فإن الأصل في الإسلام هو العدالة والحرية. وإن نظام العقوبات، جاء من أجل حماية هذه القيم على الصعيد الإنساني. لذلك كلما اقترب الإنسان الفرد والجماعة، من مقتضيات العدالة والحرية، تلاشت الحاجة الفعلية إلى نظام العقوبات. بمعنى ضمور الموضوعات والتجاوزات التي تقتضي عقوبة أو جزاءً...
فالحرية في المنظور الإنساني، لا تتعدى هذا الفهم وهذه القواعد التي أرساها النص الإسلامي. إذ يقف الإسلام ضد كل الأضرار (النفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسلوكية) التي تؤثر سلباً في حياة الإنسان الخاصة والعامة.
تتميز المنظومات المعرفية المتكاملة، من أن جميع مفرداتها وجزئياتها في إطار نسق فكري متناسق ومتناغم بعضه مع بعض، لا تخالف ولا تناقض بينهما.
فهي مجموعة مفردات لم تركب تركيباً أو أقحمت في البنيان المعرفي، وإنما هي منبثقة انبثاقاً ذاتياً في الإطار المعرفي المذكور.
وفي الدائرة الإسلامية، حيث يشكل الدين الإسلامي، تلك المنظومة المعرفية المتكاملة والشاملة لجميع الأبعاد نجد أن جميع مفردات وجزئيات هذه المنظومة، لا يتناقض بعضها مع بعض، وإنما تتكامل تكاملاً مذهلاً. بحيث يتشكل لدينا بناء تشريعي متراص ومتكامل. ويقول الله تبارك وتعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}..
فالإسلام كبناء معرفي لا يعلي من شأن قيمة على حساب الأخرى، وإنما هو دين التوازن والاعتدال في كل شيء.
فهو يوازن بين حاجات الإنسان الجسدية والمعنوية، وبين القيم المادية والقيم الروحية، وبين ضرورات السلطة والنظام ومتطلبات الحرية.
والدين الإسلامي بكل تشريعاته ونظمه، وبالرغم من تقريره للغيب، فإنه ذو سمة عقلانية، أي أنه جاء ليوافق منطق العقل الإنساني وأحكامه. لذلك لا نجد أن هناك حكماً في الدائرة التشريعية للإسلام، لا ينسجم وحقائق العقل الإنساني، وعالم الغيب في المنظور الإسلامي، ليس نفياً أو تغييباً لعالم الشهود والعقل.. وإنما بالنظر العقلي المستند على حقائق الوحي يتم اكتشاف بعض جوانب عالم الغيب وأبعاده.
لذلك نجد أن التجربة الفكرية الإسلامية، لدى أقطاب الأمة وزعمائها في العصور الأولى للإسلام، تجربة دائمة البحث عن الجديد وتتواصل مع مكتسبات الأمم الأخرى العلمية والمعرفية، وتحث على التعرف عليها وكسبها. ولم تتوقف هذه التجربة عن البحث عن الجديد، أو التواصل الفعال مع منجزات الأمم الأخرى الحضارية والإنسانية.
لذلك نستطيع القول: إن تلك التجربة الفكرية وخصوصاً في زخمها الأول ونبضاتها الأساس، لم تعرف الانكفاء، ولم تشرع للمفاصلة مع تجارب الآخرين، وإنما على العكس من ذلك تماماً. حيث حثت المسلمين من مختلف مواقعهم على التعلم والتفكر واكتساب مهارات جديدة. والتواصل مع المعارف والثقافات الإنسانية الأخرى، لا يعني ذلك بأي شكل من الأشكال القبول بكل شيء تقول به هذه المعارف والثقافات. وإنما للدخول معها في عملية جدل وتثاقف تثري الواقع الإنساني برمته.
وإن الرفض أو القبول يتم على قاعدة الوعي والمعرفة التامة به. وهذا لا يتأتى على الصعيد الواقعي إلا بالانفتاح والتواصل..
والحرية الحقيقية للإنسان، تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما. وذلك لأن التطلع إلى الحرية بدون الثقة بالذات وبالعقل، تحّول هذا التطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين بدون هدى وبصيرة. لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته، ويفجر طاقاته المكنونة، لن يستطيع اجتراح تجربته في الحرية وبناء واقعه العام على قاعدتها ومتطلباتها.
من هنا ووفق هذا المنظور، نحن ننظر إلى مسألة التشريعات الجزائية أو العقابية في الإسلام.. فالعقوبات في الرؤية الإسلامية، ليست بعيدة عن الحرية ومستلزماتها.. بل حين التدقيق نجد أن هناك علاقة وطيدة بين نظام العقوبات ونظام الحرية في الرؤية الإسلامية.
حيث من الطبيعي في الدائرة الإسلامية والإنسانية أن توضع أحكام جزائية، لأجل تطبيق العدالة، وصيانة المصالح الخاصة والعامة، ومكافحة جميع أنواع الفساد والانحراف. لذلك فإن نظام العقوبات في الإسلام، ليس لتقييد الحريات أو تكبيل الإنسان عن الفعل والحركة في الحياة. وإنما من أجل صيانة مصالح الجميع، وضمان عدم تعدي بعضهم على بعض. من هنا عد القرآن الكريم الاقتصاص من المجرم، إدامة لحياة المجتمع وحفظ مصالحه. حيث قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}.. (البقرة آية 179)..
لذلك لا يخلو نظام من الأنظمة العامة، من وجود أنظمة عقابية وجزائية، وذلك لأنه لا يمكن أن تسير الحياة بشكل سوي ومستقيم بدون نظام الجزاء والعقوبات. وعليه نستطيع أن نجزم بأن تشريع قوانين وأحكام الجزاء لا يعد عنفاً، لأن المراد من تشريع هذا النوع من القوانين، هو حفظ النظام، وحماية الحقوق الفردية والاجتماعية، وضمان الوصول إلى الأهداف التربوية والأخلاقية اللازمة لأي مجتمع.
