ليس بالضرورة ان تتكرر أخطاء الماضي في العراق، ولا أن يخوض العراق حروباً عبثية اخرى، فهذا لن يكون مطلقاً، ولكن يحصل ما لا يقل عنه سوءاً وخطورة على صعيد الحاضر والمستقبل عندما يهدر المثقف نعمة الحرية وينطلق لاستثمارها في تحمل مسؤولية التوعية والتثقيف على كل القيم الانسانية والأخلاقية...

نتداول الحديث عن العصر الذهبي للقراءة والتأليف والنشر في سني السبعينات -التي وعيت عليها انا على الاقل- وكيف كانت الكلمة صادقة والفكرة نافذة والتفاعل واسع من الطفل والمرأة والكاسب والطالب ومختلف شرائح المجتمع ممن كانوا يجدون بغيتهم في المنتج الثقافي المتنوع، ثم نرثي واقعنا الثقافي اليوم الذي يشبه الى حدٍ بعيد الرجل الثري، المالك للقصر المنيف والسيارة الفارهة والمكانة الاجتماعية المرموقة مع مردود مالي ممتاز، ولكن! محروم من قائمة طويلة من الاطعمة، ومحدد بقيود عن الحركة، فهو يعيش وسط حياة مفعمة بالحركة والوسائل المتطورة جداً، لكنه أقرب للموت منه الى الحياة. 

مع التأكيد على عدم الاطلاق في حالة الرثاء هذه، فثمة شريحة من المثقفين المملوءين حيوية وإيمان وإرادة على التغيير والإصلاح يعكسون كل هذا على واقع مجتمعهم، بيد أن ما يشكوه الشارع، الفجوة الواسعة مع الشريحة الاخرى من المثقفين ممن يفترض ان تحمل على عاتقها مسؤولية بناء الفرد والمجتمع، ثم الإسهام في عملية التغيير والإصلاح، والأمر الثالث والأهم؛ القيام بدور الوسيط بين القيادة العليا، وافراد المجتمع والأمة، وهي مهام عظيمة من نوع خاص لا تناط إلا بمن امتلك قدراً كبيراً من الوعي والعلم والمعرفة، وخَبِر الحياة وما فيها من تجارب وتحديات ليكون متميزاً عن الآخرين بامكاناته وبمسؤوليته ايضاً.

هذه الفجوة والفاصلة على الصعيد الانساني، تركت أثرها السلبي على الصعيد الحضاري عندما اغترب الفرد عن ثقافته وتاريخه، لاسيما في أوساط الشباب، وإن كان ثمة متعطش للوعي والثقافة فانه يفضل متابعة الافكار المترجمة على قراءة المقال المنشور او الكتاب المطبوع بلغته هو، ولسان حاله: "إن الجهود المبذولة عاجزة عن وضع اليد على الجرح"، بينما الافكار المترجمة تقدم خيارات وبدائل وحلول واقعية –الى حدٍ ما- لكل ما يعيشه الانسان من حرمان وأزمات على الصُعد كافة.

ثمة اسباب عديدة وراء هذا المآل، نذكر ثلاث منها علّها تكون مفيدة لكاتب هذه السطور، ولمن يقرأها ايضاً: 

السبب الأول: محورية الذات

رغم وجودها بشكل واضح في المشهد، والشكوى منها من المشاهد في الوسط الاجتماعي، فهي حالة مستمرة الى حد التطبيع والاستمراء بالاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل اعلامية اخرى، فالعلم والمعرفة لا يحمل صاحبه بالضرورة الى تحمل المسؤولية الاخلاقية والحضارية، بقدر ما نراه وسيلة للتعبير عن الذات مماشاة مع نظرية التنمية الداعية للتطوير الذاتي، وتحقيق النجاح، واكتساب المهارات، ضمن دائرة الفرد الواحد، وليس لتطوير المجتمع والأمة بأكملها. 

