ونحن نقترب من نهاية شهر رمضان، يمكن لأمة المسلمين استعادة مجدها وحضارتها التي تصدرت قيادة العالم إبان الرسالة النبوية، ويمكن ذلك من خلال استثمار جميع الفرص التي تتوفر للمسلمين، ومن بينها وأهمها التركيز على شهر رمضان الكريم وما يتميز به من أجواء خاصة تزيد من تلاحم المسلمين وتقاربهم وتوحدهم...
(مسؤولية الأمة أن توفر الاجواء الصالحة من شورى وحرية ومساواة لكي يمكن إعادة الحضارة الإسلامية مجدداً) الإمام الشيرازي
هناك مؤشرات كثيرة لا يمكن إنكارها، يقرّها الواقع، تؤكد بأن الغرب يتفوق حضاريا على المسلمين في العصر الراهن، وهنالك أسباب تقف وراء ما يحدث اليوم، ويُقال لكي تعالج المرض عليك أن تقرّ أولا بحالة الاعتلال التي تصيبك، ومن بعد ذلك تخطط لمرحلة العلاج، في نفس طويل، مع العلمية الدقيقة، والتأني والشروع بالتطبيق السليم.
السؤال المطروح في عصرنا الراهن، كيف يستطيع المسلمون أن يستنهضوا حضارتهم مجدّدا، وكيف يمكن العودة إلى الصدارة حضاريا، بعد أن أصبح الغرب بالمقدمة، مع أن الإسلام هو الذي جاء إلى البشر ليوجد الأسباب والأجواء التي تساعد على بناء أمة متقدمة، من خلال بناء الفرد المكتمل، لقد تعلّق الناس بالإسلام لأنهم وجدوا فيه ضالّتهم، ولهذا تمسكوا به ومبادئه، ودخلوا في أفواجا.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (شهر رمضان شهر البناء والتقدم):
(عندما جاء الإسلام أوجد مناخاً فاعلاً في المجتمع يمتاز بكل المواصفات الضرورية لإقامة حضارة انسانية، وهذه المواصفات هي؛ الاعتناء بالذوق والجمال، النظافة الروحية و النفسية و الجسدية، التنظيم في مختلف الشؤون، والفضيلة في مختلف الأبعاد، الشورى في مختلف الأنشطة السياسية و الاجتماعية و التعاون في مختلف الاتجاهات المقبولة، وضمان الأمن والاستقرار، والتفكير بالإنسانية وليس بجماعة خاصة، وأجواء شهر رمضان محفّزة على كل هذه القيم).
وكما نعرف جميعا أن لشهر رمضان أجوائه المختلفة التي تحفّز النفوس والقلوب على الخشوع، وعلى القيام بالمبادرات الخيرية في السلوك، أو في إبداء السلوك الحضاري تجاه الآخرين، حيث تتضاعف روح التعاون، والتراحم الإنساني والشعور المضاعف بالآخر، كل هذا بسبب الأجواء الإيجابية التي أوجدها الإسلام، والتي وجد فيها المسلمون وغيرهم على حد سواء، سببا للتمسك بالإسلام والدفاع عنه حتى ضد الأقوام التي ينتمون إليها.
الإسلام نشر قيم الذوق والجمال
فالهدوء والاطمئنان والذوق والجمال، والعدل والمساواة، والتكافل، كلها قيم وجدها الناس في ظل الإسلام، وعاشوا في كنفها حياة مطمئنة مكتملة وكريمة، لهذا دخلوا الإسلام، وانتموا له، ودافعوا عنه، لأنه قدّم لهم الحياة التي يحلم بها كل إنسان موجود على وجه البسيطة، وهكذا استطاع الإسلام أن يجتذب الآخرين إليه بقوة وقناعة وإيمان، مما ساعد على بناء حضارة إسلامية وضعت العالم في قلب النور والسلام.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(في شهر رمضان ونتيجة للمناخ الايجابي الذي أوجده الإسلام في بداية الرسالة أقبل الناس على الدخول في دين الله أفواجاً، فوجدوا فيه ما كانوا يحملون به، ووجدوا الجمال بأروع صوره، ووجدوا الحرية بأبهى أشكالها، ووجدوا العدالة في أفضل صورها، ووجدوا المساواة على أحلى ما يمكن، ووجدوا الرفاه والأمن والطمأنينة. وعندما دخلوا الإسلام تمسّكوا به اشدّ ما يمكن، وبعض هؤلاء الذين عرفوا الإسلام ـ وان لم يدخلوا إليه ـ حاربوا ملوكهم وأهل ملّتهم إلى جانب المسلمين كما يُبين لنا التاريخ ذلك لما لمسوا فيه من الرفاه والحرية والأمن).
ولكن بعد تلك القفزة الكبيرة في حياة المسلمين، وتصدّرهم للحضارة، ولقيادة العالم، حدث ذلك التراجع الغريب، وتقهقرت أمة الإسلام وتراجعت دولتهم، وتمزقت دولتهم، وتشرذم ذلك النسيج الاجتماعي الأخلاقي الذي كان منسجما قويا متكاتفا، لدرجة أنه كان نموذجا للعالم كله، لكن بعد التقهقر، والعودة إلى الوراء لم يعد المسلمون يتصدرون قيادة العالم.
والأسباب يؤشرها الإمام الشيرازي، كذلك تؤكدها الوقائع السياسية، حيث تسيّد المشهد السياسي الإسلامي حكومات (مأجورة) رضخت للغرب، واحتمت به، فجارت على مواطنيها وسامتهم الظلم والقهر، ووضعتهم تحت سياسات القمع والاضطهاد والملاحقة والتهميش، وهي أساليب عانى منها المسلمون في الدول الإسلامية بالاسم وليس بالتطبيق، ولهذا السبب تراجع المسلمون عن مواقع الصدارة والتقدم لصالح الغرب.
فأدرك الغربيون تلك الأسباب التي جعلت من المسلمين أقوياء، فعملت على تقويضها، وتخريبها بأساليب خبيثة في المقدمة منها شراء ذمم الطبقات الحاكمة، وتنصيب حكومات عملية تخضع للمآرب الغربية، فتراجعت حضارة المسلمين وتخلخل ذلك البناء الحضاري الأخلاقي، وفهم الغرب اللعبة وأخذ يضاعف من أساليبه الخبيثة لإضعاف المسلمين.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(أما بعد ان انقلب المسلمون على أعقابهم وسيطر عملاء الغرب على بلاد الإسلام، وتركوا شرع الله وتمسكوا بشريعة الهوى، أخذت بلادهم بالتراجع، وانهارت حضارتهم التي بنوها لقرون من الزمن. وعلى العكس أخذت الحضارة الغربية تتقدم أشواطاً إلى الامام لأنهم أدركوا قوة المسلمين فبدأوا يأخذون بأسباب هذه القوة، وقد حذّر أمير المؤمنين (عليه السلام) المسلمين عندما خاطبهم قبل قرابة أربعة عشر قرناً: (الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم).
حماية الحريات وتشريع الضمان الاجتماعي
ومن الأمور التي ساعدت الغرب على تعويق حضارة المسلمين، أنها أخذت تعمل بمصادر قوة المسلمين أنفسهم، فاطلعوا على القرآن، وتعمّقوا في تلك الجوانب التي ركز عليها كتاب الله، وفهم الغرب تلك المضامين الخلاقة، وقام بتطبيقها في سياساته، ومنها منح الحريات للناس، وسن قوانين الضمان الاجتماعي، وتكريم العلماء والمبدعين والاهتمام بهم وبالعلوم المختلفة، وأبدعوا في قضية الإنتاج بمختلف المجالات.
كذلك ركز الغرب على توحيد البلاد الغربية، بعد أن لاحظوا قوة المسلمين حين توحدوا وأصبحوا أعظم أمة وأقوى دولة بعد أن توحدوا في هذه الدولة، وهي تعاليم حثّ عليها القرآن، والإسلام، فأخذها الغرب وعمل بها، في حين تركها المسلمون وانشغلوا بالتناحر والحروب والمساجلات الجوفاء فيما بينهم، فصار المواطنون المسلمون يهاجرون إلى دول الغرب لكي ينعموا بالحرية والسلام والابتكار أيضا.
يؤكد الإمام الشيرازي هذه الشواهد فيقول:
(لقد سبقنا الغرب في العمل بجزء من القرآن فأعطوا لشعوبهم جزءاً من الحريات الممنوحة في الإسلام وشرعوا قانون الضمان الاجتماعي الذي يعود في جذوره إلى الاسلام، واحتضنوا العلماء وأهل العلم، واندفعوا نحو الانتاج في الكم والكيف. وأهم من ذلك وحّدوا بلدانهم في دولة واحدة بعد ان أزالوا الحواجز الجغرافية والنفسية والاقتصادية، وكانت نتيجة ذلك أن المسلمين يضطرون لأن يلجأوا إلى الدول الغربية لينعموا بالحرية التي حُرموا منها في بلادهم).
لذا ونحن نعيش أواخر شهر رمضان، لابد أن نستعيد تلك التجربة القاسية التي عاشها المسلمون، ولابد أن نعرف الأهمية القصوى التي يتميز بها شهر رمضان، والفرص الكبيرة والكثيرة التي يقدمها للمسلمين حتى يستنهضوا حضارتهم من جديد.
وهذا الهدف الكبير يتطلب توفير ثلاثة شروط أو بنود على أمة المسلمين تحقيقها حتى تستنهض حضارتها مجددا، وهذه الأمور كما يذكرها الإمام الشيرازي واضحة وجلية، وممكنة التحقيق أيضا حيث يقول الإمام:
(في شهر رمضان لابدّ وان نتذكر ما لحق بنا عند المقارنة؛ كيف كنّا مع ما كان عليه الغرب في العصور المظلمة، وكيف أصبحنا وكيف اصبحوا هم اليوم. فالفارق بيننا وبينهم في ثلاثة امور لابدّ ان نعمل من أجلها: الأمر الأول: المبدأ الصالح. الأمر الثاني: الإنسان الصالح. الأمر الثالث: الجو الصالح).
ختاما، ونحن نقترب من نهاية شهر رمضان، يمكن لأمة المسلمين استعادة مجدها وحضارتها التي تصدرت قيادة العالم إبان الرسالة النبوية، ويمكن ذلك من خلال استثمار جميع الفرص التي تتوفر للمسلمين، ومن بينها وأهمها التركيز على شهر رمضان الكريم وما يتميز به من أجواء خاصة تزيد من تلاحم المسلمين وتقاربهم وتوحدهم، وبالتالي تحقيق القوة المعنوية والدينية والاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تفتح السبل الجديدة لاستنهاض الحضارة الإسلامية من جديد.
اضف تعليق