تنشغل الأمم والدول في العالم أجمع، بقضية التطور والأسبقية في تصدّر الدول الأخرى، من حيث المكانة والقوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها، ولكن كل هذه العناصر التي تعتمد عليها مكانة أي أمة بين الأمم الأخرى، تعتمد على قضية ومبدأ هام هو النجاح في الإدارة وفي التخطيط...
(لابد من تهيئة مراكز الدراسات، في أماكن متعددة من العالم الإسلامي، والعالم الغربي، والعالم الثالث) الإمام الشيرازي
تنشغل الأمم والدول في العالم أجمع، بقضية التطور والأسبقية في تصدّر الدول الأخرى، من حيث المكانة والقوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها، ولكن كل هذه العناصر التي تعتمد عليها مكانة أي أمة بين الأمم الأخرى، تعتمد على قضية ومبدأ هام هو النجاح في الإدارة وفي التخطيط، وأي إهمال لهذين العنصرين أو الجانبين سوف يكون من المحال أن تتقدم الأمة أو الدولة حتى لو امتلكت جميع مقومات التقدم.
الدليل أن هناك دولا تمتلك موارد هائلة، وهذه الموارد الاقتصادية أو البشرية أو العلمية كفيلة بأن تجعل من هذه الدولة في المقدمة دائما، ولكن رغم امتلاكها لهذه الموارد الهائلة نجدها دولة ممزقة ضعيفة ينهش كيانها الفقر والفوضى، فما هو السبب في ذلك، إن السبب ببساطة غياب الإدارة الجيدة للعائدات والموارد وسواها، بالإضافة إلى ضعف أو غياب التخطيط بشكل كامل، ولهذا تجد هذه الدولة رغم غناها من حيث الثروات التي تمتلكها، ومن حيث الثروة البشرية وخصوصا شريحة الشباب، إلا أنها دولة ضعيفة ومتخلفة.
هذا يؤكد أن ضعف الإدارة، وغياب التخطيط يمكن أن يجعل من أغنى الدول أفقرها، ويمكن أن يجعل من أقوى الدول أضعفها، كيف يحدث ذلك، الجواب أن سوء الإدارة يعني هدر الموارد مهما كان حجمها أو كميتها أو عددها، أما غياب أو ضعف التخطيط فهو يعني فوضى عارمة في الإدارة وتضييع تام للقدرات التي تتحلى بها الأمم والدول.
لذا لا يصح أن تنشغل الدولة بالتوظيف والتنفيذ، لأن كثرة التوظيف تعني ترهّل الدولة، وهذا الترهل سوف يجعل من التنفيذ الصحيح أمرا مستحيلا.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم، الموسوم بـ ( إلى العالم):
(من الأهداف الكبيرة التي يجب أن يسعى إليها المسؤولون هو التركيز على أهمية الإدارة والتخطيط، وليس الانشغال بالتوظيف والتنفيذ، لذا لابد للجهات المسؤولة أن تهيّئ أفرادها على الأمرين الأوليين – الإدارة و التخطيط- ولا تتركهم وشأنهم).
معرفة موارد وقدرات الدولة
هذا يعني أهمية التركيز على التطوير الإداري للمسؤولين والمدراء بشكل عام، والاهتمام الجاد بقضية التخطيط، وجعل هذا العنصر في غاية الأهمية، وأولوية من أولويات الدولة والحكومة.
والتركيز على التخطيط يعني معرفة ما تمتلكه الدولة من قدرات وموارد ومؤهلات، وفي نفس الوقت وضع الأهداف المطلوب إنجازها والمشاريع التي يتم التخطيط لها، وهذا يعني الاهتما بقضية الزمن الذي يستغرقه إنجاز هذا المشروع أو ذاك، بالإضافة إلى حجم الأيدي العاملة والمعدات المطلوبة للإنجاز.
فالقضية هنا ليست ارتجالية ولا عشوائية، بل كل شيء يجري في الدولة المتطورة والتي تسعى للتطور، وفق مقاييس دقيقة ومعايير معترف بها من خلال الاستفادة من الخبرات العالمية في مجالات إنجاز المشاريع المختلفة، بالإضافة إلى الأموال المطلوبة التي تحتاج لها المشاريع لكي يتم إكمالها، القضية هنا تجري وفق إدارة ناجحة وتخطيط دقيق.
يقول الإمام الشيرازي:
(التخطيط عبارة عن قياس للزمن والمكان والكمية والنوعية للإنتاج، وتحديد العناصر المطلوبة، فكم من الأفراد يحتاج إليهم؟ وكم من الزمن يُنجز فيه العمل؟ وكم مقدار المال المحتاج إليه؟ وكم وكم؟ وكيف وكيف؟).
ولابد أن نذكر بأن قضية تطوير الدولة لا يمكن أن تتم باعتماد التخطيط وحده، إذ لابد من إدارة جيدة دقيقة علمية ومحسوبة، ومستنبطة من خبرات عالية، تؤدي إلى ارتفاع الانتاج عموديا، والمقصود بهذا إحداث التطور النوعي في الإنتاج، على أن يرافق ذلك التوسع الأفقي في الإنتاج أيضا، ويعني هذا التطور الكمّي المتعدد للسلح والمنتوجات.
