السؤال الذي يطرح نفسه هنا ويتسق ما قيل سابقاً من أن هاجس كُتّاب الدستور كان القبض على السلطة وليس بناء دولة، هل أن من يريد بناء دولة يجهل أن المستقبل فيه من المتغيرات ما قد يضطره لتغيير الدستور؟ لا أعتقد أن أي عاقل يمكن أن يجهل قاعدة تغير الأحكام بتغير الازمان...

في المقال السابق قلت أن الركيزة الأساسية التي بنيت عليها العملية السياسية والدولة في عراق ما بعد الأحتلال هي: (ان ضمان امتلاك السلطة مقدّم على ضمان بناء الدولة)، لذا يجب توزيع السلطة على المكونات (المحاصصاتية) بدل من حصرها بيد الدولة، والواقع فأن هذا التفكير وهذه المقاربة لها ما يبررها تاريخياً. 

فمن وضع أسس الدولة العراقية الجديدة لم يكن الأميركان لوحدهم، بل شاركتهم القوى السياسية العراقية المتعاونة معهم، وأهمها (الكورد والشيعة). أما بقية المكونات فلم تكن (لأسباب موضوعية) أكثر من مكياج حاول تجميل العملية السياسية لتخرج وكأنها تمثل الجميع. 

وعلى مدى عمر الدولة العراقية منذ تأسيسها في 1921 ولغاية الأطاحة بنظام صدام في 2003 كان الشيعة والكورد يتملكهم شعور غامر بأن الدولة العراقية لا تمثلهم. بل أكثر من ذلك هي تجور عليهم وتظلمهم. وسواء كان لهذا الشعو ما يبرره -كما أعتقد شخصياً- أو لا يوجد ما يبرره، كما قد يعتقد آخرون فقد كان واضحاً أن من مثلوا شيعة وكورد العراق بعد الأحتلال قد طغى عليهم هذا الهاجس، مما جعل مطرقة التاريخ تطرق فوق رؤوسهم لتذكرهم بمظلوميتهم، وتحذرهم من المستقبل الذي يجب أن لا تضمنه الدولة (التي لهم تاريخ سلبي ومؤلم معها) بل تضمنه لهم تنظيماتهم المكوناتية الذاتية التي لا تسيطر عليها الدولة. 

ان مراجعة بسيطة لدستور العراق توضح أثر معول المظلومية التاريخية في هدم ركائز قوة الدولة ومعيار المواطنة فيها. ولعل مقدمة الدستور»العرمرمية» التي تركز على مظلومية التاريخ، خير دليل على ذلك. ففي نهايته الإنشائية (الرديئة) .

مكونات الشعب

يذكر كاتبو الدستور هذا النص: (نحن شعب العراق الذي آلى على نفسه بكل مكوناته وأطيافه أن يقرر بحريته واختياره الاتحاد بنفسه وأن يتعظ لغده بأمسه). لاحظوا هنا التأكيد على قرار العراقيين الحر بأن «يتحدوا» في أشارة واضحة الى أنهم لم يكونوا شعباً أو دولةً واحدةً، قبل ذلك!! ولاحظوا التأكيد على «الأمس»، أي التاريخ والذي جاءت كل المقدمة لتذكر العراقيين به وبظلمه.

لقد صمم (الكورد) الدستور ليضمن لهم أكبر سيطرة ممكنة على مناطقهم مقابل سلطة مركزية ضعيفة. فهمّهم كان عدم عودة بغداد قوية تتحكم بهم وبمصائرهم. أما (الشيعة) فكان همهم تضمين الدستور ما يعكس هويتهم المكوناتية من جهة ويعزز سلطات الفرع التنفيذي للدولة ورئيسه ضمن نظام برلماني يتيح للأغلبية اليد العليا دوماً، أما مؤسسات الدولة الأخرى التي تضمن التدقيق والتوازن Check and Balance بين السلطات(مثل مجلس الاتحاد) فقد تم أهماله، أو تأجيله لمرحلة لاحقة. 

لقد تُركت كثير من النهايات السائبة في عمل مؤسسات الدولة الدستورية التي تضمن التدقيق والتوازن بخاصة بين السلطات الأتحادية والمحلية. كما تركت كثير من الأسس المهمة لبناء الدولة وتعزيز قوتها لقوانين تصدر لاحقاً ومعظمها ما زال ينتظر الصدور منذ ما يناهز العشرين عاماً. 

كما تم تأجيل كثير من القضايا الخلافية الأساسية مثل المادتَين 140 و 142 من الدستور لمرحلة لاحقة، لم تأتِ أبداً، وما زالت تنخر في جسد الدولة وقوتها لليوم. ولعل المادة 141 خير دليل على تقديم مصلحة المكونات على مصلحة الدولة في الدستور، فهذه المادة نصت على استمرار العمل بالقوانين التي شرعها أقليم كوردستان منذ عام 1992، أي منذ أنفصاله عن الدولة المركزية للعراق آنذاك.

قوانين علوية

هذا يعني أن قوانين المكون تعلو على قوانين الدولة، وهو ما قيل واضحاً في المادة 121 ثانياً والتي أعطت لقوانين الأقليم عُلوية على القوانين الأتحادية في حالة تعارضها. والأدهى من كل ذلك أن دستور العراق قد صُمم لكي لا يمكن تغييره. أذ أن آليات تغييره تبدو شبه مستحيلة وتحت أي ظرف مستقبلي.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ويتسق ما قيل سابقاً من أن هاجس كُتّاب الدستور كان القبض على السلطة وليس بناء دولة، هل أن من يريد بناء دولة يجهل أن المستقبل فيه من المتغيرات ما قد يضطره لتغيير الدستور؟ لا أعتقد أن أي عاقل يمكن أن يجهل قاعدة تغير الأحكام بتغير الازمان، فلماذا أذاً يضع كاتب الدستور العراق في هذا المأزق الدستوري؟

لقد كان واضحاً أن استعجال الاميركان في نقل السلطة بعد أن أكتشفوا عمق الورطة التي تورطوا بها بأحتلالهم للعراق، واستعجال «المعارضة» العراقية المتحالفة مع المحتل في تلقّف السلطة والقبض عليها، كانا محركَّين أساسيَين لـ (خبز) الدستور قبل أن يختمر، ونقل السلطة بأساسٍ غير مستقر. ان بناء الدولة يحتاج لقوة سياسية وليس مجرد سلطة قانونية.

والفرق كبير بين الأثنَين فالقوة السياسية تعتمد على مجموعة وسائل-لا تمثل السلطة القانونية الا جزء منها- لسياسة الدولة وشعبها. فالقانون مصحوباً بالسلاح قد يعطيك السلطة القانونية لأجبار الناس وقسرهم، أما الدولة فتعطيك السلطة المؤسسية لقيادة الناس وتعاونهم. 

ان غياب المؤسسية هو أحد أهم المشاكل التي تعاني منها السياسة في العراق أذ يرتبط النجاح والفشل بالأفراد لا بالمؤسسات. لذلك فأن العراق يقوده «المبشرون بجنته» بدلاً من أن تقوده مؤسسته. من هنا فأن مشكلتنا هيكلية وليست وظيفية فحسب وكما سيتم أيضاحه لاحقاً بشكلٍ أكبر.

اضف تعليق