إن عزوف الدول الاستعمارية عن الاعتذار بخصوص ماضيها الاستعماري، يُبقي ملف العلاقات الدولية بينها وبين الدول التي كانت مستعمَرة (بالفتح)، شائكاً ومعقداً وملتبساً، لاسيّما بخصوص مسار العدالة المنشودة، والأمر أحياناً يتعلق برأي عام مضلَّل، عاش على أمجاد بلاده الاستعمارية، وهو ما يمكن ملاحظته من وجهات نظر وآراء لليمين المتطرّف، والاتجاهات الشعبوية الجديدة...
دانت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، يوم 28 آذار/ مارس 2024، المذبحة التي ارتكبتها شرطة باريس بحق تظاهرة سلمية جزائرية، يعود تاريخها إلى يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961. وأصيب فيها نحو 200 شخص بين قتيل وجريح، ورُميت جثث بعضهم في نهر السين.
وندّد القرار بالقمع الدامي والقاتل بحق الجزائريين، ووضع المسؤولية على موريس بابون مدير الشرطة، الذي اتخذ قرار إطلاق النار على المتظاهرين. وخصّص القرار يوماً لإحياء ذكرى المذبحة ضمن جدول الأيام الوطنية والمراسم الرسمية.
تقدّم «حزب الخضر» بالمقترح، حسب وكالة الصحافة الفرنسية، وعارضه مجموعة من اليمينيين المتطرّفين. واعتبرت النائبة صابرينا صبايحي هذا التصويت تاريخياً، ويشكل محطة أوّلية لإدانة هذه الجريمة الاستعمارية، التي قامت بها الدولة، ولعل بقاء الأمر من دون حل يؤثر في العلاقات الجزائرية - الفرنسية، حيث ظلت الجزائر تطالب بإدانة الجريمة والاعتذار الرسمي وتعويض الضحايا، وفقاً لمعايير العدالة الانتقالية، التي تقتضي كشف الحقيقة والمساءلة وتعويض الضحايا، وجبر الضرر المادي والمعنوي وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، وصولاً إلى المصالحة.
وجاء قرار الجمعية الوطنية بعد أسابيع قليلة من إعلان قصر الإليزيه، عن زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى باريس (أواخر أيلول/ سبتمبر وبداية تشرين الأول/ أكتوبر 2024).
الجدير بالذكر، أن الرئيس فرانسوا هولاند كرّم ضحايا القمع الدامي في العام 2012، الذين تظاهروا من أجل استقلال الجزائر، واعتبر الرئيس ايمانويل ماكرون، أن تلك الجرائم لا تغتفر، وأوعز باتخاذ خطوات رمزية تهدف إلى تعزيز المصالحة، لكنّ ذلك لم يُرضِ الجزائر، التي تطالب باعتذار صريح وواضح، وتحمّل مسؤولية ما حدث.
والعدالة الانتقالية، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي، تعني كيفية استجابة الأطراف المعنية في المجتمع أو الدول على نطاق العلاقات الدولية، كما هي الحالة التي نحن بصددها، المتعلّقة بإرث الانتهاكات الجسيمة الصارخة لحقوق الإنسان، علماً بأنها تطرح أسئلة في غاية الصعوبة عن مدى تشرّب الأطراف المعنيّة بالثقافة القانونية، وقناعتها بمدى تحقّق مبادئ العدالة والإنصاف، واستعدادها للوصول إلى كشف الحقيقة، وتحمّل مسؤوليتها، وخصوصاً ما ترتبه من تعويضات مادية ومعنوية، وبالتالي وضع حدّ لعدم تكرارها بإجراء إصلاحات دستورية وقانونية لضمان ذلك.
ولعل الاحتلال الفرنسي للجزائر، الذي دام 132 عاماً، ما يزال لا يريد مغادرة الذاكرة الجمعية، والأمر لا يتعلق فقط بمجزرة باريس، بل بمئات الآلاف من الضحايا، الذين ذهبوا ثمناً للاستقلال.
وكانت أزمة فرنسية – جزائرية قد اندلعت عام 2021، إثر تصريحات أدلى بها الرئيس ماكرون خلال لقائه بمجموعة من الطلبة الجزائريين ومزدوجي الجنسية، وفرنسيين من المعمرين السابقين من بقايا الإرث الاستعماري. وأشار فيها إلى أن الجزائر تستغل ذكريات الحرب الدموية، وهو ما أثار ردود فعل شديدة من جانب الجزائر، التي أكدت شرعية الكفاح الوطني، والذي واجهته السلطات الفرنسية المحتلة بجرائم إبادة جماعية وجرائم ضدّ الإنسانية، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم.
إن عزوف الدول الاستعمارية عن الاعتذار بخصوص ماضيها الاستعماري، يُبقي ملف العلاقات الدولية بينها وبين الدول التي كانت مستعمَرة (بالفتح)، شائكاً ومعقداً وملتبساً، لاسيّما بخصوص مسار العدالة المنشودة، والأمر أحياناً يتعلق برأي عام مضلَّل، عاش على أمجاد بلاده الاستعمارية، وهو ما يمكن ملاحظته من وجهات نظر وآراء لليمين المتطرّف، والاتجاهات الشعبوية الجديدة.
وكانت الهيئة العامة المصرية للكتاب، قد نشرت ترجمة لكتاب بعنوان «زمن الاعتذار - مواجهة الماضي الاستعماري بشجاعة» في العام 2019، لمجموعة مؤلفين غربيين، جاء فيه على لسانهم: إن الدول الاستعمارية الغربية تستنكف الاعتذار عن ماضيها، ويلتجئ بعضها تحت ضغط الرأي العام، والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان، إلى الاكتفاء بكلمات غامضة وعمومية، مثل إبداء الأسف إزاء الدول الضحية، دون الإقرار رسمياً بحدوث ارتكابات جسيمة، وتقديم اعتذار واضح وصريح، الذي يقتضي تحمّل المسؤولية، في إطار مبادئ العدالة الانتقالية، تلك التي تستتبع التعويض المادي والمعنوي عن الأذى الجسدي والنفسي لما أصاب الضحايا وذويهم من الأبناء والأحفاد، فضلاً عن الأجيال اللاحقة، فضلاً عن جبر الضرر الجماعي، بما فيه إبقاء الذاكرة حيّة.
لقد كابدت الدول المستعمَرة (بالفتح) من الإذلال لكرامتها الوطنية، إضافة إلى نهب ثرواتها على نحو ممنهج، الأمر الذي ترك ندوباً كبيرةً وجروحاً فاغرةً على تطور مجتمعاتها، فضلاً عن إعاقة تنميتها، وإذا كان مؤتمر ديربن (جنوب إفريقيا 2001) قد طالب الولايات المتحدة الاعتذار عن حرب الإبادة للسكان الأصليين، فإنه وجّه رسالةً إلى المجتمع الدولي دعاه فيها إلى ضرورة إدانة الجرائم العنصرية، التي ارتُكبت تحت عناوين تفوّق «الرجل الأبيض» و«المدنية» و«التحضّر»، وغيرها من المسوّغات الأيديولوجية، التي تعكزت عليها الدول الاستعمارية، سواء بريطانيا أم فرنسا أم بلجيكا أم هولندا أم البرتغال أم إيطاليا أم ألمانيا أم إسبانيا أم غيرها.
ولعل مثل هذا الأمر يصبح أكثر إلحاحاً وراهنيةً، لما يجري اليوم في غزة وعموم فلسطين، تلك التي تقوم بها سلطة الاحتلال من مجازر وحرب إبادة جماعية، وهو ما أكّدته محكمة العدل الدولية كموقف قانوني وأخلاقي وإنساني.
اضف تعليق