العنصرية بحكم طبيعتها، عابرة لخطوط وخرائط الأديان والقوميات والإثنيات. وكفاح الفلسطينيين ضد العنصرية في طبعتها الصهيونية الأكثر بشاعة وانحطاطًا، بات اليوم، جزءًا عضويًا من كفاح عالمي ضد كافة المظاهر والتيارات والسياسات والممارسات المفضية للتمييز والاستعلاء والتفوق الزائف، والتطرف اليميني في طبعاته الأكثر فجاجة في عدائها للآخر...
بخجلٍ، وعلى استحياء، تسعى جامعات فلسطينية وعربية للالتحاق بركب "انتفاضة الطلاب" في الجامعات الأميركية والغربية، الأمر بات محرجًا للغاية، فالعون والإسناد يأتيان الفلسطينيين من على مبعدة آلاف الكيلومترات، بينما أهل الأرض والقضية، ومن خلفهم "ذوو القربى"، ما زالوا في تيهٍ وغيبوبة.. من استيقظ منهم على وقع صيحات النساء والأطفال في غزة، وجد نفسه خارج السياق، بلا حاضنة اجتماعية صلبة، وجهًا لوجهٍ أمام سلطات أمنية جائرة، وإدارات جامعية، على صورتها وشاكلتها، إلا من رحم ربي.
مع أن "انتفاضة الطلاب" في جامعات الولايات المتحدة، الممتدة بمفاعيل "الدومينو"، إلى جامعات أوروبية وغربية، تنهض أمامنا بوصفها حدثًا تاريخيًا مفصليًا، لم نرَ مثيلًا له منذ أزيد من نصف قرن، زمن ثورة الطلاب في فرنسا وأوروبا، والانتفاضة الشعبية ضد حرب فيتنام، وحركة الحقوق المدنية.
"العروة الوثقى"
يغري ذلك، على الاستنتاج بأن "طوفان الأقصى" وما أعقبه من حرب إسرائيلية همجية على غزة، قد دخلا التاريخ من بوابة المجد للمقاومين والصامدين الصابرين في غزة، وزاوية الخزي للغزاة والمستعمرين ومنتهكي القواعد الإنسانية الأساسية، أما الذين سعوا في تسفيه "الطوفان" والحطّ من قدر المقاومة، والاكتفاء بذرف دموع التماسيح على أبرياء غزة من رجال ونساء وأطفال، فقد نالهم قسطهم من العار على أية حال.
انتفاضة الجامعات الأميركية لم تكن حدثًا منبتًّا عن سياقه، فثمة صحوة بدأت منذ عدة سنوات لتيارات مدنية وليبرالية وتقدمية وحقوقية في الولايات المتحدة، توّجت بانتفاضة جورج فلويد وحراك "حياة السود مهمة" والدور المتنامي للحركة النسائية في مواجهة خطاب يميني غارق في المحافظة، يغرف أحيانًا من قواميس "قروسطية".. بهذا المعنى يمكن القول؛ إن هذه الانتفاضة، لم تكن فعلًا مُؤسِسًا لتحولات المشهد الأميركي، بقدر ما كانت تتويجًا لمسار من التحولات، تدلل كافة المؤشرات على أنه سيستمر ويتنامى.. وبهذا المعنى تجوز المقارنة مع التحفظ، بين جورج فلويد الأميركي والبوعزيزي التونسي، فكلاهما كان غزالًا بشّر بزلزال.
و"العروة الوثقى" بين الحراك الاحتجاجي – الشبابي – التقدمي في الولايات المتحدة، وما يجري على أرض فلسطين، لم تبدأ اليوم، فقد شهدنا "إرهاصات" هذه الصلة، زمن "سيف القدس"، قبل ثلاثة أعوام، حين رفعت شعارات تربط بين حياة السود المهمة، وحياة الفلسطينيين المهمة كذلك.. لكن سيتعين الانتظار لبضع سنوات، حتى تتظهّر هذه الصلة، فتنتقل فلسطين، قضية وشعبًا وحقوقًا أساسية، من أسفل سُلم الأولويات الخارجية الأميركية، إلى قلب السياسة الداخلية، ومحور الحملات الانتخابية في "الدولة العُظمى".
وستنهض انتفاضة الجامعات الأميركية بوصفها ثاني أكبر اختبار للمنظومة القيمية والأخلاقية لزعيمة "الغرب المتحضر" و"عالمه الحر"، وستسقط إدارة بايدن سقوطًا ذريعًا في هذين الاختبارين معًا.. سقطت في اختبار الحرب الإسرائيلية على غزة، حين انتقلت من "الانحياز الأعمى" إلى الشراكة الميدانية والسياسية في جرائم الحرب والإبادة والتطهير العِرقي الإسرائيلية.
عنصرية واستعلاء
وسقطت حين أطلقت آلتها القمعية ضد خيرة طلبتها في خيرة جامعاتها، فكانت صور الانقضاض على الطلبة والأساتذة الجامعيين، شبيهة بصورة فلويد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، تحت قدمَي رجل أمن مدجج بالاستعلاء والعنصرية.. إلى أن جاء تقرير "الواشنطن بوست" بالأمس، ليكشف عن 900 طالب معتقل في غضون الأيام العشرة الأخيرة، وهو رقم قياسي حتى بمعاييرنا نحن أبناء "صحراء الديمقراطية القاحلة" جنوب وشرق المتوسط.
أيًا يكن من أمر، فإن ما يجري اليوم في جامعات الولايات المتحدة والغرب عمومًا، يعيدنا إلى ما ذهبنا إليه قبل عدّة سنوات، حين لفتنا إلى أن عودة الروح للحركات الاحتجاجية في الغرب، على خلفية مناهضة العنصرية والعداء للأجانب والمهاجرين واليمين الشعبوي، توفر فرصة للفلسطينيين لنقل كفاحهم ضد الاحتلال و "الأبارتيد" إلى الساحة الدولية من جديد، ولكن من بوابة الشعوب والمجتمعات والحركات التقدمية هذه المرّة.
اليوم، جاء هذا الربط بمبادرة من طلبة الجامعات الأميركية، الذين يندمج حراكهم التضامني مع شعب فلسطين، بكفاح أوسع وأشمل، من أجل استعادة قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان في بلدانهم، في مواجهة تيارات ظلامية، تتلطى خلف نزعات شوفينية وتمجد التفوق العرقي للرجل الأبيض.
في هذا الصراع، تتموضع فلسطين في الجانب الصائب من التاريخ، وتقبع إسرائيل في الزاوية الخاطئة منه، معزولة ومُجرّمة بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية، بل إن دورها ككابح للحريات في الغرب، يبرز اليوم أكثر من أي وقت مضى، فـ "المكارثية" أطلت بوجهها القبيح في عدد من عواصم الغرب، وليس في واشنطن وحدها، وحرية التعبير تقف مكبّلةً عند خطوط حمراء فرضتها النخب الحاكمة ومؤسسات صنع القرار وجماعات الضغط والابتزاز، وجميعها مصممة لتسييج كيان الاحتلال والعنصرية وحمايته من أسهم النقد والإدانة والاحتجاج.. يتظهّر دور إسرائيل في الغرب، كما ظل دورها في الشرق، كعقبة كَؤُود في وجه الحرية والديمقراطية.
