فالمجتمع الذي يعيش التنافر والتباعد مع نخبه، ولا يستفيد من وعيها ومعرفتها في إطار تصحيح أوضاعه، وتقويم الاعوجاج الموجود فيه يعد مجتمعا متخلفا. أما المجتمع الذي يتكامل في الأعمال والأنشطة مع نخبه، ويستفيد من وعيها ومعرفتها في تحسين أوضاعه وتطوير أحواله، يعد مجتمعا متقدما.. لهذا فإن...

دائماً وعبر الحقب التاريخية المتتالية، كانت النخب في المجتمع، تباشر دورها في تطوير الحركة الاجتماعية، وسد ثغرات مجتمعها، وبلورة آفاق مسيرتها وحركتها الجماعية.. عبر صناعة المعرفة وصياغة وعي الأمة باتجاه النهوض وتجاوز العقبات التي تحول دون التقدم والتطور.

وهذا لا يعني أن طريق نشاط النخبة وعملها معبد وميسور، وإنما دائما مليء بالعقبات والعراقيل، مشحون بكل فنون العراك الاجتماعي والسياسي.. ومن هنا كانت النخب في مختلف الأحقاب التاريخية، تقدم التضحيات وتتحمل الصعاب في سبيل الرقي والمصلحة العامة.

وبإمكاننا في هذا الإطار أن نثبت مؤشرا أساسيا لقياس درجة التطور والتخلف في أي مجتمع بشري.

فالمجتمع الذي يعيش التنافر والتباعد مع نخبه، ولا يستفيد من وعيها ومعرفتها في إطار تصحيح أوضاعه، وتقويم الاعوجاج الموجود فيه يعد مجتمعا متخلفا.

أما المجتمع الذي يتكامل في الأعمال والأنشطة مع نخبه، ويستفيد من وعيها ومعرفتها في تحسين أوضاعه وتطوير أحواله، يعد مجتمعا متقدما.. لهذا فإن وجود حالة من التنافر بين المجتمع والنخبة (مع الأخذ بعين الاعتبار ان التنافر قد يكون بفعل عقلية النخبة أو ممارستها أو المعارف والأفكار التي تبشر بها). يعني ان ذلك المجتمع يعيش التراجع، ولا يستفيد الاستفادة المطلوبة من علوم العصر ومعارفه.. كما أن تكامل النخبة والمجتمع عبر تبادل الأدوار والمهمات، يعني أن هذه المجموعة البشرية استطاعت أن تخطو الخطوة الأولى الضرورية والأساسية في مشروع النهوض والانعتاق من إسار المشكلات الداخلية والخارجية، التي تعترض طريق تقدمه وتطوره.

وعلى ضوء هذا نقول: إن المجتمع البشري مهما كان وضعه الاقتصادي والحضاري لا يخلو من وجود نخبة وصفوة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، تمارس دورها وتحافظ على مصالحها وتسعى نحو تحقيق الهيمنة الكاملة لأفكارها وقيمها على المجتمع.

ولكن تتفاوت المجتمعات الإنسانية في حجم نخبها وطبيعتها وجورها، والموقعية التي تتبوأها في الحركة الاجتماعية.

وقبل أن نوضح سبيل التكامل بين النخبة والمجتمع من الضروري أن نوضح دور النخبة المفترض في الوسط الاجتماعي.

صناعة الوعي:

إن الدور الإستراتيجي الذي ينبغي أن تقوم به النخبة في مجتمعها، هو خلق الوعي وتعميم المعرفة في الوسط الاجتماعي.. لأنه لا يمكن للمجتمع أن يمارس دوره ويقوم بواجباته، ويتجاوز عقباته، وينتصر على مشاكله إلا بالوعي.. فهو البوابة الحيوية لكل ذلك.

فالوعي هو الذي يصنع المجتمع القادر على تحمل مسؤوليته والقيام بواجباته، ولم يحدثنا التاريخ عن مجتمع جاهل لا يفقه واقعه ولا يدرك مسؤوليته، استطاع أن يصل إلى تطلعاته أو حقق أهدافه.. دائما الوعي هو الصفة الملازمة إلى المجتمع الحي المتجه صوب أهدافه بجد وحيوية.

