فرنسا تواجه ضغوطاً لمعالجة مشاكل ديونها، ويكاد يكون من المؤكد أنها ستحتاج إلى اتخاذ إجراءات مالية حاسمة قبل نهاية العام، وببساطة اكثر، لا تستطيع فرنسا أن تتحمل مستوى عدم اليقين الذي تواجهه الآن، بسبب صعود اليمين المتطرف، وتراجع الوسط ونفور الاخير مع اليسار، ما يعني ان...

اجريت يوم الاحد الموافق ٣٠/٦/٢٠٢٣ الجولة الاولى من الانتخابات التشريعية المبكرة في فرنسا، وفاز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبين بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية في هذه الجولة، حيث تم الإدلاء بحوالي 33% من الأصوات لصالح هذا الحزب، وحصل ائتلاف الأحزاب اليسارية على نحو 28% من الأصوات، بينما حصل حزب الوسط (الجمهورية الى الامام) بزعامة الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي خاض مقامرة كبيرة بالدعوة لإجراء انتخابات مبكرة الشهر الماضي، عُدت بمثابة استفتاء جديد على رئاسته وتحديد الموقف من اليمين المتطرف على نحو 20%.

لاشك أن نتائج تصويت يوم الاحد كانت مفزعة بالنسبة لفرنسا وتحديداً للرئيس ايمانويل ماكرون، نظراً لسجل حزب الجبهة الوطنية باعتباره حزباً يمينياً متطرفاً متشككاً في أوروبا، والذي تتضمن أجندته المناهضة للهجرة التمييز بين المواطنين الفرنسيين على أساس أصولهم الوطنية. ولكنها أيضاً لا توفر قدراً كبيراً من اليقين، خاصة وأن الأمور من الممكن أن تتغير بسرعة بين الجولتين الأولى والثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية، والتي تفصل بين الجولتين أسبوع واحد فقط. ومع ذلك، فإن التصويت يشير بوضوح إلى بعض الامور ومنها:-

اولاً: ما كان يعتبر ذات يوم سقف الجولة الثانية لحزب التجمع الوطني بنسبة 30% إلى 40% من الأصوات أصبح الآن سقف الجولة الأولى، لقد كان هذا الحزب منبوذاً لمدة طويلة باعتباره من المحرمات في السياسة الفرنسية، وهو الآن في موقع قيادي في عدد كافي من الدوائر الانتخابية التي تجعله يتمتع بالمسار الداخلي لينتهي كأكبر حزب في البرلمان، بل وربما يفوز بالأغلبية المطلقة، وبطبيعة الحال، هذه النتيجة ليست مضمونة على الإطلاق، وقد بدأت الائتلافات اليسارية والوسطية بالفعل في عقد اتفاقيات للعمل معاً في العديد من السباقات الانتخابية التي تضم ثلاثة مرشحين من أجل منع حزب الجبهة الوطنية من الفوز بتلك المناطق.

ولكن من الواضح أن كل ما كان من المحرمات التي كانت لا تزال مرتبطة بالحزب الجمهوري قد انتهى الآن منذ فترة طويلة. بل على العكس من ذلك، فهو الآن الحزب المنفرد الأكثر شعبية في فرنسا.

ثانيا: مثل انتخابات البرلمان الأوروبي قبل شهر، كان هذا التصويت بمثابة تنصل واضح من قبل الناخبين الفرنسيين لماكرون وائتلافه الوسطي، وقد تلقى بالفعل نداء استيقاظ مماثل في الانتخابات البرلمانية في عام 2022، عندما فشل ائتلاف حزب التجمع الوطني "Ensemble" في الفوز بالأغلبية بعد أشهر قليلة من فوز ماكرون بولايته الثانية. ولكن كما أظهرت نتائج الأحد، فمن الواضح أنه لم يستوعب أياً من الدروس المستفادة من هذا التوبيخ الانتخابي.

ثالثا: ان قرار ماكرون بالدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة في المقام الأول كان بمثابة مقامرة غير مضمونة النتائج، ماكرون كان يعتقد أن حله المفاجئ للبرلمان من شأنه أن يعيد الناخبين الفرنسيين إلى "رشدهم" ويحشدهم لإبعاد اليمين المتطرف عن السلطة بعد صعودهم في البرلمان الاوروبي. لكن هذه الانتخابات المبكرة عملت على حشد الناخبين للمشاركة والتصويت ضده، حيث أدلوا بأصواتهم بنسبة 67%، وهو أعلى مستوى منذ 40 عاماً، وأعلى بنسبة 20% مما كانت عليه في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية لعام 2022. لكن من الواضح أنهم فعلوا ذلك للتعبير عن سخطهم العميق تجاه ماكرون، وصوتوا لليمين المتطرف وفقاً لذلك.

رابعا: إلى أي مدى سيتعاون ائتلاف ماكرون مع ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري من خلال سحب المرشحين في مبارزات ثلاثية من أجل منع حزب الجبهة الوطنية اليميني من الحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان؟، اذ تتمثل العقبة الرئيسة أمام تعاونهم في النفور السائد بين أعضاء يمين الوسط في حزب التجمع الوطني Ensemble، مع ائتلاف فرنسا الابية La France Insoumise (LFI))، الحزب المهيمن في الائتلاف اليساري وزعيمه المثير للجدل جان لوك ميلينشون، وقد استبعد العديد من زعماء يمين الوسط، بما في ذلك أحد الوزراء العمل مع LFI.

وحتى لو لم يفز حزب التجمع الوطني بأغلبية مطلقة، فإن هذا العداء المتبادل يمكن أن يمنع أيضاً أحزاب الوسط واليسار من تشكيل ائتلاف حاكم غير رسمي، على الرغم من أنه من غير المرجح أن يتمكنوا من تحقيق الكثير إذا فعلوا ذلك، وكل هذا يعني أن فرنسا ستعاني من شلل سياسي داخلي بصرف النظر عن نتائج الجولة الثانية.

خامسا: سيحتفظ ماكرون بسلطاته الرئاسية للإشراف على السياسة الخارجية والدفاعية، لكنه سوف يكون بمثابة (بطة عرجاء) في الداخل خلال السنوات الثلاث المتبقية من ولايته الثانية والأخيرة. كما انه سيكون غير قادر على الدعوة لإجراء انتخابات جديدة لمدة عام آخر واستبعاد الاستقالة، اذ بطبيعة الحال هو يدرك ان استقالته لن تؤدي إلا إلى المزيد من عدم اليقين وربما المزيد من الضرر للسياسة الفرنسية، في أسوأ توقيت سيؤدي الى الشلل السياسي لا محالة.

اخيرا، ان فرنسا تواجه ضغوطاً لمعالجة مشاكل ديونها، ويكاد يكون من المؤكد أنها ستحتاج إلى اتخاذ إجراءات مالية حاسمة قبل نهاية العام، وببساطة اكثر، لا تستطيع فرنسا أن تتحمل مستوى عدم اليقين الذي تواجهه الآن، بسبب صعود اليمين المتطرف، وتراجع الوسط ونفور الاخير مع اليسار، ما يعني ان فرنسا ستواجه تحول سياسي مؤثر في المرحلة المقبلة او ستدخل نفق الانسداد السياسي الذي سيجعل عجلة الحياة السياسية متوقفة ما لم يتدارك الوسط واليسار نتائج هذا التحول في خيارات الناخب الفرنسي نحو اليمين المتطرف ودراسة اسبابه ومواجهته، لان خلاف ذلك سينعكس على معظم دول اوروبا في انتخاباتها الداخلية، فضلا عن انتخابات البرلمان الاوروبي.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2024 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق