ان تجارب التاريخ هي المخزون الذي يمكن أن نجد فيه حاجتنا للتقدم، وأن الفكر المتجدد هو طريقنا نحو الأمام، وأن قراءة الماضي وتجاربه التاريخية يفتح لنا الأبواب المغلقة، والأهم أننا نجد في شهر رمضان الكريم الأوقات والأجواء التي تتناغم مع إطلاق الفيوض الفكرية القادرة على دحر العنف...
(الفكرة هي القادرة على بعث الموج وليس السيف) الإمام الشيرازي
من الأمور المحسومة جدليا إن تجارب الأمم وما يخوضه الآخرون عبر التاريخ، يُعدّ المخزون الأهم والأكبر للتجارب التي يجب أن يطلع عليها من يريد التطور والتقدم، فكل ما أنجزته البشرية في الماضي محفوظ في ذاكرة التاريخ، حيث الأفكار الهائلة التي خزّنتها الحافظة التاريخية والتجارب الهائلة للماضي.
ولكن مع سعة التاريخ الهائلة، فإننا لا نستطيع أن نصول ونجول في الحياة رغم سعتها، بل علينا أن ندقق بأقصى ما يمكن في البحث عمّا ينفعنا، وعمّا نريده بالضبط، ذلك أن الحياة والعمر غير ممدود إلى الأبد، لكي يكون بمقدور الباحثين أن يتريّثوا وأن يختاروا وأن لا يراعوا سرعة الزمن في المرور السريع، لذا فالغوص في التاريخ لالتقاط التجارب مُنتقى سلفًا.
وهذا يفرض على الباحثين، استرجاع التجارب الصالحة من بطون التاريخ، لأن العمر والحياة لا يتسعان للخوض في جميع التجارب البشرية، بل علينا انتقاء الصالح والسليم والمفيد من التجارب والأفكار النافعة، كذلك علينا مراعاة الأوقات المناسبة لمواصلة معرفة هذه الأفكار، لذا يعدّ شهر رمضان من أنسب الأوقات للغوص الفكري العميق واقتناص التجارب.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (شهر رمضان شهر البناء والتقدم):
(الحياة ليست بتلك السعة التي يستطيع الإنسان فيها ان يكرر التجارب الفاشلة. والعمر ليس بذلك العمر المديد بحيث يكون بمقدور الإنسان ان يعيد تجارب الماضين. من هنا كان لابدّ من الاقتداء بالآخرين الصالحين وأخذ العِبر من تجاربهم والاستفادة من نتائج أعمالهم).
وفي نفس الوقت يحتاج الموج الفكري إلى أجواء تناسبه، وتساعد الباحث على استمرارية هذا الموج وجعله متوقدا متحمسا بشكل متواصل، بالإضافة إلى الصفاء الفكري، حيث يوفر شهر رمضان أفضل الأجواء لمثل هذه النشاطات الفكرية المتوقدة.
من هنا يستحسَن أن نستثمر شهر رمضان في الاطلاع على البحوث والدراسات والكتب التاريخية، بحثا عن الأفكار الناصعة، وعلينا أن نواصل هذا الموج الفكري لأن الأجواء ملائمة تماما لمثل هذه السياحة الفكرية المتواصلة في تجارب مثمرة تضج بالأفكار القيّمة التي يمكنها أن تدعم الإنسان بالأفكار والتجارب المضمونة النتائج.
دخول التاريخ من الأبواب الصحيحة
هكذا يتوجب على المسلمين دخول التاريخ من الأبواب المناسبة، وفي الأوقات المناسبة أيضا، ومن ثم انتقاء الشخصيات والأحداث المتفرّدة الناجحة في إنسانيتها وعمقها وقدرتها على ضخ المزيد من الأفكار المفيدة النقية، وهي حتما تكون متوفرة في حياة المصلحين العظماء من الذين قدموا للبشرية تجارب خلاقة وخالدة.
لذا يقول الإمام الشيرازي: (في شهر رمضان يحسن بالإنسان المسلم ان يدرس التاريخ ليطّلع على حياة الاُمم والحضارات ويتفهم حياة العظماء والمصلحين الذين جاءوا إلى هذه الدنيا).
وهكذا نلاحظ ذلك الميل والتعطش لقراءة ودراسة السيرة النبوية عند الكثير من المسلمين وغيرهم، بسبب الرغبة الكبيرة للاطلاع على تفاصيل تلك الرحلة النبوية العظيمة لاسيما في بداياتها المضيئة، حيث كان الظلام يسود على كل شيء، وكانت العقول متحجرة والعادات المظلمة تسيطر على العقول والنفوس والقلوب معا.
فدائما هناك حاجة لاسيما في شهر رمضان، لمعرفة تلك الأحداث وجسامتها وفرادتها أيضا، حيث الخطر القاتل يحيط بأبطال التغيير العظماء، وحيث الموج الفكري يتوقد ويتصاعد ليغمر العقول في فيض من الأفكار والقيم والتقاليد الجديدة، قوامها الرحمة واللين والتسامح وتهميش العنف بكل أشكاله، وبهذا الموج الفكري المسالم تمكن المسلمون الأوائل من صنع أمة متفردة بنت دولتها التي ضاهت أعظم الدول في عصرها.