فالأفكار هي التي تصنع الأمم والشعوب، لهذا فإن دور النخبة يتجسد في صناعة الأفكار والرؤى التي تقود إلى تنقية الخيارات الاجتماعية، وتحقيق التطلع الحضاري.

فالنخبة (هي الفئة الاجتماعية التي تصوغ وعي الأمة وتقودها.. هي التي تتلقى مشاعر الأمة وآمالها النابعة من حاجاتها الراهنة والمستقبلية والمتأثرة بتاريخها وتراثها، تتلقاها وتحولها إلى وعي، وتحول الوعي إلى إرادة، وتحقق الإرادة في إنجازات، إن النخبة إذ تصوغ وعي الأمة تنقل كل ذلك من لا وعي الأمة الموضوعي إلى حيز الوعي الذاتي.. والنخبة إذ تقود الأمة فهي تنقل نشاطها، في المقابل من حيز العمل اليومي الغارق في الجزئيات، إلى مستوى العمل الإرادي الفاعل النابع من رؤية شمولية).

المساهمة في صناعة الإنجاز:

مهما يكن جسم النخبة وفعاليتها وإمكاناتها، فإنها ليست بديلا عن المجتمع وحركته.. ويخطئ من يعتقد أن النخبة بوعيها الفذ وأنشطتها المتواصلة، تشكل بديلا مستمرا عن حركة المجتمع.. لذلك فإن دور النخبة ليس الإحلال محل المجتمع، وتأدية أدواره، والقيام بمهامه، وإنما دور النخبة بالدرجة الأولى يتجسد في صناعة الرأي وتوضيح سبل التقدم، والمساهمة في خلق العوامل الذاتية والموضوعية لانطلاقة المجتمع ومباشرة دوره الحضاري.

المحافظة على الإنجاز:

إن النخبة الجادة في تطوير مجتمعها، وسد ثغراته، وإنهاء نقاط ضعفه، هي تلك النخبة التي لا تكتفي بالمساهمة الجادة في صنع المنجز الإنساني والحضاري، بل تتعدى ذلك إلى بذل الجهود، وتكثيف النشطات المتجهة إلى المحافظة على تلك المنجزات.

والحفاظ على المنجز لا يأخذ صيغة واحدة أو حالة من النمطية الثابتة. وإنما لكل حقل وتخصص نمطه المحدد وطريقة مناسبة للحفاظ على المنجز. فالمنجز الثقافي يحافظ عليه عبر مأسسته وتحويله من منجز شخصي إلى عمل مؤسسي، يبقى دائما يثري المجتمع ثقافيا ومعرفيا.. وهكذا بقية الحقول والجوانب.

والعملية الاجتماعية السليمة لا تتحقق من جانب واحد، كدور النخبة فقط وإنما هي عملية متكاملة.. فكما أن النخبة تتحمل مسؤوليتها ودورها في التطوير. كذلك المجتمع بقطاعاته المختلفة يتحمل مسؤوليته، وينبغي أن يمارس دورا في تطوير الشأن العام.

وانطلاقا من هذه الحقيقة، نستطيع أن نحدد سبيل التكامل بين النخبة والمجتمع في إطار (التفاعل الإيجابي المتبادل بين الطرفين). فالتفاعل بجميع أشكاله الفردية والجمعية، هو الطريق الحيوي لخلق حالة من تكامل الأدوار والمهمات بين النخبة والمجتمع.

وهكذا يمكن الوصل والاتصال بين النخبة والمجتمع، الذي يشكل الوعاء الحاضن، والإطار المناسب الذي تنمو فيه كل عمليات التجديد والإبداع الثقافي والمجتمعي.

وجماع القول: إن الانتماء إلى إطار النخبة ليس مسألة تشريفية، بل هي تكليفية، تجعل التفكير في الشأن العام وتطويره أحد الهموم الرئيسية، التي تحملها النخبة في تفكيرها وبرامج عملها.. وبالتالي فإن نجاح النخبة في دورها مرهون بمدى إنهاء حالة الجمود في الدينامية الاجتماعية.

اضف تعليق