هذا كله يحتاج إلى إدارة حكيمة وفاعلة وعلمية، تضبطها قوانين عمل صارمة، وتقودها عقليات مؤمنة ومخلصة، وعندما يتآزر هذان العنصر (الإدارة و التخطيط)، فإن درجة الإنتاج تصبح فائقة بل عالية جدا، والسبب هو الاختيار الأمثل والأفضل عبر الإدارة المتقنة وحُسن التخطيط، فحين يتعاضد هذا العنصر تنهض الدولة وتتسلق جادة الصواب وتمضي قُدُما في طريق التقدم والنهوض والازدهار.
هنا يصف الإمام الشيرازي الإدارة قائلا:
(الإدارة عبارة عن أسلوب يرفع درجة الإنتاج عمودياً، ويوسعها أفقياً، وكلا الأمرين بحاجة إلى خبرة واستشارة، وتقليب وجوه الآراء، وتحرّي الأفضل فالأفضل، وقد قال سبحانه: َواتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم. وقال تعالى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا) .
ولكن كيف يمكن للدول الضعيفة أو الهشة أن تتقدم خطوات مهمة في المجال الإداري و التخطيطي؟، أي كيف نحصل على إدارة جيدة للموارد وللشؤون الأخرى في حياة الدول، كذلك كيف نتقن التخطيط للمشاريع وللإنتاج بحيث تكون المخرجات جيدة جدا، هذه القضية تحتاج إلى تقييمات نظرية علمية دقيقة تقوم بها مؤسسات وجهات علمية متخصصة.
استقراء الواقع الاقتصادي والإنتاجي
نقصد بهذه الجهات (مراكز الدراسات والبحوث)، فالمعروف أن مهمة هذه المراكز أساسية وكبيرة حيث تقوم باستقراءات دقيقة للواقع الاقتصادي والانتاجي، وتعتمد العلمية المتخصصة، حيث يشارك باحثون من ذوي الخبرات العلمية الرصينة، فيتباحثون ويبحثون ويرصدون ويقدمون عبر بحوث ودراسات وتوصيات دقيقة يتم تقديمها للمسؤولين عن الجانب التنفيذي فتتم الاستفادة من توجيهات هذه المراكز.
هذه المراكز يحتاج لها الجميع، العالم الغربي، والعالم الإسلامي، والعالم الثالث أو الدول الفتية التي تسعى للسير في طريق التقدم.
عن هذه النقطة يقول الإمام الشيرازي:
(وبهذا الصدد لابد من تهيئة مراكز الدراسات، في أماكن متعددة من العالم الإسلامي، والعالم الغربي، والعالم الثالث، فإن التخطيط لا يتم إلاّ بالإسناد من قبل تلك المراكز، كما أن الإدارة لا تستقيم إلاّ بالمدراء الأكفاء).
وقد تظهر بعض الحجج هنا أو هناك بخصوص تمويل مراكز البحوث، (مع أن الدول القوية المتطورة تجاوزت هذه المشكلة وهي محاطة اليوم بعشرات المراكز البحثة المتميزة)، ولكن حتى لا تكون قضية التمويل حجة لتغييب هذه المراكز يقترح الإمام الشيرازي أن تتحملها جهات ومؤسسات بالتعاقب والتناوب كالأوقاف والتجارة والزراعة.
وسوف تتم مسألة التمويل إذا لمس الناس فوائد هذه المراكز بشكل واضح، ويكون لديهم إقبال على دعمها كما يفعلون بخصوص دعم المدارس والمساجد وغيرها.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي قائلا:
(من الممكن تهيئة تمويل مراكز الدراسات عبر الأوقاف أو التجارة أو الزراعة، وبالإمكان أن يكون ذلك دورياً، حتى لا يكون هناك ثقل مستمر على جهة معينة، وذلك ممكن إذا شعر الناس بجدوى ذلك، كما لمسوا جدوى المدارس والمساجد والحسينيات، فأخذوا في بنائها ووقفها وصرف الأموال لها).
بالنتيجة لابد أن نفهم أن أي مشروع صغير يحتاج إلى إدارة وتخطيط، وأي شركة أو حتى مدرسة تحتاج لهذين الجانبين (الإدارة والتخطيط) حتى تكون النتائج متقنة، فماذا لو تعلّق الأمر بإدارة مؤسسات ومشاريع ومرافق دولة بأكملها؟
إن هذا المرفق الكبير (الدولة) لا شك تحتاج بصورة ملحّة للإدارة الناجحة، وللتخطيط الجيد، حتى تكون النتائج مضمونة.
وخلاصة الأمر هذا ما نجده في قول الإمام الشيرازي: (إن التخطيط والإدارة ضرورتان لإدارة شركة أو معمل أو مدرسة، فكيف إذا تعلّق الأمر بهذا الهدف الضخم الذي يراد الوصول إليه).
اضف تعليق