وكما هو القائد الذي يبحث الناس فيه عن صفة التضحية في كل حركاته وسكناته ليتبعوه، فان المثقف القريب من قمة الهرم القيادي مدعو هو الآخر لأن يتحلّى بهذه الصفة الأخلاقية السامية، أما اذا كان همه؛ التعيين في دائرة حكومية، او التكريم والتبجيل، والامتيازات، فضلاً عن الحياة المرفهة، فما فضله على الناس الذين لا تقل همومهم عن هذا كله، وربما لديهم المزيد؟

السبب الثاني: محورية الفكرة والرأي 

جميعنا نحفظ بيت الشعر المأثور لأحمد شوقي: قف دون رأيك في الحياة مجاهداً، إن الحياة عقيدة وجهاد، ونترجم هذه الصفة بمصطلح "الموضوعية"، بيد إن الاعجاب بما نفكر به لا يدعنا النظر الى ما يفكر به الآخرون، وإن حانت "التفاتة ثقافية" الى هذا او ذاك، فان المطلوب هو الاندماج في نمط التفكير واتجاهاته، فربما يقول لك: "ان المساحة مفتوحة للرأي الآخر، تفضّل قُل ما تشاء"، بيد أن النتيجة النهائية؛ رأيه وفكرته! وتبقى سائر الآراء والافكار في دوامة مفرغة لا فائدة منها. 

السبب الثالث: محورية التيار الفكري

وإن حصلت المحاولة للابتعاد قليلاً عن الذات المفكّرة، وعن الإطار الفكري نلاحظ التوجه نحو تيارات ثقافية تعاني هي الاخرى من داء الذاتية لدى رموزها، فلا يلبث المثقف في قلمه او قوله ان يكون مرآة تعكس أفكار الآخرين، وليس فكره كإنسان مسؤول، أو قناعته وإيمانه بما يقول هو لا غيره، وعندما يحصل نوع من سوء الفهم او التعارض، فانه لا يكون مسؤولاً عما قال وكتب، بقدر ما ينشغل بالدفاع عن صاحب الفكرة والنظرية، حتى وإن شابها بعض الخطل او الفشل.

ولا أجانب الحقيقة إن قلت: أن الاستبداد الفكري كان أمضّ على بلادنا من الاستبداد السياسي كونه الارضية الخصبة لنشوء أحزاب السلطة، وعبادة الايديولوجيا التي ثقفت الناس طيلة أجيال على التفرّد، والتقوقع، وانعدام الشعور بالمسؤولية الجماعية، بالمقابل الانتصاب أمام القائد والرمز طاعة له وامتثالاً لما يراه و يأمر به، ومن خلالها انطلق الملايين الى سوح الموت في حروب عبثية كما حصل في عراق حزب البعث طيلة اربعين عاماً، ذهب مئات الآلاف من ابناء هذا الشعب ضحية للفكرة القومية –العربية، ثم للوطن، ثم للقائد الضرورة الذي جعل نهاية مسيرته الطويلة بين يدي الجنود الاميركان.

ليس بالضرورة ان تتكرر أخطاء الماضي في العراق، ولا أن يخوض العراق حروباً عبثية اخرى، فهذا لن يكون مطلقاً، ولكن يحصل ما لا يقل عنه سوءاً وخطورة على صعيد الحاضر والمستقبل عندما يهدر المثقف نعمة الحرية وينطلق لاستثمارها في تحمل مسؤولية التوعية والتثقيف على كل القيم الانسانية والأخلاقية.

يروي أحد رجالات الحركة الاسلامية في العراق في سني السبعينات، أن الساحة الثقافية كان يتقاسمها تياران متنافسان بشدّة على قيادة المشهد الثقافي في العراق، وكانت يشتدّ الجدال والصراع اللفظي الصامت آنذاك مع اقتراب موسم استذكار مصاب الامام الحسين، عليه السلام، ايام عاشوراء، فكان الخلاف حول طريقة هذا الاستذكار، وتحديداً؛ الشعائر الحسينية، وعلى حين غفلة، تم اعتقال مجموعة كبيرة من ابناء الحركة الاسلامية شملت الاعضاء من التيارين، و وجدوا انفسهم خلال ساعات مجموعين في مكان واحد خلف القضبان.

مشاعر الاعتقال على يد السلطة الغاشمة، وأجواء عاشوراء وما تحمله من وهج ثوري ضد الظلم والانحراف، ثم الشعور الصادق بالمصير المشترك، أزال جميع الحجب عن القلوب وتغيرت النفوس، و راجعوا حساباتهم فوجدوا أنهم كانوا قبل هذا معتقلين في سجن الذات، والآن محررين فكرياً وذهنياً وهم في سجن نظام حزب البعث.  

اضف تعليق