القران الكريم في هذه الآية كان بليغا للغاية، حين استعمل وصف بني أدم عند حديثه عن الكرامة، ليؤكد على أمرين متلازمين، على أن الكرامة هي صفة أصيلة في النوع الإنساني، وعلى أن هذه الصفة تشمل جميع الناس بدون استثناء الذين يرجعون في أصلهم الإنساني إلى بني ادم...

عند البحث عن مكونات النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، يمكن التوقف عند ما حدثنا به القرآن عن أن الله سبحانه أعطى الإنسان صفة الخليفة في الأرض، وأشار إلى هذه الصفة ببيان واضح وصريح كقوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)- سورة البقرة: 30-، وقوله تعالى (وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض)- سورة فاطر: 39-

ولولا ورود هذه الصفة في النص القرآني، لكان من الصعب الحديث عنها، والإشارة إليها، بهذا المسمى البياني واللساني، وما كان باستطاعة أحد أن يتجرأ ويقول إن الإنسان هو خليفة في الأرض.

وبهذه الصفة تحددت رؤية الإسلام الكلية للإنسان ذاتا ووجودا ووظيفة، الرؤية التي رفعت الإنسان إلى أعلى منزلة في هذا العالم، وليس هناك ما هو أعلى وأشرف من هذه المكانة التي يكون الإنسان فيها خليفة في الأرض.

وقيمة هذه الصفة أنها أعطت الإنسان مكانة مركزية في الأرض، على أمل أن يرتفع إلى مستواها، ويتخلق بها، ويحافظ عليها، ولا ينحدر عنها، ولديه من الاستعدادات والقابليات النفسية والفكرية التي تؤهله لبلوغ هذه المكانة الشريفة.

ويكفي لهذه الصفة وحدها لإثبات أن في القرآن نزعة إنسانية حقيقية، ونفي الحاجة إلى التساؤل الإشكالي والاعتراضي عن هل يوجد نزعة إنسانية في القرآن!

ومن مكونات هذه النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، ما أعلنه القرآن صراحة وبوضوح تام أن كل ما في الكون والطبيعة والحياة من ثروات ومنافع، بأقسامها وأصنافها كافة، هو مسخر للإنسان من أجل رفاهه وسعادته، ومن الآيات التي دلت على ذلك قوله تعالى (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار* وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار* وأتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها)- سورة إبراهيم: 32-34

وقوله تعالى (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)- سورة لقمان: 20-

وقوله تعالى (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) -سورة الجاثية: 12-13-، وإلى جانب الكثير من الآيات الأخرى.

والحكمة من هذا التسخير هو دفع الإنسان وتحريكه نحو الاستفادة من كل ثروات وخيرات عالم الكون والطبيعة، وأنه قادر على النهوض بهذه المهمة، لكن الجانب الأهم هو تحرير الإنسان من قيود الطبيعة واكراهاتها، ومن الخوف والرهبة منها، ولتغيير طريقة التعامل معها من منطق الخضوع والركون والاستسلام لها، إلى منطق التسخير، الذي يعني تطويع الطبيعة والتغلب عليها، وليس الخضوع والاستسلام لها.

كما أن مفهوم التسخير يعني أن الإنسان ليس جزءا من عالم الطبيعة، الأمر الذي يترتب عليه أن لا يكون تابعا أو عاجزا، أو يشعر بالتبعية والعجز أمام الطبيعة، فلا خوف منها، ولا رهبة ولا خضوع ولا استسلام، وإنما العمل والعمل الفعال والمستمر لتسخيرها، وذلك عن طريق اكتشاف قوانينها والتعرف عليها، فلا يمكن تسخير الطبيعة من دون اكتشاف هذه القوانين والتعرف عليها والتمكن منها، وبهذه القوانين يمتلك الإنسان ناصية العلم، وبالعلم يتحرر الإنسان من هيبة الطبيعة ورهبتها، ومن الخضوع والاستسلام لها.

من مكونات النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، اعتبار القرآن أن الإنسان كائن مكرم، وأشار إلى هذه الحقيقة الجلية في قوله تعالى (ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)- سورة الإسراء: 70-

 هذه الآية أصلت لقاعدة أن الأصل في الإنسان الكرامة، وأنها صفة ملازمة للإنسان بما هو إنسان، بغض النظر عن لونه وعرقه، لغته ولسانه، دينه ومذهبه، ولا يجوز سلب هذه الصفة وهتكها، أو تحقيرها والانتقاص منها، فالإنسان إنسان بكرامته، ومن دونها ينتقص الإنسان من إنسانيته، أي أن الإنسان كائن مكرم، ولا يكون إلا بكرامته.

والقران الكريم في هذه الآية كان بليغا للغاية، حين استعمل وصف بني أدم عند حديثه عن الكرامة، ليؤكد على أمرين متلازمين، على أن الكرامة هي صفة أصيلة في النوع الإنساني، وعلى أن هذه الصفة تشمل جميع الناس بدون استثناء الذين يرجعون في أصلهم الإنساني إلى بني ادم، وليس هناك صنف من البشر خارج عن هذا الأصل الإنساني المشترك.

والحكمة من هذا الوصف، أن الكرامة صفة سابقة على كل ما يظهر في الإنسان لاحقا من عوارض اللون أو اللسان أو الدين أو غيرها، وأن هذه العوارض مهما كانت طبيعتها لا تسلب الكرامة من الإنسان، ولا ينبغي أن تنتقص منها.

كما اعتبرت هذه الآية أن الله سبحانه هو مصدر الكرامة للإنسان، وهو الذي فضله على كثير ممن خلق تفضيلا، وهذا يعني ضرورة أن يتمسك الإنسان بهذه الكرامة ولا يتخلى عنها أبدا، تحت أي ظرف من الظروف، وأمام أي ضغط من الضغوط، وفي أي حال من الأحوال، لأنها من الله وليس منّة من احد كائنا ما كان.

ومن المكونات لهذه النزعة الإنسانية أيضا، مطالبة القرآن للإنسان لأن يعمل عقله، في دعوة صريحة وبينة لا تقبل التأويل أو الاحتجاج، فقد ظل القرآن يحث الإنسان على سلوك هذا الدرب العقلي والعقلاني، بلا خشية أو تأثيم، في موقف يظهر القرآن إلى جانب صف العقل، ومناصرا له على طول الخط، وبشكل يثير الدهشة والإعجاب.

ومن هذه الجهة تفرد القرآن الكريم على جميع الكتب السماوية السابقة عليه، التي لم تعط منزلة للعقل، ولم تدع لإعمال العقل، كما هو في خطاب القرآن الذي يعد أول كتاب سماوي يدعو لإعمال العقل بوضوح كبير.

والدعوة لإعمال العقل هي دعوة لتكميل النزعة الإنسانية وترشيدها، ومن دونها لا تكتمل هذه النزعة، ولا تكتسب صفة النضج والرشد.

هذه لعلها أبرز ملامح وعناصر ومكونات النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، والتي تكشف وتثبت بلا ريب عن وجود نزعة إنسانية حقيقة ومتفوقة في النص القرآني، نزعة بحاجة إلى تكوين وتعميق المعرفة بها، والتنبه المستمر إليها، والعمل على استثمارها والاستفادة منها في تهذيب وإصلاح مناهج وسلوكيات الإنسان والجماعة والأمة.

من هنا فلا طائل للمحاججة والاحتجاج على النزعة الإنسانية وجودها وحقيقتها في القرآن الكريم بعد ما ثبت ليس وجود هذه النزعة فحسب، وإنما وجودها وتفوقها أيضا.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق