الشاب قد يبحث عن العمل في مجال (غسيل الاطباق) في اوروبا.. ولكن لا يمكن ان يقبل بهذه الوظيفة في وطنه، وذلك خشية نظرة المجتمع الدونية لهذه الوظيفة. وهنا الاختلاف الكبير من حيث النظرة إلى قيمة العمل وأهميته وكيفية التكيف مع الواقع ما بين الغرب وجزء من الشرق...
بقلم: عقيل بن عبدالخالق اللواتي
كتب الكثير عن ثقافة "العيب"، وافردت الصحف ووسائل الاعلام المقالات والآراء الكثيرة عن هذه الثقافة وكيفية استيعابها والتعامل معها، ومع ذلك ما زال هذا الموضوع من اكثر الموضوعات جدلية في مجتمعاتنا العربية، والخليجية منها بالذات.
هذه الثقافة بدأت وشارفت على الانتهاء في مجتمعات معينة، لكنها تزدهر في مجتمعاتنا بعمق، وتتأصل كموروث يتم نقله تلقائيا من الاجداد الى الاباء ثم الى الابناء. فلا زالت ابنة الأسرة في مجتمعاتنا – مثلا - عليها العيش مع زوجها وعدم التفكير بالطلاق بتاتا حتى ولو كانت تسام سوء العذاب. فأسرتها ترفض التدخل، وأيضاً ترفض عودتها مطلقة، ثم لا تجد هذه السيدة المسكينة ملجأً تحل من خلاله مشكلتها سوى إغلاق غرفتها والبكاء ثم الخروج لأداء واجباتها الزوجية وممارسة أمومتها المهانة بالضرب أمام الصغار. انها في النهاية تلتزم الصمت لأن الأسرة لا تريد فضائح.. وان بنت الرجال ما تحكي.. ولا تفضح زوجها...؟
ولا زال الخوض في مسائل وأمور تتعلق بالثقافة الجنسية وتبصير الشباب والشابات بها للولوج إلى علاقات زوجية مثالية تعتبر من الأمور المحرمة والمحظورة نهائيا. والنطق باسم المرأة أماً كانت أم أختاً أم زوجة عورة وعيب قد يصل إلى حد الكارثة، أو الذنب الذي لا يغتفر. ولا زال ذلك الشعور بالحرج يغشى الزوج الذي قد يضطره ظرف ما، أو مناسبة معينة للظهور مع زوجته، في شارع، أو ملتقى عام. وإن كان لا مفر من ذلك فليتقدمها.
ولا زلنا نسمع كلمات "عيب يا ولد" حيث تقال للصغار المتواجدين في مجالس الكبار والذين يفرض عليهم الالتزام بمضمونه والسكوت عن الكلام اما الكبار. هذه الصور وغيرها كثير تعيش بيننا وتحكمها ثقافة "العيب"، والتي قد تتلبس أحياناً بدثار الدين وتعاليمه وتوجيهاته.
ومن أسوأ هذ الصور والتي تحيط بنا في واقعنا الاجتماعي أن يضع بعضنا حجر هذه الثقافة عائقا في الحصول على مصدر العيش الكريم. وهنا فان هذه الثقافة لا تقف عند كونها مصطلحا سلبيا فحسب، بل تتجاوز ذلك لتكون حاجزا يعيق مجتمعنا عن النهوض والتقدم، وتؤثر على حياة الفرد عن طريق الحد من فرص العمل المتاحة وبالتالي تقليل دخله. فكم من وظيفة شريفة ومحترمة تعد (غير مقبولة) اجتماعياً ولا محببة عند الإناث والذكور أيضاً في كثير من مجالات العمل المهنية والحرفية او في مجال الانشاءات والخدمات وغيرها، حيث خضعت لسلم التصنيف الاجتماعي، ولذا لا يلجأ إليها أكثر الناس حاجة إلى العمل بسبب نظرة المجتمع الدونية للعاملين فيها.. فالعمل في هذه المهن البسيطة "عيب".. وقلة حياء.. ناهيك عما يسمى بخصوصية المجتمع والسياج القوي المحيط بها والذي لا يسمح لأحد باجتيازه أو الخوض فيما داخله من تفاصيل.
وزارات العمل في بلادنا الخليجية تواجه تحديات كبيرة لتطبيق سياساتها الرامية إلى توظيف العاطلين عن العمل، خاصة من حملة الشهادات المتدنية وغير المؤهلين لشغل بعض الوظائف ذات المرتبات الجيدة في منشآت القطاع الخاص. ويرى مراقبون أن المشكلة ليست في فرص العمل في حد ذاتها، وإنما في القبول بالوظائف المتدنية التي يحجم عنها الشباب. وتعد مهن مثل الميكانيكا، والكهرباء، والخراطة، والسمكرة، والبناء، والنجارة والخدمة في الفنادق والمطاعم من أبرز المهن التي تندرج ضمن ثقافة "العيب"، ولا يستطيع الكثيرون العمل فيها لأن نظرة المجتمع للشاب العامل بهذه المهن غير مشجعة، وأن أغلب النظرات لهذه المهن مبنية على مبادئ اجتماعية من الصعب إزالتها.
