ان هذا التراجع يعود إلى ضعف التكوين المعرفي، وانزواء اهل المنجز الحقيقي، وتصدر الطارئين والفارغين لمساحات البث الاعلامي، وانتشار الهوس بالبضاعة الانفعالية والسرديات الكوميدية، الامر الذي جعل العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة بحسب القاعدة الشهيرة، ذلك ما يستلزم عملا جادا من عقل الدولة، دعما ومساندة للمشاريع والافكار والمنجز الجاد...
نقصد بالثقافة تحديدا ذلك (الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والاخلاق والقانون والعادات وكل القدرات التي يكتسبها الانسان بوصفه عضوا في المجتمع)، هذا هو اشهر تعريف للثقافة وضعه الانثروبولوجي البريطاني ادوارد تايلور( 1832- 1917)، ويشدد فيه على البعد الجماعي للثقافة وانها مكتسبة، وتمثل كلية حياة الانسان الاجتماعية.
تمارس الثقافة بعدا وظيفيا بحسب مالينوفسكي (1884- 1942)، فهو يؤكد على ان كل عادة، وكل شيء، وكل فكرة وكل معتقد، يؤدي وظيفة حيوية، وهو يربط بين الثقافة واشباع الحاجات الاولية أو العضوية للانسان، ومثلما تؤدي انساق الثقافة وظائف معينة، فإنها تتأثر بظروف المجتمع، وتتبدل وتتغير تبعا للعوامل الاقتصادية والسياسية والتاريخية، وقد تصاب الثقافة بالهزال والضعف والتراجع، أو تتطور وترتقي وتغتني تبعا لمعطيات حالة الابتكار والخلق والتجديد.
وقد تفقد ثقافة ما اصالتها وخصائص نشأتها وتختلط بغيرها وتتهجن، سيما في عصر العولمة الذي صار التلاقح الثقافي سمته الأكبر. نحن نطلق على انماط من الثقافة اسماء واوصاف ذات طابع معياري، فنسمي هذه بدائية أو سطحية أو بسيطة، ونطلق على غيرها وصف العمق والتعقيد والتكامل.
ان الظواهر السائدة في ثقافة ما وفي لحظة زمنية معينة، تلخص احيانا الوضع الذي يعيشه المجتمع نفسيا وفكريا وقيميا، فالمجتمع الحيوي الذي تسود فيه قيم الابتكار والتجديد والرغبة في توليد معانٍ جديدة، أوتجاوز معاني ساكنة أو افكار بالية أو علاقات قديمة، ناشئة من معطى اقتصادي أو ديني أو اجتماعي أو سياسي سابق، هذا المجتمع يعيش حالة تبدل أو تغيير ثقافي، والعكس صحيح ايضا، فالمجتمع الراكد أو الساكن أو المنعزل، الذي تسود فيه قيم واخلاق الطاعة والسكونية والمحافظة، يظل مجتمعا بطيء التغيير أو رافضا للاندراج في السيرورة الكونية، أو مقاوما لرياح التجديد، وفيه تتوالد ميكانيزمات للمقاومة والرفض، وعليهأن يدرك أن لمقاومته ثمنا، ولرضوخه ثمن ايضا، أو يجترح لنفسه طريقا يحافظ فيه على ثوابته وهويته، مع استجابة واعية لداعي التجديد والمواكبة والموائمة بحسب مقتضيات واقعه وشروطه الاقتصادية والدينية والاجتماعية.
نخلص من هذه المقدمة السريعة إلى ان ثقافة أمة ما، أو جماعة بعينها، أو شعب من الشعوب، تتماهى كثيرا بقدرتها على اشباع حاجاتها وتطوير قدراتها، والاستفادة من تجارب غيرها وتكييف ذلك وفقا لموجبات واقعها.
