أن الإنسان ليس كائنا بيولوجيا أو فسيولوجيا أو ماديا فحسب، وإنما هو كائن فيه أيضا نفخة من روح الله، تجعله يتطلع دوما إلى التكامل المعنوي، والسمو الروحي، والارتباط بالمثل العليا. وخصلة سجود الملائكة جاءت تكريما للإنسان، لكي يعرف الإنسان منزلته، وأن الله سبحانه كرمه وعرفه بهذا...

حتى هذه اللحظة تعد الكتابات والمؤلفات التي تناولت الحديث عن النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، قليلة ونادرة في المجالين العربي والإسلامي، ولم يلتفت كثيرا إلى هذا الجانب فحصا ودراسة وتصنيفا، مع وفرة الكتابات والمؤلفات حول القرآن، والتي لم تتوقف أو تنقطع منذ العصور القديمة والوسيطة وحتى هذه العصور الحديثة والمعاصرة، بأصنافها الوجيزة والوسيطة والمطولة، وعلى مختلف أقسامها ومستوياتها، وتعدد وتنوع ميادينها ومجالاتها.

والسؤال المركزي الذي يطرح عند طرق هذا الموضوع هو: هل يمكن الحديث عن نزعة إنسانية في القرآن؟ وهل توجد مثل هذه النزعة في كتاب إلهي؟

منشأ هذا السؤال بهذه الطريقة التي يغلب عليها الطابع الإشكالي والاحتجاجي، هو أن البعض قد يرى افتراق وتباعد الجانب الإلهي عن الجانب الإنساني، بصورة لا يمكن الجمع بينهما أو التجاور أو التضايف، وذلك على أساس أن كل ما هو إلهي لا علاقة له بالجانب الإنساني، وكل ما هو إنساني لا علاقة له بالجانب الإلهي، إلا من طرف بعيد.

واستنادا على هذا الموقف، فإن اعتبار القرآن كتابا إلهيا فلا صلة له بالجانب الإنساني، الأمر الذي يترتب عليه القول بأنه لا يمكن الحديث عن نزعة إنسانية في القرآن، لأنه لا توجد مثل هذه النزعة في كتاب إلهي.

ومشكلة هذا الرأي أنه يتسم بالتحيز الواضح، وينزع نحو التطرف والغلو، ويغلب عليه الطابع الأيديولوجي، ويبتعد عن الطابع المعرفي، وجاء لإغلاق الطريق أمام إمكانية البحث والتعرف على مثل هذه النزعة الإنسانية في القرآن، وتفويت هذه الفرصة، وجعلها خارج نطاق التأمل والنظر والبحث.

كما أن هذا الرأي يجنح نحو الإسقاط الديني والتاريخي، بإسقاط ما حدث على الموقف الديني المسيحي خلال العصور الوسطى في أوروبا، وإسقاطه على الموقف الديني الإسلامي خلال العصور الحديثة والمعاصرة، من دون الالتفات إلى ما بين الوضعين من تباينات وفروقات دينية وتاريخية واضحة وصريحة، وحتى مع الالتفات إلى هذه التباينات والفروقات التي لا تأثير لها في نظر القائلين بهذا الرأي.

ومن جانب آخر، فإن هذا الرأي لم يعد له ذلك التأثير والاعتبار الذي كان عليه من قبل، حين كان هذا الرأي يحظى بالأهمية والتأثير والاعتبار في الثقافة الغربية، التي تولد منها هذا الرأي، وارتبط بمجالها الثقافي والديني، وفي وقت لاحق تراجع هذا الرأي عند الغربيين، وفقد سطوته، واستنفدت حاجته الوظيفية، وظهر هناك ما بات يعرف بالإنسانيات الدينية، أو الإنسانيات المسيحية، ومع هذا التراجع في الثقافة الغربية للرأي المذكور، تراجعت قيمته وتأثيراته في المجال العربي، تطبيقا للقانون الخلدوني بولع المغلوب بالغالب.

