يشير السيد الشيرازي صاحب الذكرى الى ان اللاعنف يعني ان الفرد يعالج الأمور من هدم أو بناء باللين والرفق حتى لا يتأذى أحد من علاج المشكلات التي يعانيها الفرد، أو المجتمع بعبارة أخرى هو كالدواء الشافي الذي يوضع على الجسم ليتماثل إلى الشفاء، ويشير القرآن...
تعود أغلب المشكلات التي يعاني منها العالم اليوم إلى العنف والاضطهاد والاستعلاء الذي تمارسه بعض الدول أو الأنظمة الحاكمة في العالم، ومن الثابت ان هذا السلوك غير السوي يظهر حتى على صعيد المجتمع والأسرة والفرد، ويمكن للعنف ان يتسبب بانتهاكات صارخة للحقوق والحريات، من هذا المفهوم أطلق المجدد السيد محمد الشيرازي رحمه الله اطروحته في اللاعنف كسبيل وحيد لبناء مجتمع عادل ومستقر.
وان هذا المنهج يمثل قيمة أساسية تقود إلى السلم الاجتماعي والتعايش بين الأفراد بعيدا عن ويلات الصراعات المسلحة، أو الاقتصادية، وما تقود إليه من نتائج كارثية، فمنذ بدأت الخليقة في عهد النبي أدم عليه السلام كانت ثقافة العنف هي المتسبب الأول في تعكير صفو العيش حين أقدم قابيل على اغتيال أخيه هابيل بدوافع من الحقد والحسد، والى اليوم يفضل العديد من الأفراد بمختلف مستويات السلطة أو الحكم الركون إلى ثقافة العنف والقسر والاضطهاد لمواجهة التحديات الدولية أو الوطنية، ولذا ارتئينا التذكير بمنهج بعض علماء الإسلام ممن دعوا إلى مواجهة تلك المشكلات بروح الأخوة والتسامح وانتهاج سبيل الحكمة والموعظة الحسنة لترسيخ ثقافة القبول بالآخر المختلف.
فحين يرفض العلماء المسلمون والدعاة منهج العنف انما ينطلقون من قاعدة رصينة أسس لها الدين الإسلامي وبالتحديد في السيرة العطرة للنبي الأكرم (محمد صلى الله عليه واله وسلم) إذ دعا قومه إلى الإسلام وطيلة ثلاثة عشر عاماً حرص على ان يغرس في قلوب أصحابه منهج اللاعنف في خضم الصراع مع عتاة المشركين من قريش إذ ضرب المثل الأعلى في انتهاج الرأفة والرحمة واللين والعفو عن المسيء أو المخطئ، بل كان (صلى الله عليه واله وسلم) يرسخ قيم التسامح من جانب وقيم المشاركة والشورى لينزع عن النفوس آفة التفرد التي تقود حتما إلى الاضطهاد.
وليس بغريب ما تقدم فالقرآن العظيم يشير إلى المنهج المتقدم بنبذ العنف إذ يقول تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ"، فالعنف يعرف بأنه انتهاج سبيل الغلظة والفظاظة في القول أو العمل أو التعدي أو الانتهاك لحقوق الغير والاعتداء على حياتهم أو أرزاقهم أو إعراضهم أو سائر حقوقهم وحرياتهم، وذاك المعنى الأخلاقي حيث يشير القرآن في خطابه: "وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ"، إذ يؤشر ان الله سبحانه يعبر عن النبي أخ للناس وفي ذلك إشارة بالغة إلى الأخوة الإنسانية التي تعد هي الأصل وان ما سواها هو الاستثناء والانحراف عن الفطرة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها، لذا انتهاج العنف يعد وبحق من السلوكيات المنحرفة، ومعناه في اصطلاح الفقه القانوني والسياسي الاستخدام غير المشروع للقوة بهدف الاستيلاء غير المشروع على ما للغير، ومنه التوسل بالقوة أو العنف للاستيلاء على السلطة أو للبقاء في سدتها.