سؤالنا الجوهري، كيف يرى العراقيون ثقافتهم بشكلها العام وفقا لمعايير زمنهم الراهن؟، كيف هي ادابهم ورسومهم، واذواقهم ومعارفهم وطقوسهم وفولكلورهم بعد سنوات المحنة والحصار والحروب وتدفقات العولمة الثقافية؟ كيف يرون خطابهم الثقافي وسردياتهم الاجتماعية؟، وبماذا يحكمون على فنهم وشعرهم الشعبي والفصيح مقارنة بما كانوا عليه قبل نصف قرن مثلا؟ اي خطاب سياسي ومعارف وقيم تسود في برامجهم التلفازية وحواراتهم المسموعة والمكتوبة، وماهو المحتوى الذي يقدمونه لانفسهم وللاخرين في وسائل التواصل الاجتماعي؟
يشتد الجدل اليومي بين اهل المعرفة والنخب في توصيف هذه الحالة التي يعيشها العراقيون، فهل هم في حالة نهوض وتغيير مجتمعي ؟ ام في حالة اندماج في ثقافة الموظة واللقطة السريعة والصورة المثيرة والحرية غير المنضبطة؟ هل صحيح أننا لم نطور شيئا، بل اخذنا ثقافة الاستهلاك و(الشو) ونلهث نحو المسايرة والتقليد والرثاثة والشعبوية المتضخمة؟.
ثمة من يتحدث عن انحطاط ثقافي وتراجع قيمي واخلاقي، بعدما سيطرت وسائل الاعلام والاتصال والتواصل الاجتماعي على حياة الناس، وصارت الاثارة والتهكم والسخرية والتهريج ومنطق التفاهة، يجتذب المشاهدين والمتابعين، بينما لا تجد إلا أعدادا قليلة من المتابعين والمهتمين بالمعارف والثقافة الجادة والادب الرفيع والتذوق الفني الراقي!.هل يحدث ذلك في العراق وحده؟ ام ان ذلك سمة المجتمعات التي لم تطور منتجها الثقافي بادوات تقنية حديثة وابتكارات تكنولوجية احدث ؟
لقد انحطت الكثير من المنتجات (الثقافية)، وصارت السلعة الرخيصة والمزخرفة والمثيرة المحاكية لغرائز الاثارة، سمة هذا الزمن الانتقالي، يبدو المشهد العراقي للرائي والمراقب سطحيا ومتدنيا، قياسا على ما انتشر من خطابات سياسية واعلامية رثة مسطحة، فاقدة للرؤية العميقة المحيطة بازمات البلاد ومشكلاتها، والقارئة بحرص لواقع المجتمع المفتوح على تحديات بنيوية متعددة. وقياسا على مظاهر شعبوية في تجمعات الاحزان والافراح والمناسبات الاجتماعية والسياسية بل وحتى بعض الدينية.
لم يتوقف الانتاج الفكري والادبي والعلمي الرصين، وما زال العراق ولادا ومنتجا وواعدا على مختلف الصعد، وقد ازداد عدد الباحثين والكتاب، وبرز مفكرون ومبدعون وادباء جادون، ولم يعد التبجيل الثقافي مقتصرا على الشاعر والقاص والاديب كما كان سابقا، بل اتسعت مساحة المنجز الثقافي وشملت حقولا متعددة، غير ان ما تحقق لا يوازي مكانة وصورة العراق المتخيلة عند اهله وخارج حدود اقليمه، فما ينتظره الناس اكبر واعمق، ومن الظلم ان يختزل العراق بما يظهر على سطح الاعلام وفضاءاته من تهريج ومهرجين، وكأن الابداع مات في بلاد الرافدين، غير ان الصورة المرسلة والمصدّرة، يشوبها الضعف والهزال، وماذلك الا بسبب الظاهرة الشعبوية التي تتصدر المشهد سياسيا ودراميا واعلاميا.
ان هذا التراجع يعود إلى ضعف التكوين المعرفي، وانزواء اهل المنجز الحقيقي، وتصدر الطارئين والفارغين لمساحات البث الاعلامي، وانتشار الهوس بالبضاعة الانفعالية والسرديات الكوميدية، الامر الذي جعل العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة بحسب القاعدة الشهيرة، ذلك ما يستلزم عملا جادا من عقل الدولة، دعما ومساندة للمشاريع والافكار والمنجز الجاد، ترويجا ومأسسة وتظهيرا، ورقابة واعية تمنع الاسفاف وتصون الحريات التعبيرية والبحث العلمي الرصين.
اضف تعليق