لقد جادل الغربيون طويلًا، لا سيما منذ انطلاق "عملية برشلونة" وبالأخص، في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، بأنكم –أيها الإصلاحيون العرب– قد جعلتم من إسرائيل "شمّاعة" تعلّقون فوقها أسباب إخفاقاتكم المتلاحقة باللحاق بموجات الديمقراطية المتعاقبة التي ضربت العالم على مراحل، فما شأن إسرائيل بانحباس مسارات الإصلاح والتحول الديمقراطي في العالم العربي؟
تفوق زائف
اليوم، ومن دون أن نسقط الأسباب والسياقات الداخلية للاستعصاء الديمقراطي في العالم العربي، فقد بتنا نتوفر على ما يكفي من التجارب والشواهد، للقول بأنكم أخطأتم ونحن أصبنا، فلقد رأينا بالأمس، كيف "استنفر" العالم ضد نتائج انتخابات حرة ونزيهة في فلسطين عام 2006، لأنها لم تكن متناغمة مع هندسات أوسلو ومسارات دمج إسرائيل في المنطقة.. ورأينا انقلاباتكم على ثورات الربيع العربي، لأنكم استشعرتم بغرائزكم الاستعمارية الحاكمة، أن الديمقراطية في العالم العربي، هي نقيض مسارات التطبيع والهيمنة الاستعمارية، وها نحن نرى اليوم، رأي العين، كيف أنكم تقفون على أتم الجاهزية والاستعداد للتخلي عن قفازاتكم الحريرية حين يتعلق الأمر بالدفاع عن "قاعدتكم المتقدمة"، حتى وإن اقتضى استخدام القبضة الحديدية ضد طلبتكم وجامعاتكم وشوارعكم الغاضبة.
العنصرية بحكم طبيعتها، عابرة لخطوط وخرائط الأديان والقوميات والإثنيات. وكفاح الفلسطينيين ضد العنصرية في طبعتها الصهيونية الأكثر بشاعة وانحطاطًا، بات اليوم، جزءًا عضويًا من كفاح عالمي ضد كافة المظاهر والتيارات والسياسات والممارسات المفضية للتمييز والاستعلاء والتفوق الزائف، والتطرف اليميني في طبعاته الأكثر فجاجة في عدائها للآخر والأجانب والشعوب المغلوبة على أمرها.
مقاومة التطبيع
وهذا يملي على الفلسطينيين ونخبهم الطليعية وضع الإستراتيجيات والبرامج الكفيلة بتعميق هذا الربط، وتعظيم هذا الرهان، فتلكم نافذة عريضة فتحت في جدار الانسداد الذي لفّ فلسطين قضية وشعبًا وحقوقًا طويلًا.. وهذه هي الضمانة لديمومة هذا الحراك التضامني ومأسسته، وهذه هي الطريق الأقصر، لنزع "الشرعية" عن إسرائيل، وتجريدها من لبوس تدثرت به زيفًا، لأكثر من سبعة عقود، وفي ظنّي – وليس كل الظن إثم – أن هذه واحدة من أهم وأخطر "مهددات الأمن القومي الإسرائيلي".
وفي المقلب الآخر، على الساحة العربية، يتعين على هذه النخب، تكثيف الجهد لاستحداث الربط المحكم، بين مقاومة التطبيع، وحاجة شعوب الأمة العربية لشق طرقها نحو الحرية والاستقلال والانعتاق من نير القمع والتخلف المتحكم بمصائرها ومستقبل أجيالها، فالكفاح ضد التطبيع، ليس فعلًا تضامنيًا مستحقًا مع الشعب الفلسطيني فحسب، بل هو جزء من كفاح مستحق كذلك، من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم لهذه الشعوب.. ومما لا شك فيه أن إبراز المصالح الوطنية لشعوبنا في مقاومة التطبيع، والتشديد عليها، هما الضمانة لاستنهاض حركات المقاطعة ومقاومة التطبيع، تمامًا مثلما هو الحال مع حركات الاحتجاج الطلابية والشعبية في عواصم الغرب ومجتمعاته.
انتفاضة الطلاب في الجامعات الأميركية والغربية، فاتحة لصفحة جديدة في كفاح الشعب الفلسطيني، وبارقة أمل بانتقال مفاعيل "مبدأ الدومينو" إلى جامعاتنا ومجتمعاتنا العربية، وتلكم واحدة من "بركات" الطوفان والصمود الأسطوري لغزة ومقاومتها.
اضف تعليق