لو لم يتحرك طلبة جامعة كولومبيا الامريكية العريقة، ويطلقوا شرارة التظاهرات الطلابية المنادية بوقف الحرب في غزة، لما أمكن القول بوجود وعي مضاد للسردية المعروفة عن علاقات الغرب بالاسلام على المستويين النخبوي والشعبي. اذ ثمة ارتباط وثيق وربط دائم بين قضايا المسلمين، وانتمائهم الحضاري وبين مواقف الاخرين منها...
لو لم يتحرك طلبة جامعة كولومبيا الامريكية العريقة، ويطلقوا شرارة التظاهرات الطلابية المنادية بوقف الحرب في غزة، لما أمكن القول بوجود وعي مضاد للسردية المعروفة عن علاقات الغرب بالاسلام على المستويين النخبوي والشعبي. اذ ثمة ارتباط وثيق وربط دائم بين قضايا المسلمين، وانتمائهم الحضاري وبين مواقف الاخرين منها.
كان الانحياز الغربي إلى (اسرائيل) في حرب الابادة التي تشنها على فلسطينيي غزة، مؤلما ومثيرا للغضب والحنق، اذ لم يسبق إن غطى الغرب على المستوى الحكومي والرسمي عدوانات اسرائيل على العرب، كما فعل في الحرب الجارية، كان الدعم الرسمي العلني عسكريا وماليا ودبلوماسيا، يؤشر إلى عمق الخلل الذي اكتنف علاقات الغربيين ببلاد المسلمين عامة، وفي قضية المسلمين الأخطر. القضية الفلسطينية بشكل أخص ولم يتم تعديله رغم تطور العلاقات وتحسنها عما سبق.
كانت فلسطين بوصلة العلاقة بين الإسلام والغرب منذ الحروب الصليبية، والدافع الديني كان هو الابرز في صناعة مشهد العلاقة يومئذ، وكان منتظرا أن يعيد الغرب قراءة الدوافع، ويجدد الرؤية، بعدما توارى ظل الكنيسة على السلطة هناك، لكن التاريخين الحديث المعاصر أثبتا أن الموقف الغربي بعد عصور النهضة والتنوير والديمقراطية والاستعمار والرأسمالية وحقوق الانسان، ظل كما هو، يختفي خلف الشعارات الكبيرة وينطوي على تحيز كبير واصطفاف مع الدولة العبرية، دونما شروط أو تحفظات باعتبارها واحة الديمقراطية ولتماثل القيم والتراث، كما لو ان الدافع بقي كما هو ايضا، وفي واقع الحال تغيرت صورة الدافع واشكاله وبقيت نتائجه ومفاعيله تفعل فعلها المؤثر.
وللحقيقة فان النخب السياسية والثقافية والعلمية والمالية الغربية كانت الاكثر تحيزا، عدا استثناءات محسوبة مثّلها مثقفون واساتذة ومؤرخون وفلاسفة وسياسيون، غير ان تلك الاستثناءات سواء في امريكا واوربا لم تستطع تغيير المشهد، وبقيت اكثر المواقف الغربية في عمومها على حالها، فاسرائيل بنت الحضارة الغربية ستراتيجيا وسياسيا وثقافيا، والغرب بدفاعه عنها، انما يدافع عن سرديته الثقافية وصورته التي يحملها عن نفسه وذاته الحضارية.
ولا يشعر بتناقض مع مايتبناه من قيم ومايدعيه من مقولات، يريد عولمتها وتعميمها على البشرية، الاستثناء الذي دخل على هذه الصورة السائدة الان، هو تمردات الطلبة التي انطلقت من اهم الجامعات التي تتخرج منها النخب الامريكية (جامعة كولومبيا وجامعة بيركلي وجنوب كاليفورنيا وييل وهارفارد والعشرات غيرها) لتنتقل إلى جامعات ساحل الاطلسي الشرقي في فرنسا وبريطانيا والمانيا وغيرها، موقف الطلبة الاحتجاجي ينم عن غضب على الوعي النمطي، الذي تسوقه أكثر حكومات الغرب، وزعيمته الولايات المتحدة التي تستخف بالعالم وتقدم السلاح لاسرائيل والمعونات الغذائية للفلسطينيين! تحت مسمى (منع معاداة السامية)، ثم يقول الرئيس بايدن امام الملأ إنه لن يغير سياسته المساندة لاسرائيل حتى لو استمرت تظاهرات الطلبة. ويصف دونالد ترامب منافس بايدن على منصب الرئيس المتظاهرين بأنهم مغسولو الأدمغة!.
كان من تداعيات ثورة الطلبة وقسوة الشرطة وتصلب النخب الحاكمة في مقابلها، ترسّخ فكرة قوية في الذاكرة السياسية الغربية يصعب نسيانها والعبور عليها بسهولة، مفادها بأن تحرك الطلبة خطير، وأن استمراره لبعض الوقت يقود إلى مضاعفات سياسية واجتماعية، ليست هينة، ومن الضروري شيطنة هذا الحراك منذ البداية ووصمه بوصمات متعددة (يسار متطرف، مدمنو مخدرات)، لمحاصرته ومنع امتداده إلى فئات تستثمره في مطالب حقوقية، كما حصل في فرنسا نهاية ستينييات القرن المنصرم، فقد ابتدأ الحراك تعاطفا وتضامنا مع الطلبة المحتجين على الحرب في جامعة نانتير ثم السوربون، ليتحول إلى مطالبات كبيرة هزت فرنسا، وطالبت باصلاح النظام الاقتصادي وتوفير ضمانات للعمال وتعديل انظمة الاجور وغير ذلك. اي أن الحراك الطلابي صنع منعطفا في المسار السياسي.
وهنا يحق للمتفائلين حاليا المراهنة على (ثورة) الطلاب الجديدة في الغرب، فقد تنجح في تكسير مرايا السلطات والنخب المتحالفة معها، غير أن هذه المراهنة سابقة لأوانها ما لم تسر شرارة التظاهرات والاعتصامات إلى معظم الجامعات الغربية، بل مالم تسر إلى جامعات العالم الاسلامي نفسه، فقد اظهر طلبة الجامعات الاسلامية عدم اكتراث بما يجري في جامعات امريكا أو تعاطفوا تعاطفا ضعيفا وبطيئا، وهو ما لم يساعد في تحويل حراكات الطلبة إلى ثورة وعي انساني، تكسر معادلات المصالح الذاتية والسياسية للنخب الحاكمة، وتغير الصور التقليدية للعلاقات الدولية، التي تهيمن فيها دول (الفيتو) واساليبها المتحيزة الصادمة.
سيتغير شكل العلاقة بين الاسلام والغرب في جزئية القضية الفلسطينية على الأقل، من بوابة ثورة (الوجدان) الطلابية، شريطة أن يحسن العالم الإسلامي التواصل والتفاعل.
اضف تعليق