والمفارقة المدهشة في هذا الشأن، أن الموقف القرآني ليس فقط يثبت ويؤكد وجود مثل هذه النزعة الإنسانية، وإنما يثبت أيضا تفوق هذا الموقف القرآني وبلا قياس أو مقارنة على مواقف القائلين بهذه النزعة، والمتبجحين بها في المجالين العربي والإسلامي.

ومن هذه الجهة يرى الدكتور علي سامي النشار أن المذهب الإنساني في القرآن مذهب رائع أخاذ، ومن المؤكد في نظره أن القرآن لم يترك نظرية أو مذهبا فلسفيا شغل به العقل الإنساني، دون أن يبحث فيه، ويضع أصوله العامة.

المدخل

إن أول ما يمكن الرجوع إليه عند البحث عن النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، هو ما كشفه لنا من حديث عن الإنسان خلقا ووجودا في أول عهده بهذا العالم، وهذا الحديث يمثل لنا أوثق رواية نطمئن لها بيقين تام عن بداية وجود وظهور الإنسان على كوكب الأرض، متمثلا في خلق أدم وحواء.

في هذا الحديث، أشار القرآن إلى ثلاث خصال، عرف وتميز بها الإنسان بوصفه إنسانا مكلفا ومسؤولا، هذه الخصال الثلاث هي:

أولا: خصلة العلم، قال تعالى (وعلم أدم الأسماء كلها) – سورة البقرة: 31-

ثانيا: خصلة النفخ من روح الله، قال تعالى (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) – سورة ص: 71-72-

ثالثا: خصلة سجود الملائكة، قال تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا) – سورة البقرة: 34-.

وعند النظر في هذه الخصال الثلاث، يمكن القول إن خصلة العلم ميزت الإنسان بهذه الصفة، وأظهرته بوصفه كائنا له قابلية التعلم واكتساب العلم، وعلى أساس أن صلته بالعلم صلة لا تنقطع، والحكمة من هذه الخصلة، ضرورة أن يتخذ الإنسان من العلم وسيلة لتكميل ذاته، ونفي الجهل عن نفسه، ومن أجل أن يحافظ على صلته بالعلم من المهد إلى اللحد، أي بلا توقف أو انقطاع، فبالعلم تكتمل إنسانية الإنسان، ويزداد شرفا وكرامة، ويستطيع النهوض بواجباته ومسؤولياته.

وخصلة النفخ من روح الله، أظهرت الإنسان بأعظم صفة يتميز بها على كافة الكائنات والمخلوقات في هذا الوجود، كما أنها أكثر صفة ترفع منزلته ومكانته، وهي الصفة التي كشفت عن صلة الإنسان الروحية بالله سبحانه، وعدت هذه الصفة من الأسرار التي يصعب على الإنسان أن يحيط بها علما، وهذا ما كشفه القرآن في قوله تعالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)- سورة الإسراء: 85-.

وهذا يعني أن الإنسان ليس كائنا بيولوجيا أو فسيولوجيا أو ماديا فحسب، وإنما هو كائن فيه أيضا نفخة من روح الله، تجعله يتطلع دوما إلى التكامل المعنوي، والسمو الروحي، والارتباط بالمثل العليا.

وخصلة سجود الملائكة جاءت تكريما للإنسان، لكي يعرف الإنسان منزلته، وأن الله سبحانه كرمه وعرفه بهذا التكريم، والملائكة الذين سجدوا له بأمر من الله، هم الذين يسبحون بحمد الله ويقدسون له، وأنهم يمثلون رمز الخير والطاعة والطهارة، ولم يكن هذا السجود لأدم الفرد، وإنما لأدم بوصفه نوعا إنسانيا.

بهذه الخصال الثلاث عرفنا القرآن الكريم عن بداية ظهور ووجود الإنسان في هذا العالم، وهي الخصال التي ترفع منزلته ومكانته حين ينظر إلى ذاته من جهة، وحين ينظر إلى غيره من جهة أخرى، بقصد أن يتطلع الإنسان إلى التكامل والكمال، ويكون من أهل الكمال، لا من أهل النقص والنقصان.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق