وجود نظام اقتصاد سليم، مع وجود مؤسسات قوية، جنباً إلى جنب يعني ضمان فاعلية الاقتصاد وحمايته من الانقلاب والاستبداد، فتكون العلاقة تكاملية بينهما. المؤسسات القوية تجعل اقتصاد السوق ينمو بشكل سلس وسليم، كما ان اقتصاد السوق يجعل المؤسسات القوية تركز على اهدافها بشكل أكبر مما...
هناك علاقة وثيقة بين المؤسسات واداء الاقتصاد، حيث تؤثر المؤسسات في الاقتصاد كما يؤثر الاقتصاد فيها. ان وجود مؤسسات قوية يعني تحرك الاقتصاد في مساحته بعيداً عن الضغوط غير الاقتصادية، وبالمقابل وجود نظام اقتصادي سليم يعني سير المؤسسات نحو هدفها بعيداً عن الاغراءات الاقتصادية.
المؤسسات القوية
المقصود من المؤسسات القوية أنها مستقلة ولا ترضخ للضغوط التي تتعرض لها وتعمل على تحقيق هدفها بشكل مهني بالتعاون والتواصل مع المؤسسات الأخرى قدر تعلق الأمر بتحقيق هدفها.
المؤسسات كثيرة ويمكن ذكر بعضها واهمها مثل المؤسسة التشريعية، المؤسسة التنفيذية، المؤسسة القضائية، المؤسسة الامنية، المؤسسة الاعلامية وغيرها من المؤسسات.
النظام الاقتصادي السليم
المقصود من النظام الاقتصادي السليم، هو النظام الذي يجعل جميع الافراد فاعلين ومشاركين في النشاط الاقتصادي ولا يسمح للمؤسسات الانخراط فيه إلا في حال الالتزام بقواعده دون أي تمييز وتفضيل.
الانظمة اقتصادية عديدة، منها يقوم على اساس التخطيط وآخر يقوم على أساس السوق وثالث يقوم على الدمج بينهما وكلٌ له ايجابيات وسلبيات.
الانسان بطبيعته يحب ملكيته الخاصة وحريته الاقتصادية ويسعى لتحقيق الربح لتنمية ثروته وتعزيز رفاهيته وما يكفل تحقيق هذه العناصر هو اقتصاد السوق، لذلك يُعد الأخير أفضل الانظمة الاقتصادية كونه ينسجم مع طبيعة الانسان.
الترابط بينهما
ان وجود مؤسسات قوية دون وجود نظام اقتصادي سليم، يعني تعثر اداء الاقتصاد، ليس بسبب المؤسسات وانما بسبب عدم وجود نظام اقتصادي سليم؛ مما يؤدي لانخفاض رفاهية المجتمع، وحين تنخفض رفاهية المجتمع قد ينقلب الاخير على المؤسسات القوية لأجل الحفاظ على رفاهيته.
كما ان وجود نظام اقتصادي سليم دون وجود مؤسسات قوية، سيتعثر اداء الاقتصاد ايضاً، ليس بسبب عدم وجود نظام اقتصادي سليم وانما بسبب عدم وجود مؤسسات تضمن سير الاقتصاد بشكل سلس وآمن، حيث ان ضعف المؤسسات قد يؤدي لظهور الاستبداد لان الاخير ينشأ ويترعرع في ظل ضعف المؤسسات ويطيح بالنظام الاقتصادي السليم.
ان وجود نظام اقتصاد سليم، مع وجود مؤسسات قوية، جنباً إلى جنب يعني ضمان فاعلية الاقتصاد وحمايته من الانقلاب والاستبداد، فتكون العلاقة تكاملية بينهما.
بمعنى آخر، ان المؤسسات القوية تجعل اقتصاد السوق ينمو بشكل سلس وسليم، كما ان اقتصاد السوق يجعل المؤسسات القوية تركز على اهدافها بشكل أكبر مما لو كان الاقتصاد قائم على التخطيط الاقتصادي.
مثال توضيحي عن المؤسسات
المستشفى بين الادارة والتخصص، لكل مستشفى مدير واطباء، تكمُن مهمة المدير في تسيير شؤون المستشفى بينما تكمُن مهمة الاطباء في الكشف على المرضى وتشخيص حالاتهم وعلاجهم. فهل يجوز لمدير المستشفى التدخل في مهمة الاطباء؟!
