لقد عملت السلطات على استقطاب المثقفين من خلال وسائل مختلفة، بعضها مباشر بقصد الترويج لها من خلالهم وبعضها الآخر غير مباشر من خلال دعم الثقافة لتظهر نفسها راعية لها، ولتعكس صورة مقبولة عنها بين المثقفين انفسهم وكذلك الشعب والخارج ايضا، وفي العموم يبقى الاسلوب الاخير هو الافضل ولعله المطلوب بإستمرار...
من بين المعضلات التي واجهت المثقفين في اغلب بلدان العالم، لاسيما تلك التي مرت بأزمات كبيرة، هو الطعن المتبادل بوطنية بعضهم بسبب اختلاف المواقف، وقد كان لهذا الصراع الذي شهده اكثر من بلد، تداعيات كبيرة على الواقع الثقافي وانعكاس ذلك على الحياة الإجتماعية، لأن الميدان الاجتماعي هو المتلقي للأجناس الثقافية والفنية المختلفة والمتفاعل معها والمتأثر برموزها.
لقد عملت السلطات على استقطاب المثقفين من خلال وسائل مختلفة، بعضها مباشر بقصد الترويج لها من خلالهم وبعضها الآخر غير مباشر من خلال دعم الثقافة لتظهر نفسها راعية لها، ولتعكس صورة مقبولة عنها بين المثقفين انفسهم وكذلك الشعب والخارج ايضا، وفي العموم يبقى الاسلوب الاخير هو الافضل ولعله المطلوب بإستمرار .. لكن احداثا معينة تجعل الاوساط الثقافية في اي بلد تنقسم وتحتدم ومن ثم تنشغل عن انتاج الابداع والثقافة التي تنمي الحياة بعد ان تجد نفسها في خضم صراع وتبادل للاتهامات التي تصبح بمثابة ثيمة رئيسية تنشغل بها، بعد ان تعتقد كل جهة انها الاقرب الى الناس والى الحقيقة وتسعى الى ايصال هذه الرسالة الى الرأي العام.
لعل الصراع احتدم بشكل غير مسبوق بين المثقفين في العالم خلال القرن الماضي وبلغ ذروته في منتصفه، بعد ان توزع المثقفون بشكل عام بين عقائد (فكرية سياسية) متناشزة، تزامنت مع ظهور قوى كبرى متصارعة على النفوذ على خلفية الحربين العالميتين، وتسخير تلك الدول مؤسسات ثقافية كبيرة للترويج لمشاريعها السياسية ذات الغطاء الثقافي، كالماركسية والليبرالية والاشتراكية الديمقراطية وغيرها، وبما انه لكل صراع مدخلات وهذه اتينا على ذكرها، فلابد من ان تكون له تداعيات، قد تخرج احيانا من ايدي المتصارعين انفسهم بسبب عوامل موضوعية عديدة او اخطاء واجتهادات في المعالجات المتبادلة، ولابد من ان ينتهي الى مخرجات بالنهاية بعد ان يجتهد كل طرف لجعلها لصالحه.
مع مرور الزمن يحصل تراكم مادي ومعنوي يفرزه الصراع ويصبح بمثابة الرأسمال الرمزي للأطراف المتنازعة، لكن الجهة التي ينتهي النزاع لصالحها يتعاظم رأسمالها بشكل كبير ويضاف اليه الكثير ايضا، بينما تفقد الجهة او الجهات الخاسرة رأسمالها الرمزي وتجد نفسها في وضع المدافع وبأدوات لوجستية ضعيفة بالتأكيد!
ويبقى السؤال الأهم هو هل كان الصراع اصلا بين وطنيين وغير وطنيين؟! .. ومن يحق له البت بوطنية جهة ما على حساب الأخرى؟ .. لاشك ان الأمر حساس للغاية، لاسيما اذا ما دخل في لعبة الاستحواذ على السلطة ووضعت له القوانين وحددت له الضوابط! وفي العموم عاشت الكثير من الدول هذه التجربة وعانت من افرازاتها لكنها وبعد سنين ايقنت ان الوطنية وترجمتها في الواقع من قبل اية جهة، ومهما كانت مخلصة، ستصطدم بجهات اخرى رافضة ومختلفة، فيحصل التخوين والتجريم، وان هذه الرؤيا هي التي وقفت وراء دفع الجميع لقتال الجميع وتخوينهم ومن ثم تبرير قتلهم، ماديا ومعنويا، وهو ما حصل في اكثر من بلد في العالم لاسيما خلال الحرب الباردة او قبلها.
الشيء الذي خلصت اليه النخب اليوم وتحديدا في البلدان التي شهدت هذه الاشكالية (الثقافسياسية) هو ان غياب مبدأ تقبل المختلف والتعامل معه على ارضية وطنية مشتركة، وشيوع ثقافة احتكار الحقيقة في تلك الحقبة، كان وراء ماحصل، وان ثقافة تقبل الآخر اليوم يجب ان تستحضر كوارث تلك الحقبة لا بوصفها عبرة بل مبدأ غيبته يقينيات الجميع بامتلاك الحقيقة التي عثر عليها الجميع بعد حين! او بعد ان ايقنوا من صدق الجميع في وطنيتهم ومحاولة ترجمتها خطأ سابقا بطريقة الإقصاء، بينما يجب ان يكون ذلك وفق مبدأ التجاور لا التجاوز والذي انتهى بالجميع الى خسارة بعضهم البعض وخسارة الوطن الذي تحمل شعبه وزر تلك الخلافات العقائدية التي تدعي كل منها انها الفرقة الناجية والمنجية للناس معها!
من الطريف ان يحصل اليوم في العراق صراع لكن على اشكال الشعر، فالحداثيون يرون ان الشعر العمودي لم يعد من الممكن تقبله، والعموديون يرون ان الشعر الحديث لاينطوي على شيء وقد شهدنا مطارحات ومناكفات حول هذا الأمر.. بينما يحظى كل من الشكلين بمريدين ومتقبلين، وان تجاور النتاج الابداعي بأشكال مختلفة أمر طبيعي، لأن الحكم اولا واخيرا للمتلقي وهذا هو الحل، الحل الذي غاب عن بال المتصارعين من اصحاب العقائد سابقا قبل ان يجدوه بعد حين .. وهناك من لم يجده الى اليوم!
اضف تعليق