حينما اشتريت علبة عصير لأشربها أحترت أين أرمي ما تبقى حتى نصحني أحدهم أن أعود لنفس المحل الذي اشتريت منه كي يتخلص هو منها. لغز النظافة العامة في اليابان لا يمكن تفسيره الا بثلاث أشياء: نظافة الناس، التزامهم ورقابتهم الذاتية، وقوة القانون. هذه العناصر الثلاثة ستتجلى لاحقاً في كل السلوكيات الحياتية...

مثل كل أبناء جيلي، فلطالما أبهرتنا اليابان وحلمنا بزيارتها. لذا ابتدأت حياتي الأكاديمية في نهاية الثمانينات بدراسة وتدريس ما كان يسمى (المعجزة اليابانية) وإدارتها، التي شكلت أنموذجاً لما سمي فيما بعد (إدارة الجودة الشاملة). 

وحين جاء موعد تحقيقي لحلم زيارة اليابان، قررت تسجيل كل صغيرة وكبيرة ومقارنتها بما كان في ذهني، وما دونته في كتاباتي الكثيرة، بخاصة في كتابي الأخير عن ثقافة التصلب Tight culture التي تعد اليابان احدى نماذجها القياسية.

نعم كتبت عن اليابان وثقافتها دون أن أشاهدهما، أفليس أحرى أن أكتب عنهما بعد مشاهدتهما. إن مشاهداتي التي سأسردها عبر هذه السلسلة لا تهدف لنقل، بل تحليل ما شاهدته من ملاحظات ومشاهد وربطها بالثقافة اليابانية العريقة، التي تتشابه مع ثقافاتنا الجماعية الصلبة في كثير من جوانبها، ومع ذلك تختلف عنها في كثير من مخرجاتها السلوكية. وعلى الرغم من اعترافي بتحيزي المسبق للمعجزة اليابانية، لكني سأحاول قدر الإمكان التركيز على الموضوعية العلمية في نقل، ونقد ما شاهدته.

حذرتني زميلتي اليابانية التي حضرت معي أحد المؤتمرات قبل سفري لطوكيو من رفع سقف توقعاتي عما سأشاهده لذا حاولت عقلنة توقعاتي قبل هبوط الطائرة في مطار هانيدا بطوكيو. وفعلاً، فعكس ما كنت أتوقع، كان هناك طابور طويل للقادمين الذين ينتظرون ختم موظف الجوازات. وعلى الرغم من استخدام الات حديثة لأخذ طبعات الأصابع والصور للقادمين لكنني فوجئت ان السلطات ما تزال تستخدم نماذج ورقية لملء معلومات القادمين وبطريقة غير متوقعة من أدارة أكبر مطار في (كوكب اليابان الإلكتروني)! 

كما أن مرافق المطار تبدو قديمة حين تقارنها بمطارات اخرى. ويبدو أن للقديم أهمية خاصة في الثقافة اليابانية. عموماً لم تعطني تجربة الدخول لليابان عبر مطارها انطباعاً بأني ازاء مارد تكنولوجي طالما تصورناه وضربنا به المثل.

في اليابان يؤمنون أن الكفاءة والفاعلية، لا العمر، هو الأهم. لذا فأن المطار الذي أفتُتح في 1931 ما زال يعمل بكفاءة، وهو نظيف جداً ويوفر كل الخدمات الاساسية للمسافر دون فخامة مطارات أخرى في العالم.

نفس الشيء مع السيارات، فقد تفاجئت أن سيارات تويوتا-كراون المصنعة في سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي ما زالت تعمل بكفاءة كبرى، حتى أني حين استخدمت أحدها فاجئتني بنظافتها وصوت محركها الخافت، فاعتقدت انها انتاج حديث.

لكني حين سألت عرفت أنها سيارة قديمة لكنها تصان وتدام بشكل دوري وصحيح، ولذلك فأن شركات التكسي الكبرى التي تمتلك اسطولاً كبيراً من هذه السيارات تجد ان من الاجدى اقتصادياً الاحتفاظ بها. هذا يقودني لاخلاق وثقافة العمل التي تتجلى في كل ركن من أركان طوكيو التي شاهدتها. 

تقوم ثقافة العمل على مجموعة قيم ومعايير يتم الالتزام بها بشدة. فالعمل بالنسبة لليابانيين (عبادة) فعلية بعكس شعوب أخرى وجدت لديها العبادة هي العمل. وفرق كبير بين جعل العبادة عملك، أو جعل العمل عبادتك. حين سألت سائق التكسي الذي كان يبدو كبيراً لكنه نشط ومبتسم، عن عمره أجابني: 83 سنة. فتعجبت وسألته عن عدد ساعات العمل فقال 8-10 ساعات. قلت، أليس لك تقاعد، أو ليس لك أبناء يعتنون بك، فلماذا التعب؟ لدي كل ما سألتَ عنه، أجابني، لكن أبواي علمّاني أن عدم العمل يجعلني أموت مبكراً، وأن العمل هو من يجعل لي قيمة ويطيل حياتي.

الرقابة الذاتية هي واحدة من أساسيات الثقافة الاجتماعية. كل الشوارع، والساحات، والقطارات، والتكسيات، والبنايات، والسلالم الكهربائية في الشوارع نظيفة لدرجة غير معقولة حتى أني كنت أمسحها بأصبعي كي اجد غباراً في زواياها دون جدوى.

عشرات الالاف مثلاً يركبون القطارات لكنها جميعها نظيفة. الملايين في الشوارع، لكنها نظيفة!! والمدهش أكثر أنك لن تجد حاويات للأوساخ والقمامة في أي مكان، فضلاً عن عدم رؤية سيارات الأوساخ وجمع القمامة. 

حينما اشتريت علبة عصير لأشربها أحترت أين أرمي ما تبقى حتى نصحني أحدهم أن أعود لنفس المحل الذي اشتريت منه كي يتخلص هو منها. لغز النظافة العامة في اليابان لا يمكن تفسيره الا بثلاث أشياء: نظافة الناس، التزامهم ورقابتهم الذاتية، وقوة القانون. هذه العناصر الثلاثة ستتجلى لاحقاً في كل السلوكيات الحياتية والثقافة العامة التي سأصفها عن الشعب الياباني.

اضف تعليق