لغة التسامح وتقبل الاخر والتفاهم معه والتعاون بما يحقق الهدف الانساني العام سمة وصفة من الصفات التي ينبغي على التربويين والقائمين على العملية التربوية والمعنيين بها، ليس فقط من معلمين او مشرفيين او واضعين للمناهج الدراسية فحسب، بل ائمة المساجد ورجال الدين والمصلحين الاجتماعيين والفلاسفة والسياسيين...

ترى المدرسة السلوكية في علم النفس ان الانسان يأتي الى الدنيا مثل الصفحة البيضاء، تتحكم به غرائزه الفطرية التي فطرها الله فيه، وهي التي تدفعه الى قضاء حوائجه من تناول الغذاء والنوم والعمليات الاخراجية، يشعر بالسعادة والارتياح عند تحقيق حاجاته، فيعكس هذا الارتياح بابتسامة فطرية مثلا، او يشعر بالضيق والالم عند عدم تحقيق هذه الحاجات، فيعكس هذا الضيق بالبكاء او تقطيب الوجه. 

وهكذا تبدأ البيئة تدون ما تعتقده او تؤمن به في هذه الصفحة البيضاء وبمرور الزمن يصبح هذا الانسان نسخة من البيئة التي عاش فيها، وبالتالي فان الناس يختلفون في المعايير القيمية التي تربوا ونشئوا عليها، فتختلف معايير الاحكام طبقا لهذا الاختلاف والتباين، فما هو مرغوب او مقبول لدى انسان قد يكون غير مرغوب او مقبول لدى انسان اخر تختلف معاييره القيمية التي تربى عليها، ومن ثم لايعني هذا ان الاختلاف في الدين او القومية او اللغة او العادات او التقاليد او المعايير الاجتماعية بين الامم والشعوب حالة سلبية او مرفوضة، بل هي حالة ايجابية، كي يسعى الانسان من خلالها لمعرفة اخيه الانسان الذي تربى ونشأ في بيئة مختلفة وقيم مختلفة.

 وبهذا تتكامل عناصر المعرفة والاكتشاف والابتكار بنوعيها الادبية والعلمية في الفطرة البشرية التي فطرها الله سبحانه وتعالى ووفر امكانياتها فيه من اجل الاكتشاف والابتكار والتطور والسعي لتوفير كل ما يجعل حياة الخليفة الذي اختاره الله في خلقه العظيم ليأخذ مكانته وموقعه الذي ارتضاه وحباه الخالق العظيم له على هذه الأرض.

 فمجموع الخبرات الانسانية التي افاده منها الانسان في جميع العصور والمراحل التاريخية هي نتيجة هذا الاختلاف فيما بين الامم وخير ما يتمثل في هذا قوله تعالى في محكم آياته البينات ((يأيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير))، فالإنسان ابن بيئته كما يقول علماء التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع، فلا ضير من الاختلاف والتباين في التربية، بل الفائدة كل الفائدة فيما تضيفه التربة والتنشئة المختلفة للحضارة الانسانية، طالما تسعى في غايتها السامية لخدمة الانسانية على الرغم من الاختلافات الموجودة فيها.

التربية في مراحل الطفولة المبكرة

يكاد ان يكون الطفل الانساني اكثر مخلوق اتكالي على والديه بمدة ليست بالقليلة بعد الولادة، اذ نلاحظ صغار بعض الحيوانات تبدأ الاعتماد على نفسها في وقت مبكر جدا قياسا بالطفل الانساني، فعلى سبيل المثال تبدء صغار اللبائن مثل الابقار بعد مرور ساعات محدودة الوقوف على ارجلها والحركة واستكشاف المكان الذي يحيط بها، وهذا ما يمكنها من تحقيق الاستقلالية الفردية في وقت قصير جدا، وكلما انحدرنا الى المراتب الادنى في سلم التطور الحيواني نلاحظ ان مدة هذا الاستقلال تكون قصيرة، فبعض صغار الحيوانات تسعى للبحث عن طعامها –وهذا يعني استقلالها واعتمادها على نفسها في زمن مبكر– فور ولادتها.

 فاذا نظرنا مليا في الحكمة من هذا الامر وجدناها عظيمة، اذ ان طول طفولة الانسان والتي قد تمتد الى احدى عشر سنة تقريبا، تمكن الاسرة التي ينشأ فيها الطفل من تلقينه التربية الاسرية من قيم دينية وعادات وتقاليد فضلا عن اللغة، وبالتالي تعد هذه فترة الاعداد الاولي للطفل قبل انخراطه في المجتمع الكبير الذي تنتمي اليه هذه الاسرة، والتي سيكتسب منه قيم واتجاهات تؤمن او تعتقد بها الجماعة المرجعية التي تنتمي لها هذه الاسرة.

 من خلال ذلك يمكن تفسير اسباب الاختلافات بين الافراد من مجتمعات متعددة في اتجاهاتهم او عاداتهم او تقاليدهم او دينهم او لغتهم، وقد اشار الرسول الكريم (ص) الى هذه الحقيقة بشكل واضح وجلي قبل الف واربعمائة سنة عندما قال (يولد الانسان على الفطرة، وانما ابواه يهودانه او ينصرانه او يمجسانه)، اي ان البيئة الاجتماعية هي التي تصنع شخصية الانسان بجميع محتوياتها ومنها الدين او اللغة او العادات او التقاليد.

ان مبدأ تقبل الاخر كما هو من المبادي الحضارية والمدنية الرائعة والجميلة التي يفضل على التربويين الالتفات لها في زمننا الحاضر بعد التطورات والتبدلات السريعة التي حدثت في جميع مناحي الحياة الانسانية سواء في المجالات العلمية او التكنلوجية او وسائل الاتصال الحديثة والاعلامية، مما جعل التقارب والتواصل بين شعوب وقوميات الكرة الارضية في العقود الاخيرة من القرن العشرين وبداية الالفية الثالثة متيسرة وسريعة ومتداخلة الى الدرجة التي جعلت البعض يصف عالم الانسان اليوم بانه عبارة عن قرية صغيرة، فالاخبار السياسية او العلمية تنتقل من مشرق الارض الى مغربها او من شمالها الى جنوبها خلال دقائق او ساعات معدودة، وليس كما كان في العهود الماضية، فضلا عن سعى الانسان الى اقتناء كل ما هو جديد وحديث في مختلف الجوانب الخدمية او الكمالية التي تخص حياته.

يجب ان لا يؤدي هذا التقارب والدنو بين الاقوام والشعوب المختلفة في ارجاء الارض الى التصارع والتطاحن وسيادة شريعة الغاب التي اراد الله سبحانه وتعالى عن طريق كتبه و انبياءه ورسله ان يبعدها عن الطبيعة البشرية التي تميل في فطرتها الى الاجتماع والائتلاف والتعون مع الاخرين من جنس الانسان، وهو ما يقال عنه في علم النفس والاجتماع ان الانسان كائن اجتماعي لايمكن له ان يعيش وحيدا بمعزل عن ابناء جنسه الاخرين.

بل يجب ان تسود وتطغى لغة تقبل المخالف والحوار والتصالح والالتقاء في جميع الجوانب التي تقود الى خدمة الانسانية جميعا، بدلا عن الحروب والصراعات والدمار والتخريب والتهميش ومحاولات القضاء على الاخر والتي لاتصب في خدمة الانسان نفسه ورسالته السامية التي القاها على عاتقه خالق السموات والارض وبديعهما تعالى الله علوا كبير عن مخلوقاته. 

فلغة التسامح وتقبل الاخر والتفاهم معه والتعاون بما يحقق الهدف الانساني العام سمة وصفة من الصفات التي ينبغي على التربويين والقائمين على العملية التربوية والمعنيين بها، ليس فقط من معلمين او مشرفيين او واضعين للمناهج الدراسية فحسب، بل ائمة المساجد ورجال الدين والمصلحين الاجتماعيين والفلاسفة والسياسيين والعلماء في مختلف التخصصات الانسانية والعلمية ورجال الاقتصاد والقانون، كل اولائك تقع عليهم مسؤولية تربية واعداد وارشاد وتوجيه وتوعية واصلاح الاجيال الناشئة للمشاركة الفعالة في تطور ونمو ورقي الانسانية.

ان تقبل الانسان الاخر كما هو فطرة انسانية فطرها الله سبحانه وتعالى في عباده لاحظها الدارسون والباحثون لسلوك الاطفال منذ امد ليس بالقليل، اذ لاحظ هؤلاء ان الاطفال في رياض الاطفال يميلون الى التجمع واللعب الجماعي والمشاركة الجماعية الفعالة في النشاطات التي يكلفون بها، مما يعني ان المعتقدات الفكرية التي لم يكتسبها الطفل بعد من خلال سلسلة العمليات التربوية والتنشئة في الاسرة والمجتمع تؤثر بشكل او آخر في وجود فجوات عدم تقبل الآخر او الاندماج والتعاون والتسامح معه، وبالتالي فإننا اذا اردنا ان ننمي فلسفة التسامح والتقبل والتفاعل مع الاخرين المخالفين سواء في العادات او التقاليد او المعتقدات الدينية او الفكرية او السياسية.