ان اي تدخل من قبل مدير المستشفى، على اعتبار انه مدير المستشفى! بمهمة الطبيب سيؤدي لانتكاس حالة المرضى لان مدير المستشفى لا يعرف كيف وما المطلوب لهذه الحالة وتلك وبالتالي سيتعاطى مع المرضى عكس ما هو المطلوب.
من هنا يستلزم استقلالية الطبيب في قراراته الطبية ولا يحق لأي أحد، بما فيهم مدير المستشفى؛ من التدخل في قراراته العلمية لضمان التشخيص الدقيق وتحديد العلاج التدقيق وتعافي المرضى من أمراضهم وهذا هو المطلوب.
كذلك الحال بالنسبة للمؤسسات في الدول، فالدول التي تفتقد لاستقلالية المؤسسات وتتدخل احداها في الاخرى، وبالخصوص التنفيذية؛ بل وتحاول السيطرة على بقية المؤسسات كالتشريعية والقضائية والاعلامية وغيرها، ستفشل هذه الدولة لا محالة كما انتكست حالة المرضى حين تدخل المدير في عمل الطبيب أعلاه.
المؤسسات والاقتصاد في العراق، قبل 2003
قبل عام 2003 كان نظام الحزب الواحد هو السائد لا التعددية الحزبية، سياسياً؛ وأصبح معه التخطيط المركزي هو السائد ايضاً لا السوق، اقتصادياً؛ وكلا الأمرين اثرا على المؤسسات والاقتصاد معاً.
لا وجود للمؤسسات: ان هيمنة الحزب الواحد على السلطة التنفيذية وهيمنة الاخيرة على جميع السلطات يعني فقدانها استقلاليتها وقوتها بل وأصبحت (جميعها) تعمل لصالح الحزب الواحد وبالأحرى لصالح قائد الحزب من باب أولى.
بمعنى لا يمكن للقضاء ان يقول كلمته تجاه القائد، ولا يمكن للتشريع ان يشرع بشكل موضوعي، ولا يمكن للأمن أن يمتنع عن ملاحقة معارضِ الحزب والقائد، ولا يمكن للإعلام أن يكشف الحقيقة وهكذا بالنسبة لبقية المؤسسات.
بمعنى آخر، ان القائد هو مَن يقاضي ويشرع وينفذ ... بل تم اختزال الكل باسمه "إذا قال صدام قال العراق" مما يعني لا وجود للمؤسسات أو كلها تعمل بما يخدمه.
هيمنة الدولة على الاقتصاد: وفيما يخص الاقتصاد فقد كان الاقتصاد العراقي يسير وفق نظام التخطيط الاقتصادي، بمعنى ان الدولة هي المسؤول الرئيس عن الاقتصاد، فيما يقوم القطاع الخاص بدور ثانوي.
أي ان الدولة كانت تمتلك عناصر الانتاج وتعمل على رسم الخطط الاقتصادية ثم تقوم بتنفيذها عبر وزاراتها وشركاتها، وكل الاسعار والاجور محددة مركزياً من خلال وزارة التخطيط.
هذا النظام لا ينسجم وطبيعة الانسان كونه يتعارض مع الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية وحافز الربح، بمعنى لا يمكن لأفراد المجتمع بتعزيز ثرواتهم وتنميتها بشكل حر بمعزل عن الدولة إلا في حدود ضيقة.
ان عدم وجود مؤسسات قوية قبل 2003 أدى لظهور الاستبداد من جانب وهيمنة الدولة على الاقتصاد من جانب آخر، دفعا لتعثر اداء الاقتصاد العراقي بل وأصبح مُنهكاً ولايزال يعاني تبعات تلك المدة.
بعد 2003
بعد عام 2003 اتجه العراق نحو الديمقراطية والتعددية الحزبية ونحو السوق والقطاع الخاص، لتبدأ مرحلة جديدة سياسياً واقتصادياً لكن هذه المرحلة لم تنضج بعد للمستوى المطلوب بل لازالت تتعثر بشكل واضح.