وهكذا فإن قوانين الجزاء وأحكامه في الإسلام، لا يراد بها الانتقام مطلقاً، وإنما هي وسيلة إدامة حياة المجتمع وحفظ قيمه ونظامه، وتطهيره من عوامل الانحراف والجريمة.
لذلك يؤكد الذكر الحكيم على ضرورة تنفيذ الأحكام بعيداً عن المواربة والمحاباة. إذ يقول تبارك وتعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.. (النور - الآية 2)..
وبإمكاننا توضيح هذه الحقيقة، من خلال بيان أهداف العقوبات في الإسلام، التي تتمثل في النقاط التالية:
1 - حفظ حقوق الأفراد والمجتمع.. فالعقوبات ليست في مقابل نقض حرية الاختيار والتعرف لدى الإنسان، وإنما هي موضوعة من أجل حفظ الإنسان والمجتمع من الأخطار التي قد تعصف به.
2 - بسط وسيادة العدل وعدم تفويت الحقوق. وهذا بطبيعة الحال يحافظ على مصالح الجميع فرداً ومجتمعاً وكذلك مصالحهم النوعية.
ولا نحسب أن هناك شريعة من الشرائع أو قانوناً من القوانين، لا يعترف ويقرر أهمية العقوبة في درء الأخطار والدفاع عن أمن الأمة والمجتمع ومصالحهما.
فالعقوبات في الإسلام، لا تشرع للانتقام والتنكيل وامتهان كرامة الإنسان، وإنما لحماية المجتمع من الآفات والمخاطر التي قد تهدد وجوده وأخلاقه..
لذلك من الطبيعي القول: إن العدل هو حصن الحقوق وإن نظام العقوبات في الإسلام، لا يخرج عن مقتضيات العدل والحرية، بل هو خادم لهما. إذ لا يمكن أن يتم الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعات ومكتسباتهم الحضارية بدون العدالة. فهي حصن الحقوق، وهي بوابة الأمن الشامل. وبدونه تشبع الفوضى، وتزدهر الفتن والاضطرابات، وتزداد أسباب الاحتقان والانفجار في المجتمع.
فالعدالة بمفرداتها (القسط والإحسان والبر)، هي التي توفر الأمن والاستقرار في حياة الأفراد والجماعات. فلا فلاح إلا بالعدل، فهو سبيلنا الوحيد لإنجاز الاستقرار والأمن والتقدم. وإن الخروج من سجن التخلف والتأخر إلى رحاب التقدم والحرية والتطور بحاجة إلى العدالة.. وإن الحرية الإنسانية لا تنجز على الصعيد العملي، إلا على قاعدة توفير المصالح التي يسعد بها الإنسان ويحيا حياة كريمة، ودفع الأضرار التي تجلب إليه الشقاء والبعد عن الجادة والحياة الكريمة. لذلك فقد اعتنى الدين الإسلامي أيما اعتناء بهذه المسألة. وأسس الفقه الإسلامي استناداً على النصوص الإسلامية العديد من القواعد الفقهية والقانونية، التي تحول دون الشقاء، وتجلب للإنسان الفرد والجماعة كل أسباب المصلحة والسعادة. فقد جاء في المأثور أنه (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).
فالحرية في المنظور الإنساني، لا تتعدى هذا الفهم وهذه القواعد التي أرساها النص الإسلامي. إذ يقف الإسلام ضد كل الأضرار (النفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسلوكية) التي تؤثر سلباً في حياة الإنسان الخاصة والعامة.
من هنا فإن العقوبات في الإسلام، لا تقف ضد حرية الإنسان بكل أبعادها وآفاقها، ولا تحول دون حركة الإنسان في الحياة.
بل هو نظام لحماية الإنسان في هذه الحياة من المخاطر. ومن الخطأ أو الظلم التعامل مع نظام العقوبات في الإسلام، بمعزل عن المنظومة القيمية الإسلامية. إذ إن عملية العزل هذه، تشوه هذا النظام، وتحوله وكأنه سيف مسلط بشكل دائم على الإنسان وحقوقه الأساس. لذلك فإننا ندعو إلى النظر إلى نظام العقوبات في السياق الإسلامي العام المحكوم بقيم العدالة والحرية.
فكل العقوبات يتم تنفيذها تحت سقف العدالة والحرية. وكل ممارسة دون ذلك، لا تنسجم ورؤية الإسلام لنظام العقوبات.
فالعدالة والحرية وكل مقتضياتها ومتطلباتهما، هي البيئة التي تتحكم في مسار العقوبات في الرؤية الإسلامية..
وعلى هدى هذا القول: فإن الأصل في الإسلام هو العدالة والحرية. وإن نظام العقوبات، جاء من أجل حماية هذه القيم على الصعيد الإنساني.
لذلك كلما اقترب الإنسان الفرد والجماعة، من مقتضيات العدالة والحرية، تلاشت الحاجة الفعلية إلى نظام العقوبات.
بمعنى ضمور الموضوعات والتجاوزات التي تقتضي عقوبة أو جزاءً. وعليه فإن جميع الجهود، ينبغي أن تتجه إلى تكريس مقتضيات هذه القيم (العدالة والحرية) في الفضاء الاجتماعي، وذلك من أجل سعادة الإنسان واستقراره النفسي والاجتماعي.
وجماع القول: إن حرية الإنسان هي الأصل والقاعدة، وإن نظام العقوبات، لا يناقض هذا الأصل، بل جاء من أجل حمايته وتنميته وديمومته.
اضف تعليق