هذا ما يذكره الإمام الشيرازي في قوله:
(في شهر رمضان يتعطش المرء لدراسة السيرة النبوية ليعرف تاريخ المسلمين الأوائل، وكيف استطاعت الفئة القليلة من المسلمين ان تصنع امّة مترامية الأطراف).
ومما يؤكد قوة الفكر على السيف، هو ما تحقق من انتشار سريع و واسع للأفكار والمعتقدات الإسلامية، وشمول أعداد وأمم كبيرة انضوت تحت فكر الإسلام، وكل هذا لم يحدث بالعنف، ولا بالقوة، ولا بأساليب المستعمرين المستبدين، بل حدث هذا الانتشار الهائل عبر الفكر، ومن خلال القيم المسالمة، وهنالك موجة الإرشاد الكبيرة التي رافقت ظهور الإسلام وانتشاره، وهذا كله يؤكد ويرسخ قوّة الفكر على السيف، واندحار العنف أمام قيم العفو واللين.
القناعة بالفكر ونبذ السيف
المعيار الذي استند عليه الناس في تعاملهم مع الفكر الإسلامي، هو القناعة بهذا الفكر، وبالقيم التي جاء بها، وباستمرارية الموج الفكري السليم، الذي كان يغذي العقول والقلوب بالحكمة والرحمة، وبأساليب الخير في التعامل الإنساني المتبادَل.
(فإذا ما تمعنّا في أسلوب انتشار الإسلام سنلاحظ بالتأكيد انه لم ينتشر بالقوة والاستعمار والاستغلال، بل بالإرشاد والاقناع والتأثر بالفكرة والسلوك و(ادعُ إلى سبيل ربِّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة) هذا ما يذكره الإمام الشيرازي حول الفارق الكبير بين الإسلام والاستعمار.
إذًا على من يهمه الأمر، وعلى قادة المسلمين أن يفهموا ويستوعبوا هذا الدرس البليغ، وهو واضح وبسيط لمن يريد أن يفهمه ويستوعبه، عليكم بتقديم الفكرة الصالحة على أساليب القوة، فمن تجارب التاريخ التي أكدت قوة الفكر على السيف، هي التجربة الإسلامية، حيث بدأ الرسول صلى الله عليه وآله بالفكر وليس بالسيف.
فإذا أردنا بناء الأمة من جديد (حتى على مستوى بناء الدولة الواحدة)، علينا اعتماد الموج الفكري السليم، فهو الأقدر من جميع الأساليب الأخرى، بل هو أقدر من جميع أساليب البطش والعنف والقوة، وهذا هو درس التاريخ الذي يمكن أن نستخلصه من قراءة التاريخ، خصوصا في هذا الشهر الكريم الذي يهيّئ لنا الأجواء المناسبة لذلك.
الإمام الشيرازي يقول حول هذه النقطة:
(هذه فكرة هامة نستنتجها من قراءة التاريخ خصوصاً في أيام شهر رمضان، وإذا ما أردنا العودة إلى قوة الإسلام ومنعته، لابدّ وان نأخذ بأسباب القوة. وإذا أردنا ان نخرج من دائرة الانحسار وننطلق في الميادين العمل المنتج لابدّ وان نبدأ من حيث بدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد بدأ بالفكرة وليس بالسيف).
هكذا يتضح الطريق أمامنا، لا غموض فيه بل واضح وضوح الشمس، يرسم الطريق الذي يجب على المسلمين أن يسلكوه، كونه يقودهم نحو الرِفعة والسمو، كما سما السابقون من أوائل المسلمين الذين اتخذوا من الفكر سلاحا لهم.
وتركوا العنف خلف ظهورهم، و وحدوا كلمتهم وأهدافهم وصفوفهم، وجعلوا من طاقاتهم في بوتقة واحدة، هدفها واضح ومعروف، فالمهم ترويض العنف وإقصاء أساليبه، والتركيز على مواصلة الموج الفكري باعتباره الأسلوب الناجع لبناء الأمة القديرة الرشيدة.
يقول الإمام الشيرازي:
(هذا هو الطريق الذي يجب ان يسلكه المسلمون، فعليهم ان يوحدوا صفوفهم وينظّموا طاقاتهم وينبذوا العنف ويحملوا الفكر الذي حمله رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى العالم وينشروه بالحكمة والموعظة الحسنة).
وهكذا نخلص في نهاية المطاف، إلى أن تجارب التاريخ هي المخزون الذي يمكن أن نجد فيه حاجتنا للتقدم، وأن الفكر المتجدد هو طريقنا نحو الأمام، وأن قراءة الماضي وتجاربه التاريخية يفتح لنا الأبواب المغلقة، والأهم أننا نجد في شهر رمضان الكريم الأوقات والأجواء التي تتناغم مع إطلاق الفيوض الفكرية القادرة على دحر العنف وتتويج الكلمة الصالحة وجعلها في القمة دائما.
اضف تعليق