بعد تعرضه لضربة ابن ملجم ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، فاضت روح أمير المؤمنين في ليلة الحادي والعشرين، فهو لم يقتل كحاكم وزعيم دولة، وهو ما أوهم به القشريون انفسهم في تلك الحقبة الزمنية، وإنما كانسان جسّد كل قيم الحق والفضيلة بأروع اشكالها...
دموعٌ ساخنة تنهمر من عيني رسول الله وهو يخاطب علياً خلال خطبته لاستقبال شهر رمضان المبارك، فقد سأل النبي الأكرم عن أفضل الأعمال في شهر رمضان، فأجابه: "الورع عن محارم الله، ثم بكى، فسأله الإمام عن سبب بكائه، فقال: "أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربك وقد اتبعك أشقى الآخرين يتبع أشقى الأولين، شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك فقلت: يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: نعم في سلامة من دينك".
نعي النبي الأكرم لأمير المؤمنين بشكل مبكّر يعطي مصداقية عملية لمن كان جالساً من "الأصحاب" ولعامة المسلمين ممن سمع النعي آنذاك، ولنا ايضاً، وللأجيال القادمة الى يوم القيامة، للعلاقة الوثيقة والعضوية مع علي بن أبي طالب، منذ الولادة وحتى الشهادة.
التحسس من شخص أمير المؤمنين تولّد في نفوس البعض واستحال ورماً سرطانياً قضّ مضاجعهم سنين طوال، منذ أول لحظة عرف فيها رجال قريش والقبائل العربية طبيعة العلاقة بين رسول الله وعلي عندما أعلن لأول مرة أثناء تأديه رسالة ربه: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ))، أنه الخليفة من بعده على رؤوس كبار القوم الذين اتخذوا ذلك مادة للسخرية من أبي طالب، بأن "عليك أنت تطيع ابنك" في محاولة يائسة لاستيعاب الصدمة، ثم الاحداث المتلاحقة خلال سنوات المواجهة المحتدمة مع جبهة الشرك، وكيف كان علياً يدافع عن رسول الله بكل قوة وبسالة، وأبرزها حادث المبيت، فهذه وغيرها لم تحصل بعيداً عن أنظار القرشيين؛ المسلمين منهم والمشركين، ثم بلغت هذه العلاقة القمة عند استقرار المسلمين في مدينة يثرب (المدينة) بعد الهجرة، وتشكّل المجتمع الاسلامي الأول.
لنأخذ مثالاً واحداً من أمثلة عديدة تجسد هذه العلاقة الاستثنائية عندما جاء الأمر الإلهي بسد جميع أبواب البيوت المطلة على مسجد النبي، وهي بيوت "الأصحاب" ما عدى باب بيت أمير المؤمنين يبقى مفتوحاً، ورغم إن القضية لم تكن اجتهادية ورأي خاص يصدر من النبي الأكرم، بقدر ما كان النبي ملبياً طلب السماء وحسب، بيد أن الغيظ المشتعل في نفوس بعض أولئك الأصحاب دفع أحدهم في اليوم الأول لتعيينه "خليفة" بعد وفاة الرسول، أن أمر بغلق باب علي في مخالفة صريحة لقرار رسول الله ولأمر الله –تعالى-!
فايروس الحسد والحقارة كان ينتقل من شخص الى آخر في فترات زمنية متلاحقة حتى وصل لأولئك النفر المهزوزين في إيمانهم بالإسلام بشكل عام، وبولاية أمير المؤمنين بشكل خاص وهم منضوون في جيشه لمقاتلة جيش الشام بقيادة الباغي معاوية بن أبي سفيان، فمن كان أولئك الذين انشقوا عن الجيش الإسلامي وشكّلوا طائفة الخوارج، وكفّروا قائدهم ثم شنّوا الحرب ضده؟
هم أبناء أولئك الحاسدين والمبغضين لأمير المؤمنين في حياة رسول الله، ومن أظهر الوفاق مع ما قاله النبي بحقه، وأضمر خلافه في قلبه، بل واحياناً خرجت تلك الضغائن الدفينة الى أرض الواقع كما حصل مع أسرة الأشعث الكندي الذي كان في عهد أمير المؤمنين زعيم كندة، وأحد قادة الجند في جيشه، والى جانبه ابنته جعدة، وكان ابنه محمد طفلاً حدثاً، فقد أدى الأب دوره النفاقي، فيما أدت ابنته دورها الاجرامي، ثم تبعهم على الأثر محمد، في عهد الإمام الحسين وفي أحداث الكوفة مع مسلم بن عقيل.
