واضحا على تلك العناصر، فهي عامل الحركة في هذه العناصر، قوة وضعفا، صعودا وهبوطا.

بهذا التفكيك تتكشف بنية التطرف، ويتحدد أن تقويض هذه البنية يكمن في إصلاح نقطة المركز، بإثبات أن الحق المطلق لا يمكن للإنسان أن يتملكه لنفسه ويسلبه عن الآخرين، فالإنسان بطبعه وطبيعته يخطئ ويصيب، ومن يقول بامتلاك الحقيقة المطلقة كأنه يقول عن نفسه بامتلاك العقل الكامل، وليس هناك بين البشر من يمتلك العقل الكامل، فيسقط الإدعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق