الازمة القانونية الحاصلة مؤخراً تعكس تكرار الخلافات المتجددة بين مجلس القضاء الاعلى والمحكمة الاتحادية والتي سببها الاساس التصميم الدستوري المرتبك للسلطة القضائية في العراق، اذ حدد الدستور عدة فروع لهذه السلطة ولم يتناول الا فرعين فقط فضلا عن تجاهله لمحكمة القضاء الاداري (مجلس الدولة) التي ذكرها...

اصدرت الهيئة العامة لمحكمة التمييز الاتحادية بتاريخ ٢٩/٥/٢٠٢٤ قرارها ذي العدد (٤) الذي ورد فيه: اعتبار اي قرار او حكم صادر من المحكمة الاتحادية معدوماً اذا كان ماساً ومتعلقاً بالشأن القضائي، اذ اعتبر قرار محكمة التمييز ان قرار المحكمة الاتحادية رقم ١٠٢ لسنة ٢٠٢٤ في ١٥/٤/٢٠٢٤ (الذي عدل نص قانوني نافذ قانون التقاعد الموحد رقم ٩ لسنة ٢٠١٤، وتحديدا المادة ٣٥- رابعاً-أ-٤ "الذي يتعلق بالإحالة على التقاعد لعدد سنوات الخدمة المطلوبة في السلك القضائي للاحالة، وبالتحديد المستفيد كان احد قضاة المحكمة الاتحادية العليا الذي استقال قبل مدة وجيزة في مؤتمر صحفي محتجاً على قرار المحكمة الاتحادية بخصوص انتخابات اقليم كردستان واصفا اياه بمخالفة احكام الدستور!، ليقدم طلباً الان بالاحالة على التقاعد!)، قراراً خارج عن اختصاصها ولاتملك مثل هكذا صلاحيات، وان القول بخلاف ذلك يكون ضرباً بالصميم وخرقاً واضحاً لمبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليها في نص المادة ٤٧ من الدستور.

وعدت محكمة التمييز أن قرار المحكمة الاتحادية ولد ميتاً ويعتبر معدوماً والحكم المعدوم كأن لم يكن ولايرتب اي اثر قانوني وغير قابل للتنفيذ مطلقاً وقد صدر خلافاً لقواعد الاختصاص، وان المحكمة الاتحادية تجاوزت صلاحياتها الدستورية الى صلاحيات السلطة التشريعية المتمثلة في مجلس النواب باعتبار ان ماقامت به يعد تعديلا لتشريع نافذ وهذا من صلاحيات مجلس النواب.

القرار التمييزي اعلاه سبب ازمة دستورية قانونية في تحديد لمن له الولاية القضائية والسلطة الرقابية في النظام القضائي العراقي؟ فهناك من اعتبر ان المحكمة الاتحادية اعلى سلطة قضائية في العراق بموجب دستور ٢٠٠٥ باعتبار ان قراراتها باتة وملزمة للسلطات كافة، حسب نص المادة ٩٤ من الدستور بما فيها مجلس القضاء الاعلى وفروعه ومن ضمنها محكمة التمييز الاتحادية.

في حين يرى آخرون ومنهم المحكمة ذاتها: ان القرار التمييزي اعتمد على نص المادة ١٢ من قانون التنظيم القضائي رقم (١٦٠) لسنة ١٩٧٩ النافذ والذي نص على ان "محكمة التمييز هي الهيئة القضائية العليا التي تمارس الرقابة القضائية على جميع المحاكم ما لم ينص القانون على خلاف ذلك، وتتألف من رئيس وخمسة نواب للرئيس وقضاة لا يقل عددهم جميعا عن ثلاثين ويكون مقرها في بغداد".

تم تفسير هذا النص القانوني من قبل محكمة التمييز، بأنه يجيز لها ممارسة السلطة الرقابية القضائية على جميع اختصاصات المحاكم، وهذا النص حسب تفسيرهم يضع العلوية لمحكمة التمييز على جميع المحاكم بما فيها صلاحيات المحكمة الاتحادية المحددة وفقاً للمادة ٩٣ من الدستور والتي لم تتطرق الى استثنائها من هذا القانون، وان المحكمة الاتحادية العليا لها صلاحية إعتبار النص القانوني دستوري من عدمه ولاتمتلك صلاحية تعديل القانون.

وحسب هذا القرار التمييزي ضد قرار المحكمة الاتحادية سالف الذكر، برز اتجاه قضائي جديد لم يحصل سابقا وضعته محكمة التمييز بأن الولاية والرقابة القضائية تخضع لمحكمة التمييز وتكون نافذة على جميع المحاكم وبما فيها المحكمة الاتحادية استناداً لقانون التنظيم القضائي المذكور، ولم ترد المحكمة الاتحادية لغاية الان على هذا الاتجاه الجديد.

في الحقيقة ان ماجاءت به محكمة التمييز الاتحادية انهى سلطة الرقابة القضائية التي كانت تتمتع بها المحكمة الاتحادية وحددت صلاحياتها الباتة والملزمة في حدود اختصاصها إما اذا تجاوزت صلاحياتها فقراراتها ستكون معدومة وكأنها لم تكن، والقرارات المعدومة واقعة مادية وليست قانونية فلا حصانة لها ولا تحوز حُجية الآمر المقضي به، ومن اثار القرارات او الاحكام المعدومة، عدم قابليتها للتنفيذ لدى اي جهة؛ لأنها منعدمة الاثر القانوني ولاوجود لها في الحقيقة والواقع، حسب مايذهب اليه فقه القانون والمبادئ القضائية المعروفة.

ان التمعن بصيغة قرار محكمة التمييز الاتحادية اعلاه سنجد فيه رصانة تظهر مخالفة صريحة لقرار المحكمة الاتحادية المعني بتعديل تشريع قانوني نافذ خارج اختصاصها، من اجل حصول احد قضاتها المستقيلين على نسبة ٨٠٪ من كامل الراتب الاجمالي عند طلبه الاحالة على التقاعد وفقاً للقانون، دون ان يكمل خدمة ٣٠ سنة في العمل القضائي والادعاء العام حسب ماحدده قانون التقاعد الموحد، وكان الاجدر ان تنقض المحكمة الاتحادية هذه المادة من القانون، ليشرع مجلس النواب تعديلا للمادة المذكورة، ولا يحسم امر الاحالة على التقاعد براتب ٨٠٪ للقاضي المذكور الا بعد تشريع تعديل جديد لهذه المادة من قبل مجلس النواب حصرا.

لكن المشكلة ليست بصوابية القرار من عدمه، بل من له الولاية والرقابة القضائية في العمل القضائي للمحاكم، وكيف يمكن البت والطعن في قرارات المحكمة الاتحادية اذا خالفت اختصاصاتها المحددة بالدستور والقانون، خاصة وانها بدأت تتدخل بالجوانب السياسية والتشريعية، وهي ترتكز في ذلك على المادة ٩٤ من الدستور، وايضا على النص الدستوري الثابت: "لايعمل بأي نص قانوني يتعارض مع احكام الدستور" وهذا يشمل المادة ١٢ من قانون رقم ١٦٠ لسنة ١٩٧٩، وان خضوعها لولاية ورقابة محكمة التمييز منعدم لان المحكمة الاتحادية محكمة قضاء دستوري وليست قضاء عادي وبالتالي لا ولاية لمحكمة التمييز عليها والخوض خلاف ذلك يفرغ النص الدستوري من محتواه ويصبح القانون له العلوية على النص الدستوري.

في الحقيقة ان الازمة القانونية الحاصلة مؤخراً تعكس تكرار الخلافات المتجددة بين مجلس القضاء الاعلى والمحكمة الاتحادية والتي سببها الاساس التصميم الدستوري المرتبك للسلطة القضائية في العراق، اذ حدد الدستور عدة فروع لهذه السلطة ولم يتناول الا فرعين فقط فضلا عن تجاهله لمحكمة القضاء الاداري (مجلس الدولة) التي ذكرها في مادة عامة ختامية فيها تداخل في تحديد المهام.

هذا الارتباك ومع عدم تشريع قانون المحكمة الاتحادية والاشكالات الواردة في قانون مجلس القضاء الاعلى التي تثيرها المحكمة الاتحادية، ومشاكل الموازنة السنوية ومن يشرف على من ومن يسود من؟.. ستستمر لان طبيعة هذه الخلافات بين الفرعين ليست حول فقهية تفسير الدستور والقوانين بل سياسية وادارية في الغالب.

والحل هو تعديل دستوري لإعادة تصميم السلطة القضائية بشكل متوازن وفعال يعطي لفروع القضاء صلاحيات واختصاصات متوازنة مستقلة تضمن عدم امكانية تجدد هذه الخلافات بين فروع القضاء وهذا مستعبد جداً، ولهذا لابد من الركون الى تشريع قانون جديد موحد للسلطة القضائية يتولى معالجة هذه الارتباكات ويحقق التوازن بين فروع القضاء والفصل بينها عند وجود خلافات قانونية دستورية مع الغاء كل القوانين السابقة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2024 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق