وبهذا النهج ستعرض المحكمة نفسها للتقويض وتزايد الخصومات السياسية والاجتماعية، الذين سيعملون على التركيز صوب نقطة ضعفها الأساسية، وهي عدم تشكُّلها على أساس دستوري. فالدستور العراقي ينص في المادة 92 على تشكيل محكمة اتحادية عليا مستقلة مالياً وإدارياً ومعنوياً، تتكون من عدد من القضاة وخبراء...
تزايد في الآونة الاخير نشاط المحكمة الاتحادية في العراق بشكل غير مسبوق، من حيث الاحتكام اليها في كثير من القضايا والقرارات والاجراءات التي تتجاوز الاختصاصات القضائية المحددة في الدستور لتدخل في اطار الاشتباك مع السياسة.
ينبع الدور المتنامي للمحكمة الاتحادية العليا في النظام السياسي العراقي من سلطتها الواسعة في إبطال التشريعات والإجراءات التنفيذية التي تتعارض مع الدستور، وهي تمارس سلطة مراجعة قضائية ذات مسؤولية حاسمة في البت بدستورية القوانين والتشريعات والقرارات والتعليمات والانظمة التي تصدر من السلطات الاتحادية والمحلية بكل فروعها اضافة الى سلطة تفسير النصوص الدستورية والقانونية.
ان الدستور النافذ لعام ٢٠٠٥ حدد صلاحيات المحكمة الاتحادية في المادة ٩٣ منه بثمانية اختصاصات، وهي الرقابة على دستورية القوانين والانظمة والتعليمات النافذة، وتفسير نصوص الدستور، والفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق تلك القوانين والانظمة والتعليمات والاجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، وايضا الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم والمحافظات والبلديات والادارات المحلية، وبين حكومات الاقاليم أو المحافظات، والفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء وينظم ذلك بقانون، والمصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب اضافة الى الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية للأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، وكذلك الفصل في تنازع الاختصاصات فيما بين الهيئات القضائية للأقاليم أو المحافظات غير المنتظمة في اقليم، وهذه الاختصاصات مثبتة بقانون تعديل المحكمة الاتحادية رقم ٢٥ لسنة ٢٠٢١.
في ضوء ذلك نرى ان المحكمة الاتحادية لديها صلاحيات واسعة تتجاوز الاختصاص القضائي المتعلق بتفسير القوانين اذ ان صلاحية النظر في الاجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية يتيح لها ذلك، وبالتالي يمكن القول ان اختصاصاتها القضائية غير مقيدة بهذا السياق عند الركون اليها.
لكن في الواقع يجب ان يتمحور دور المحكمة في التفسير الدستوري عند الضرورة لإدارة الاضطرابات والصراعات الحاسمة في العملية السياسية لان اقحام المحكمة الاتحادية في البت في كل مسألة دستورية وتشريعية وتنفيذية لدوافع تتعلق بالمصالح السياسية الفئوية، سيحول المحكمة الاتحادية إلى اداة لتصفية الحسابات بين القوى السياسية المتنافسة وطغيان الخلافات السياسية والروح الحزبية على الاطار العام الذي يحكمه الدستور، وسيكون موقف هذه القوى المتنافسة من المحكمة الاتحادية وفقا للقرار فيما اذا كان لصالحها ام لا؟.
اذ شهد العراق سوابق استثنائية في هذا السياق فلأول مرة، رأينا مرافعات من قبل رؤساء كتل واحزاب سياسية ومحاميهم امام المحكمة الاتحادية العليا العراقية بعد استمرار الجدل حول نتائج الانتخابات النيابية المبكرة التي جرت يوم 10 تشرين الاول من عام 2021.
وتثار الان تساؤلات دستورية وقانونية حول امتلاك هذه المحكمة صلاحياتها واختصاصاتها مثل نظرها بالطعون الانتخابية، او صحة عضوية نائب وانهاءها، او صحة مرشح لرئاسة الجمهورية، او صحة انعقاد جلسة، او تحديد نصاب حضور جلسة رئيس الجمهورية، او تأجيل موعد انتخابات، او الغاء مقاعد كوتا الاقليات في اقليم كردستان، او البت في توزيع رواتب موظفي الاقليم لتكون من قبل الحكومة الاتحادية، واعادة تقسيم المناطق الانتخابية، وتخفيض عدد نواب برلمان الاقليم، وتسليم جميع إيراداته النفطية وغير النفطية إلى خزينة الدولة، او تفسير مقتضيات رفع الحصانة البرلمانية؟، كل هذه الاختصاصات مارستها المحكمة الاتحادية عند التقاضي لديها، الامر الذي سبب ارباكا سياسيا كبيرا، جعل منها موضع اتهامات بأن قراراتها تأتي لصالح اطراف سياسية معينة، اضافة الى تجاوز اختصاصاتها القضائية بشكل غير مقيد واستدعاءها للدخول على الخط السياسي بشكل واضح.
