وهذه الافكار ليست طوباوية او مثالية يستحيل تحقيقها بل هي من صميم العقد الاجتماعي الذي ينظّم العلاقة بين المواطن والدولة وبينه وبين المجتمع، لان كل النواميس والمبادئ الأخلاقية والإنسانية تدعو إلى قبول الآخر المختلف الذي يختلف معنا في المعتقد والطائفة والمذهب والعِرق والثقافة والفكر ووجهات النظر...

غابت كثيرا ثقافة تقبّل الآخر المختلف عن مقاربات وآليات وثنايا التعاطي السياسي والاجتماعي والفردي في عموم المشهد العراقي، وتسيّدت فكرة شيطنة هذا الآخر المختلف واقصائه او الغائه بدل احتوائه والتعامل معه بالحسنى او غضّ النظر عنه، مع تجاهل فكرة ان هذا المختلف هو شريك حتمي لامناصّ عنه من الركون اليه ضمن آليات العقد الاجتماعي وانساق تراتبياته في الوطن الواحد وضمن الانسانية جمعاء، لان النّاس صِنْفانِ لا ثالث لهما إمّا أَخٌ لنا في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَنا في الخَلْقِ، حسب تصنيف الامام علي (ع) للناس في رسالته الى عامله مالك الاشتر لمّا ولاه مصر. 

كما يتجلّى هذا التغييب في اسقاطات وتداعيات المناكفات السياسية المؤسفة التي تحتدم بين السياسيين (كتل، افراد، تيارات، احزاب....الخ) خاصة المنخرطين ضمن عملية سياسية تمأسست ضمن مبدأ التوافق والتشارك التحاصصي سيئ الصيت، كما يتجلّى التغييب في النزاعات والمناوشات على الصعيد الاجتماعي كالتي تحدث بين العشائر المشتبكة والمتشابكة، وايضا بين افراد المجتمع بحدوث مناوشات لاحصر لها يذهب ضحيتها خسائر لاتعوض وموجعة بالأرواح، وايضا داخل الاسرة الواحدة ذاتها.

 وجميع تلك المناكفات السياسية للكتل المتحاربة، والمناوشات القبلية والمنازعات الاجتماعية والفردية والشخصية المؤسفة سببها عدم رسوخ فكرة تقبّل الآخر عند اغلب المتصدين للعملية السياسية او المتعايشين ضمن متون المجتمع الواحد او داخل الاسرة الواحدة متجاهلين الفكرة التي أرساها القرآن الكريم (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وفكرة (احبب لأخيك ماتحبّ لنفسك)، وهذه الافكار ليست طوباوية او مثالية يستحيل تحقيقها بل هي من صميم العقد الاجتماعي الذي ينظّم العلاقة بين المواطن والدولة وبينه وبين المجتمع، لان كل النواميس والمبادئ الأخلاقية والإنسانية تدعو إلى قبول الآخر المختلف الذي يختلف معنا في المعتقد والطائفة والمذهب والعِرق والثقافة والفكر ووجهات النظر والممارسات الاخرى والقناعات.

 فقبول الآخر هو فكر واقتناع وممارسة وايديولوجية قابلة للتنفيذ وتقبّل الآخر يعني ببساطة احترام الآخر وتقدير وتفهّم ما لدى الاخر من مفاهيم وأفكار وتقاليد وقيم وعقائد وممارسات وقناعات.

 كما أن الحاجة إلى التسامح -ولابد من ترسيخ ثقافة تقبّل الاخر المختلف باعتبار أن الاختلاف حاصل بين البشر (كل ابن آدم خطّاء) كما في الحديث النبوي الشريف- اذ لابد من الجميع استباق هذه الحالة بفكرة التسامح، لإدارة وتوجيه حالة الاختلاف، ولكسب الرضا بهذه الحالة، والتكيف معها، وكي لا يستحيل الاختلاف إلى قطيعة وتباعد فتنشأ الخصومة والعداوة، ولأجل إحاطة الاختلاف بمناخ من التسامح، نحن بحاجة إلى التسامح وتقبّل فكرة الاختلاف مع الاخر المختلف معنا مهما كان اختلافه، واقرب مثال على كارثة التعصب ونبذ الآخر او تكفيره وشيطنته تمهيدا لمحوه من الوجود هو التغوّل الداعشي الارهابي التكفيري والاقصائي والذي دفع العالم كله الثمن باهظا من الارواح لاسيما في العراق.

 وبالعودة الى تاريخنا المشرق نجد افضل مثل تاريخي يعتدّ به لترسيخ ثقافة تقبّل الآخر واحترام كينونته وانسانيته هو وثيقة (التعايش السلمي) التي فعّلها النبي محمد عليه الصلاة والسلام من اجل التعايش السلمي الفعال والمواطنة الصالحة بين جميع الموجودين في المدينة المنورة التي كانت تضمّ الكثير من القبائل المتناحرة والاديان المتنازعة فضلا عن العوائل المتحاربة، فتعايشَ الجميع بسلام بموجب عقد اجتماعي رصين تحت قيادة النبي (ص) بمشاركة عليّة الصحابة الاجلاّء، لان فلسفة قبول الاخر المختلف ليست مصفوفة لغوية او رطانة انشائية تلفظها الالسن وتلوكها الافواه، بل هي واقع عملي ومنهج اجرائي يقوم على الوعي والايمان الراسخ بحقوق الانسان وايديولوجية عملية راسخة.

اضف تعليق