الصمت الحكيم له مبرراته، وهو مسموح به في أوقات وظروف معينة، لكن صمت المثقف إزاء الأوضاع المسيئة للناس هو صمت جبان وسلبي، وهو أيضا غير مبرَّر ولا مقبول، ولا يختلف عن صمت الرياء والتملق والخنوع، لأن المثقف الحق، عليه أن يتصدى للأخطاء بصوت عال، وأن يطرح البدائل والحلول...
الصمت كما يصفْهُ المعنيون، يعني الكف عن الكلام، ولكن هنالك أسباب كثيرة تقف وراء هذا الصمت، وهذه الأسباب هي التي تمنح (الصمت) معناه الذي قد يكون إيجابيا أو على العكس من ذلك، فقد يكون مؤذيا لمن يتخذه أسلوبا أو طريقة للتعبير، لذلك هنالك أنواع مختلفة وأوصاف متباينة للصمت، منها الصمت الحكيم أي الذي يكون سببه الحكمة.
فما هي الأنواع الأخرى من الصمت؟
كثيرة هي أنواع الصمت، وهي ليست موضوعنا هنا، وسوف نركّز على نوعين، الصمت الإيجابي (الحكيم)، والنوع الآخر الصمت السلبي ومنه (الصمت بسبب الخوف، أو بسبب الخنوع والخضوع، أو بسبب المصالح، أو بسبب المراوغة والاحتيال.
أو بسبب التملق والرياء)، فأنت حين تتغاضى عن أخطاء مديرك في العمل وتصمت إزاء أعماله المسيئة، فإن صمتك هذا يعد مجاراة لمديرك، ويذهب آخرون إلى مدح هذه الأخطاء التي ارتكبها مديرهم، وهذا هو التملق بأعلى درجاته.
وحين نأتي إلى المثقفين، يمكن أن نوزعهم على نوعين، بعضهم يلوذ بالصمت الحكيم، وبعضهم يخشون من عواقب الكلام ومن ردود فعل السلطان، فيلوذ هذا البعض بالصمت تحاشيا لمعاداة السلطة، حتى لو كانت مخطئة أو جائرة.
كيف يمكن أن نصف المثقف اليوم، ما هو دوره فيما يمر به العراق والعالم أجمع، هل هناك بصمة واضحة للمثقف، أين صوته الواضح، أم أنه يلوذ بالصمت، ويتحجج بأن صمته هذا هم الصمت الحكيم الذي يفصله عن العالم وعن المجتمع وعن السلطة؟
الركون إلى العزلة
تُرى هل يوجد اليوم في واقعنا العراقي والعربي وحتى العالمي، مثقف لا يخشى السلطة، وإذا كانت فاسدة يقول عنها بأنها حكومة فاسدة، أم أن واقعنا الاجتماعي العراقي يعاني من غياب المثقف صاحب الموقف الواضح البعيد عن الصمت والركون إلى العزلة السلبية؟
المثقف الصامت ظاهرة يمكن أن نطلقها على واقعنا الثقافي، السبب غياب أو ضعف الدور الثقافي المناهض للسلطة السياسية، وهناك من يتحجج بأن الوضع الذي نعيشه، لاسيما في الجانب الأمني وسيطرة الأحزاب السياسية لا يسمح بالانتقاد الحاد والفاعل، وقد يتعرض المعترض إلى الأذى، خصوصا أساليب المقاضاة فيما يسمى (بدعاوى القذف والتشهير).
السؤال الأهم، هل المثقف يقوم اليوم بدوره التثقيفي لتوعية الناس، هل يشرح الأوضاع المبهمة، وهل يبين المواقف الصحيحة التي يجب أن يتخذها الناس حتى تصبح حياتهم أفضل، شخصيا ألاحظ يوميا عددا من الشباب يبدون رغبتهم بالتعلّم، بقراءة الكتب، وباكتساب مهارات التفكير والوعي والثقافة بشكل عام.
لقد لاحظت الشباب وهم يقدمون الاحترام لمن هو أكبر منهم عمرا وتجربة، وإذا عرفوا أن هذا الإنسان يُحسَب على صنف المثقفين يحترمونه بطريقة واضحة وربما مبالَغ بها أحيانا، بعض الشباب يقول أتمنى أن أقرأ الكتب ولكن ماذا أقرأ، أي الكتب، بماذا تنصحني، ويستمرون بطرح التساؤلات كأنهم في متاهة.
وهم فعلا في متاهة حياة لا (فنارات ثقافية) فيها، حياة مبهمة بالنسبة لكثير من الناس، فأين دور المثقف، وهل هذا نوع من الصمت حتى يحمي المثقفون أنفسهم؟
الخروج من دائرة الصمت
الصمت الحكيم له مبرراته، وهو مسموح به في أوقات وظروف معينة، لكن صمت المثقف إزاء الأوضاع المسيئة للناس هو صمت جبان وسلبي، وهو أيضا غير مبرَّر ولا مقبول، ولا يختلف عن صمت الرياء والتملق والخنوع، لأن المثقف الحق، عليه أن يتصدى للأخطاء بصوت عال، وأن يطرح البدائل والحلول، باعتباره يمتلك عقلية وأفكارا واعية.
هل يقوم مثقفونا في العراق وفي الدول العربية، بدورهم في تثقيف وتوعية الناس؟، وهناك تساؤل أهم، هل يتخلى المثقف عن صمته، ويطلق الكلام عندما يكون إطلاقه نوعا من التصحيح، أو الاحتجاج، أو المطالبة برفع الظلم عن بقية الناس؟
الحقيقة لا يزال مثقفونا صامتين، ولا تزال تبريراتهم وأعذارهم حاضرة، والأسف الأكبر وجود المثقفين المتملقين، لدرجة أن (كارت موبايل) يستطيع أن يغيّر رأيه وقناعاته بهذا المسؤول أو ذاك، وقد شاعت في بعض المحافظات مراعاة هذا المسؤول أو ذاك لأشخاص يُقال بأنهم مثقفون أو صحفيون حتى لا يطلقون أصواتهم وأقلامهم بالضد منه.
في الظرف الراهن يحتاج العراق أولا إلى مثقفين إيجابيين، لا يلذون بالصمت، بل يجب أن تكون أصواتهم عالية، وأن يكون لهم دور واضح في توعية المجتمع، خصوصا الشباب، فهذه الشريحة (المهمَلة) تحتاج بشدة إلى من يدعمها ثقافية وتعليميا، نسبة كبيرة من هؤلاء غير متعلمين ولا واعين، وفي نفس الوقت لديهم رغبة حقيقية للتعلم والتقدم.
المثقف الصامت دوره رديء في عالم اليوم، حتى الصمت الحكيم لم يعد مبرّرا ولا مقبولا في عالم اليوم، لأن الخروج من قوقعة الصمت تتطلب إطلاقا حرّا للكلام الجاد الصحيح الفاعل الإيجابي الواعي المؤثر، وأخيرا البقاء في دائرة الصمت المغلقة، تمحو هوية المثقف الفاعل، وتجعل الثقافة كلمة فارغة من أي محتوى مفيد.
اضف تعليق