فالدور الهام الذي تؤديه المحكمة الاتحادية العليا ذهب إلى ما هو أبعد من تفسير القوانين والبت في النزاعات الناشئة عن السلطات الاتحادية والمحلية، ليتجاوزه إلى ما هو أشد تأثيراً على المستقبل السياسي للبلد، أي استخدامها أداة سياسية، تُحقق للفاعلين السياسيين عبر القانون ما عجزت عن تحقيقه بالسياسة والتوافقات والتحالفات والتعارضات، لتعيد المحكمة بذلك صياغة خارطة المشهد السياسي في العراق على نحو مختلف كثيراً عما كان سائداً منذ عام 2003، من خلال قرارات غير قابلة للطعن او الاعتراض، ما يعني إن التوافق السياسي بين المكونات الثلاثة في البلد سيكون عرضة للخطر.
وفي هذا السياق، تأكدت هذه المخاوف وايضاً تزايد نطاق دور المحكمة الاتحادية الاختصاص القانوني والقضائي من خلال انسحاب عضو المحكمة القاضي عبد الرحمن زيباري مرشح الحزب الديموقراطي الكردستاني، احتجاجاً على قراراتها الأخيرة بخصوص الإقليم، إذ قال "إن ما لمسته في اتجاهات وقرارات المحكمة الاتحادية العليا، وتفسيراتها لنصوص الدستور في الكثير من الدعاوى والقرارات، هو الاتجاه نحو التفسير الواسع الخارج عن السياق، والذي قد يصل إلى مستوى التعديل الدستوري، وبما يُشكل مساساً بالعديد من المبادئ الدستورية، ومن ضمنها المبدأ الفيدرالي، ومبدأ الفصل بين السلطات"، وهذا يؤشر على ان المحكمة الاتحادية العليا دخلت نطاق التشريع غير المباشر، عبر تفسير مواد الدستور والبت في النزاعات السياسية، ما يحسب لطرف على حساب اطراف اخرى بشكل شبه دائم ما يعني إعادة ترتيب الخريطة السياسية لصالحه.
وبهذا النهج ستعرض المحكمة نفسها للتقويض وتزايد الخصومات السياسية والاجتماعية، الذين سيعملون على التركيز صوب نقطة ضعفها الأساسية، وهي عدم تشكُّلها على أساس دستوري. فالدستور العراقي ينص في المادة 92 على تشكيل محكمة اتحادية عليا مستقلة مالياً وإدارياً ومعنوياً، تتكون من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء القانون، يُحدَّد عددهم وتُنظم طريقة اختيارهم وعمل المحكمة بقانون يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.
الذي لم يشرع لغاية الان بسبب الخلافات الحادة بين الكتل السياسية حول طبيعة خبراء الفقه الإسلامي وعددهم ودورهم، وما إذا كان لهم حق نقض قرارات المحكمة أم لا، فضلاً عن نقاط خلافية أخرى حول هذا القانون المعطل لغاية الان، رغم انه احد فقرات المنهاج الوزاري لحكومة السوداني الذي صادق عليه البرلمان، في فقرة المحور التشريعي التي نصت على تشريع هذا القانون خلال ستة أشهر من عمر الحكومة.
ما يؤشر اما استمرار الوضع على ما هو عليه من تزايد دور المحكمة الاتحادي في الجوانب والنزاعات السياسية، او ضمان حياد المحكمة وعدم الركون اليها في حل هذا الخلافات والعودة لاطار التوافق السياسي، خاصة اذا تعالت الاصوات المعارضة لقرارات المحكمة والتركيز على مسألة عدم دستوريتها وضرورة تشريع قانونها، او تزايد مسار الاحتجاجات الشعبية خلاف ذلك خاصة مع مؤشرات عودة التيار الصدري للسياسة تحسباً للمشاركة في الانتخابات القادمة التي تتطلب ان لا تتدخل المحكمة في تفاصيلها ومجرياتها وفقا لما يريده معارضوها.
اضف تعليق