لذا يشير السيد الشيرازي صاحب الذكرى الى ان اللاعنف يعني ان الفرد يعالج الأمور من هدم أو بناء باللين والرفق حتى لا يتأذى أحد من علاج المشكلات التي يعانيها الفرد، أو المجتمع بعبارة أخرى هو كالدواء الشافي الذي يوضع على الجسم ليتماثل إلى الشفاء، ويشير القرآن الكريم إلى منهج العنف عند الحكام والظلمة بقوله تعالى "إِذَا تَوَلَّى ٰسَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ".
ويخط لنا الله جل جلاله منهج سلمي في حياتنا اليومية إذ لا يمكن ان يكون العنف هو السبيل للوصول إلى الغايات لاسيما النبيلة القائمة على منهج البناء على المستوى الفردي والاجتماعي ويدلنا الله تعالى إلى السبيل الأمثل للوصول إلى الغاية المتقدمة في قوله تعالى "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، وكذا يقول في مورد أخر "لَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ".
وما تقدم نماذج من التربية القرآنية الدالة على منهج العفو والتسامح وتأكيداً لما تقدم نشير إلى الآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عن العفو في التعامل مع الناس إذ يقول سبحانه "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" والله فيما تقدم يشير إلى العرف أي ما تعارف عليه الناس واعتقدوا الزاميته كمصدر للتشريع والأمر في على مستوى الشريعة أو الشرائع المستوحاة منها أو المتأثرة بها، بشرط ان يكون عرفاً صالحا وليس فاسداً فالله لا يحب الفساد وبالتأكيد ان منهج اللاعنف من أجلى مظاهر العرف الحسن القائم على احترام الذات البشرية والهادف إلى ترسيخ القيم السماوية في التسامح والتعايش والتراحم.
وعطفاً على ما تقدم نشير إلى أن منهج الدين الإسلامي قائم بالدرجة الأساس على تحريم الغدر والفتك والرعب أو الإرهاب فكل ما تقدم محرم بنصوص متفق على صحتها وردت في القرآن أو السنة المشرفة اذ يشير الباري عز وجل إلى "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"، ويذكر النبي محمد صلى الله عليه واله بمنهج الإسلام العظيم في اللين والمداراة وعدم العدوان على الآخرين ويقول في وصف المسلم الحقيقي "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، ويروى عنه أيضاً قوله "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" والمتأمل في النصوص المتقدمة يلاحظ وبلا مراء منهجاً قائماً على الرحمة والمحبة، وكيف لا يكون ذلك والإسلام يعني السلام والسلم والرفق حتى بالحيوان، حيث يوصي أمير المؤمنين علي عليه السلام عامله على مصر الصحابي الجليل مالك الأشتر فيقول "وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالمحبة لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَأ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَ وَالِي الأمر عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَكَ بِهِم"، والنص المتقدم غاية في الروعة لو تأملنا فيه إذ يؤكد الحاكم الأعلى في الدولة الإسلامية ان منهج اللاعنف هو السبيل الأول في التعامل مع الرعية وان على الراعي ان ينهج في سيرته منهج الصالحين والأتقياء ويعفو عن المسيء ويجنح إلى المساواة والعدالة المطلقة بين الجميع، بل ان الإسلام العظيم دعا إلى الحوار الهادف مع الغير وانتهاج ثقافة الإقناع في الدعوة إلى الله والى إتباع الشريعة المحمدية إذ يقول الحق سبحانه "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
فما الثمرة من العنف غير العنف المضاد وتوالد صور هذا السلوك وتعدد مظاهره إلى ان يغدو العيش صعب مستصعب فاجتماع الأفراد على هيئة شعوب وقبائل للتعارف او التعايش وليس للتناحر أو التقاتل يقول تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً".
اضف تعليق