مؤسسات غير مؤثرة: حيث بدأت معالم بعض المؤسسات تتضح يوماً بعد يوم بحد ذاتها لكن دورها لم يكُن بالشكل المطلوب وهذه نتيجة طبيعية تتعلق بثقافة الشعب الموروثة من النظام السابق، خصوصاً وان المؤسسات والديمقراطية ليست نظام حكم وحسب بل هي نظام حياة.
على سبيل المثال السلطة التشريعية أصبحت واضحة المعالم بحد ذاتها (اجراءاتها)، أي توجد مؤسسة يقوم الشعب باختيار ممثليه فيها ليقوموا بتشريع ومراقبة اداء السلطة التنفيذية لضمان قيامها بما يخدم الشعب لكن السؤال هل كانت هذه المؤسسة فاعلة ومؤثرة بالشكل المطلوب؟
بالتأكيد، لا؛ وذلك لاصطدامها بثقافة الشعب، حيث لم يختار اعضاء تلك المؤسسة وفق معايير الكفاءة والنزاهة والوطنية بل اختارهم وفق معايير المحسوبية والمنسوبية والمصالح الضيقة، ولذلك لم ينجح البرلمان، كمؤسسة؛ في لعب دور جوهري لحد الآن، وكذا الحال بالنسبة للسلطة القضائية والتنفيذية.
هيمنة الدولة على النفط
وعلى المستوى الاقتصادي، كان الامر أسوء، حيث أعلن العراق مغادرته التخطيط المركزي نحو اقتصاد السوق، وإحلاله القطاع الخاص محل الدولة في الملكية والنشاط الاقتصادي ولكن لازال متعثراً.
حيث انسحبت الدولة من النشاط الاقتصادي بعد عام 2003 من ناحية وظلت ممسكة بعناصر الانتاج من ناحية ثانية ولم تعمل على خلق بيئة اعمال جاذبة من ناحية ثالثة فضلاً عن استمرار هيمنتها على النفط من ناحية رابعة.
ان هيمنة الدولة على النفط وتوظيف مردوداته بعيداً عن الجوانب التنموي يعني استمرار اهمال بناء الاقتصاد واستمرار هدر الثروة الوطنية واستمرار المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في ظل غياب المؤسسات القوية آنفة الذكر.
وهذا ما حاصل بالضبط، في الاقتصاد العراقي كونه يعاني من اختلال الهيكل الانتاجي والمالي والتجاري والنقدي، وهدر الثروة الوطنية على مستوى الاستخراج (لم يتناسب مع احتياطي العراق) وصناعته (حيث يصدر النفط الخام ويستورد المنتجات النفطية) واستمرار حرق الغاز الطبيعي واستمرار توالد البطالة والفقر وغيرها.
ونظراً لعدم فاعلية مؤسسات الدولة العراقية بشكل مؤثر إلى جانب عدم وجود نظام اقتصادي سليم قبل وبعد عام 2003، أصبح اداء الاقتصاد العراقي تارة يعاني من الاستبداد وتارة يعاني من النفط في ظل الثقافة الريعية.
مما ينبغي
العمل على خلق ثقافة انتاجية هي حجر الزاوية في بناء المؤسسات والنظام الاقتصادي، ومتى ما بدأنا بها سنكون على الطريق السليم.
إلى جانب ذلك من المهم اعادة ترتيب دور الدولة في الاقتصاد بشكل ينسجم مع التوجه الجديد، وفق سلم يأخذ بعين الاعتبار حالة تطور الاقتصاد.
العمل على ترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات واقعاً لأجل منع ظهور الاستبداد وتجنب آثاره المقيتة على الاقتصاد والمجتمع.
كذلك ضرورة تعزيز استقلالية جميع المؤسسات بشكل واقعي لأجل تحقيق أهدافها بشكل مهني بعيداً عن المحسوبية والمنسوبية والمصالح الضيقة.
كما ان العمل على خلق بيئة اعمال جاذبة سيعمل على تنشيط القطاع الخاص الوطني وجذب القطاع الخاص الأجنبي وهذا سيعزز قوة ومتانة الاقتصاد.
وأخيراً، ضرورة إيلاء الجانب الاعلامي دوراً مهماً في تعزيز ثقافة المجتمع وتوعيتهم بمدى أهمية صوتهم الانتخابي في خلق مؤسسات قوية واقتصاد فاعل يحقق طموحهم وتطلعاتهم.
اضف تعليق