ففي مجتمعاتنا ينظر إلى العمل على انه نوع من الواجهة الاجتماعية التي لابد منها من أجل تحقيق سمعة ومكانة جيدة بين الناس، ولذلك يحاول الشباب استخدام كافة الوسائل الممكنة من أجل الحصول على وظيفة مرموقة.
الشاب قد يبحث عن العمل في مجال (غسيل الاطباق) في اوروبا.. ولكن لا يمكن ان يقبل بهذه الوظيفة في وطنه، وذلك خشية نظرة المجتمع الدونية لهذه الوظيفة. وهنا الاختلاف الكبير من حيث النظرة إلى قيمة العمل وأهميته وكيفية التكيف مع الواقع ما بين الغرب وجزء من الشرق. فالنظرة إلى قيمة العمل في الدول الغربية التي بها نوع من التحرر والقدرة على التكيف مع مشاكل المجتمع، بالإضافة إلى دور المؤسسات الاقتصادية في تلك الدول التي تعود الشباب على التفكير الحر وتشجيعهم على البدء في العمل الحر وهو ما تفرضه طبيعة المجتمعات الغربية التي يكاد ينعدم فيها القطاع العام، حيث تعتمد هذه الدول على الاقتصاد الحر وهو ما يعنى أنه لا يوجد من بين الشباب من ينتظر الوظيفة الحكومية.
ولا يجب إغفال الجانب التعليمي في القضية حيث يتعود الشاب في الغرب على التفكير والنقد الذى يكون قد تعود عليه حين يشب ليبدأ في التفكير في مستقبله بشكل عملي، بعيداً عن التفاخر الاجتماعي.
اننا نستمع إلى قصص متنوعة عن البطالة وارتفاع الاسعار والفقر والاحوال المالية المتردية لدى بعض القطاعات في مجتمعاتنا، غير ان اللافت في معظمها غياب العمالة الوطنية من الشباب عن قطاعات بعينها ولا ندري السبب. هل لكثرة ما لديهم من اموال وقد تعودوا التأفف، أم الحال المائل الذي وصلوا اليه وبالتالي يقبلون بالجوع والراحة؟ أم انهم اعتادوا الكسل؟ أم أن الكل ينتظر وظيفة مدير مباشرة دون أن يخطو خطوة واحدة على ادراج السلم.
ان هذه الثقافة آن مكافحتها بشتى الوسائل. ولايكفي أن ننتقد ثقافة "العيب" فحسب، بل يجب على كل منا تبني مسؤولية محاربة هذه الثقافة لتخطي المشاكل التي تسببها. فالكثير من أفراد المجتمع قد ترسخت ثقافتهم على الكثير من القيود والحواجز التي لم يعد لها قيمة في ظل التغيرات والتطورات السياسية والاجتماعية والثقافية، ويمكن بقليل من الجهد النفسي التغلب على هذه القيود وإقناع الآخرين بما تحتمه التطورات والوضع الحالي، كما أن باستطاعة الشاب العامل كسر هذا الحاجز وتغيير هذه الاتجاهات السائدة عند بعض أفراد المجتمع عن طريق التوعية الثقافية والاجتماعية، وذلك بتعاون الجهات المعنية من إدارات حكومية ووسائل الإعلام والجامعات ووزارة التربية والتعليم، ومؤسسات فاعلة اخرى.
ان التقاليد الاجتماعية وغياب الأيمان الحقيقي بقيمة العمل أيا كان تعتبر من الأسباب الرئيسية لتفشي ثقافة "العيب" داخل مجتمعاتنا المليئة بالتقاليد أكثر من ملئها بقيم الحياة الإنسانية التي تعتبر الإنسان هو محور كل الأشياء وليست الوظائف أو المال أو السلطة أو الوجاهة والسمعة، ليتأكد بذلك أن مجتمعاتنا تعانى الكثير من الأمراض التي تؤخرها ليس فقط على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي ولكن على الصعيد الإنساني أيضاً ليظل السؤال متى سوف تكون نقطة البداية للتخلص من كل تلك الأوهام والأساطير التي نضعها أمامنا لتعوقنا على مواصلة السير في طريق أراده الله لنا بالكفاح والعمل وليس بالسلطات والمال والجاه والواجهة الاجتماعية.
اضف تعليق