يا ترى ما مشكلة "البعض" مع علي بن أبي طالب حتى يخلقوا كل هذا الكم من الحقد والضغينة طوال تلكم السنين، ثم يتحول الأمر الى إرث فكري وعقدي الى يومنا هذا، ويستمر الى يوم القيامة؟!
هل انتهك الإمام أمير المؤمنين حقاً لهم؟ هل أراق الدم الحرام منهم؟ هل سلب شيئاً من اموالهم؟ أو هل أساء اليهم من الناحية الأخلاقية؟
لنبدأ من آخرهم؛ شقيق عاقر ناقة ثمود، منفذ عملية الاغتيال ضده، عليه السلام، وتسبب في استشهاده في مثل هذه الأيام، فقد سجل التاريخ المحاورة الخالدة بينه وبين هذا الضال، حيث قال له بلهجة من المستحيل ان يكررها أحد في مثل هذا الموقف: ويلك..! لم فعلت هذا؟! أبأس الإمام كنت لك؟! أما كنت أعطيك؟! أما كنت أقربك؟! بل حتى إنه، عليه السلام، لم يزجره ويأمره بأن ينهض من نومه على بطنه في المسجد فوراً ويصحح وضعيته الكريهة كما يحدث لشرطي عادي في زماننا مع مواطن اذا كان في نفس الموقف، فما بالنا وطرف الحوار زعيم دولة وخليفة للأمة، و وصي خاتم الانبياء والمرسلين، نصحه برفق ومضى الى محرابه ليصلي بالناس فريضة الصبح، وهو يعلم إن ابن ملجم يخفي السيف تحت بطنه، لكنه لا يكون صاحب سُنة "القصاص قبل الجناية".
المنافقون (الاشعث)، والانتهازيون (ابو موسى الاشعري)، والقشريون (الخوارج التكفيريون)، والأمويون، وأصحاب الجَمَل، كلهم حاربوا أمير المؤمنين كل من خندقه لأنه كان حاكماً بغير المعايير التي تعجبهم وتلبي رغباتهم، إنما كان يدعو الى المساواة والعدل والحرية والكرامة الانسانية، وكلها تقتضي تغليب المصالح العامة على المصالح الشخصية، بينما تعامل أمير المؤمنين مع كل هذه الاصناف في ساحة المواجهة المفروضة، ليس كحاكم وزعيم مطاع يتحكم بالقدرات ويفعل ما يريد، وإنما وفق المعايير السماوية التي خطها له رسول الله خلال سيرته مع افراد الأمة، وأبرز هذا المعايير إلقاء الحجّة البالغة، وهي تعني البرهان والدليل القاطع على الحق بشكل لا مجال للمِراء فيه، ويبقى الاختيار بيد الانسان من أجل أن ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ))، وحتى لا يكون هذا الخطاب الاحتجاجي كما يورد القرآن الكريم على لسان الأقوام السابقة: ((رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى))، بل جاء الرسول ومعه الآيات، وهي الأحكام، والنُظم، والسُنن، ثم منّ الله على البشرية أن جعل لهذا الرسول وصيّ، ومن بعده أوصياء ليكون إرث النبي ورسالة السماء طريّة وقابلة للتطبيق ولفائدتهم ومصلحتهم على مر الزمان.
بعد تعرضه لضربة ابن ملجم ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، فاضت روح أمير المؤمنين في ليلة الحادي والعشرين، فهو لم يقتل كحاكم وزعيم دولة، وهو ما أوهم به القشريون انفسهم في تلك الحقبة الزمنية، وإنما كانسان جسّد كل قيم الحق والفضيلة بأروع اشكالها، لذا نرى حتى من هم ليسوا على مدرسة أهل البيت، فكرياً وفقهياً، فإنهم يكبرون في أمير المؤمنين سيرته وسياسته، الى جانب العلماء والمفكرين من مختلف المذاهب والاديان في العالم، ليصبح ايقونة لكل القيم والمفاهيم الانسانية التي يتعطش اليها العالم.
اضف تعليق