 لابد علينا ان نغرسها وننميها في الاطفال الصغار وبعمر مبكر جدا كي نضمن انشاء جيل يساهم مساهمة بناءا في خدمة مجتمعه الكبير بمختلف قومياته واديانه ومذاهبه واثنياته، وليس هداما تتمالكه النزعات والرغبات الى محاربة ومقاتلة والغاء وتهميش الاخر مهما كان، وهذا ما يتعارض مع الفكرة الفلسفية الاصيلة والاصلية التي اكدتها جميع الديانات السماوية وغير السماوية قبل ان تدخل ضمن طيات بعضها فلسفة الكره والرفض للمخالفين من قبل بعض المجتهدين الذين ذهبوا باجتهادهم وآرائهم بعيدا عن الاصول الحقيقية لسماحة الدين كما جاءت في عديد من النصوص السماوية والوضعية. ويمكن للتربويين ان يؤسسوا لهذه الفلسفة التربوية اجراءيا عن طريق جملة من الاجراءات قد تتضمن:

- تشجيع الاطفال على اللعب الجماعي والمشاركة الجماعية في النشاطات التربوية دون تمييز في الدين او القومية او المذهب او اللون او الجنس او الحالة الاجتماعية للأسر، هذا التشجيع من قبل التربويين للأطفال ينمي لديهم احترام ومعرفة الاخر المخالف وتقبلهم دون تحفظات.

- تثقيف الآباء على غرس فلسفة التسامح والتقبل في تشكيل شخصيات اطفالهم المستقبلية، وعدم بث الكراهية مبدئيا بأفكار الاخرين، بل توضيح الامور لهم بشكل موضوعي وحقيقي بعيدا عن الاحكام الذاتية وغير الواقعية، لأنها تساهم في غرس الافكار العدائية والتحقير والتصغير لمعتقدات الاخرين، وبالتالي تدفع هذه نحو التصادم بدل التعايش السلمي وهو المطلب الانساني والتربوي الذي يسعى اليه جميع المخلصين والطيبين في هذا العالم.

- إعداد مناهج تربوية تحث على ثقافة التسامح والتقبل والتسامح في جميع المراحل الدراسية للأطفال في المرحلة الابتدائية، لاسيما في البلدان التي تحوي طيف مختلف من القوميات والديانات والمذاهب والمعتقدات السياسية المختلفة.

- عقد حلقات ودورات ونشاطات تثقيفية باستخدام جميع الامكانيات التقنية مثل السينما وشبكة الانترنت واجهزة الفيديو واجهزة العرض المختلفة لعرض افلام او تسجيلات او محاضرات او معلومات مصورة عن عادات وتقاليد واديان ولغات الشعوب والقوميات المختلفة لغرض تعريف الاطفال بها ومعرفة حقيقتها باسلوب علمي موضوعي شيق وتربوي في ذات الوقت. وهناك اجراءات تربوية اخرى عديدة يمكن توظيفها لتؤدي ذات الغرض والهدف، وبما يناسب المراحل المختلفة من اعمار الاطفال.

اننا اذا اردنا ان نؤسس وننمي الفكرة التسامحية لتقبل المخالفين والمختلفين في الدين او اللغة او القومية او العادات والتقاليد ودون المساس بالمعتقدات الاصلية المختلفة التي يؤمن بها هؤلاء الناس، فان الامر يتطلب منا ان نبدأ من الاساس، من الصغار نربيهم ونعلمهم ونغرس فيهم مبادئ التسامح والتقبل والانصات للآخرين المخالفين، ونبعد عنهم كل فكرة تقود الى التصادم والتخالف والتقاتل مع المخالفين، وهو عكس ما اشارت اليه كثير من الآيات المحكمات في القران الكريم او الحديث النبوي الشريف او سيرة ال البيت في ديننا الاسلامي مثلا.

 والامر ينطبق ايضا على اتباع الديانات الاخرى كل بتاريخه وشواهده وادلته التي لا يختلف عليها اثنان من اتباع ذلك الدين، فاذا نجحنا في تحقيق اي نسب من النجاح من الهدف السامي هذا، نكون قد ساهمنا مساهمة فعالة في تقدم ورقي ونمو الحضارة الانسانية في فكرها وعلمها وتقدمها، ونكون ايضا اسسنا لتصالح الحضارات هذه بدل عن تصادمها الذي قد يفضي الى القتل والحرب والتدمير، مما يؤدي الى دمار الحضارة الانسانية وخرابها وتخلفها بدلا من تقدمها ورقيها كما اراد لها الله ورسله وانبياءه والصالحون والمصلحون من عباده في كل مكان وزمان وطوال عصور التاريخ التي مرت على هذه الارض بصالحها وطالحها.

* نشر في شبكة النبأ المعلوماتية – آيار 2005 / ربيع الثاني 1426

اضف تعليق