سعت الصحافة الدينية لتطوير نفسها منطلقة من أن الأديان كيانات حية متطورة يتم تفسيرها من خلال عدسة الخبرة ووجهات النظر المتنوع داخل كل دين، واليوم نرى أن المؤسسات مهما اختلفت هويتها، بدأت تستعين بالتكنولوجيا وبالعالم الرقمي والفنون الصحفية والمناهج العلمية، بل بدأت تتفاعل مع الأحداث...
ترتبط وسائل الإعلام بالدين والعكس صحيح بعلاقة موغلة منذ قرون، واستفاد كل منها من الآخر كاستجابة للظروف، وبرغم قلة الكتابات عن تاريخ التغطية الإخبارية للقضايا الدينية بالشكل الصحفي المتعارف عليه اليوم، إلا أن الأخبار الدينية كانت منتشرة عبر أساليب مختلفة، لما الدين من دور في الحياة العامة، وبما أن فعل الخير هو سمة أساسية للدين، كانت ولا زالت التغطية الإعلامية الدينية دائما مليئة بالأخبار والمقالات وببقية الفنون التعبيرية.
ولفهم العلاقة بين وسائل الاعلام والدين، نلاحظ أن بدايات الصحافة الدينية تشكلت في أمريكا وتحديدا في أوائل عشرينيات القرن الثامن عشر، عندما وجدت المؤسسة الدينية نفسها تحت هجوم الصحافة، لأسباب مختلفة، فمنذ تلك الفترة اهتمت صحيفة نيويورك هيرالد التي أسسها جيمس جوردون بينيت، وهو اسكتلندي المولد وكاثوليكي ليبرالي، قاد الصحافة الأمريكية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وعمد على التغطية الاعلامية لما يطلق عليها "أرض الدين الموعودة".
خصص "بينيت" مساحة لتغطية اخبارية للاجتماع السنوية التي تعقد في نيويورك من قبل الهيئات والجماعات، ويرسل مراسلين لينقلوا الأحداث، والأمر الأكثر شهرة هو أنه هاجم أي نشاط أو تصريح ديني مناهض لليبرالية، وكذلك مسرحيات المبشرين المتجولين وبقية الأنشطة الدينية. وفيما بعد، ظهرت أيضا صحيفة "أتلانتا جورنال" في مواجهة ما تنشره المؤسسة الدينية المسيحية من أخبار وأفكار.
صحافة التنوير الديني
واجهت المؤسسة الدينية والعاملون في الصحافة الدينية تحديات تفرض عليهم أن يكونوا على قدر كبير من المسؤولية وإثبات العكس، وخلال القرن التاسع عشر وعدت العديد من المؤسسات الدينية بإصلاحات أخلاقية واجتماعية واسعة النطاق، مما دفع الصحافة الدينية اتباع منهج علمي يستعين بالفنون الصحفية، وبدأ رجال الدين في الكتابة للصحف، وأحيانا عبر أعمدة منتشرة على نطاق واسع.
على الرغم من الجهود المبذولة لتعزيز الكفاءة المهنية للصحافة الدينية إلان أنها اقتصرت على أبعاد محدودة مع انفتاح خجول نحو القضايا التي لا تمثل أولوية للدين، ومما خدم المؤسسة الدينية أكثر وتراجع التشكيك الى حد ما، ففي مطلع القرن العشرين، أصبحت الصحف اليومية في المدن حساسة تجاه التنوع الديني وتجاه قراء الصحافة الدينية وتتجنب الحديث عن الجدل الديني.
وفي أوائل التسعينيات، أدى الركود الاقتصادي إلى دفع صناعة الصحف الأمريكية إلى الانخفاض على مستوى التوزيع، لكنها مع ذلك وبحسب ما يقول ستيوارت أم هوفر وهو أستاذ الدراسات الإعلامية وأستاذ مساعد للدراسات الدينية في جامعة كولورادو في بولدر "اتخذت هذه الصحف خطوات عززت من خلالها التغطية الاعلامية للفعاليات الدينية على أمل جذب قراء جدد، ولإقناع جمهور الكنيسة بأن الصحف لم تكن خارجة عن قيمها، فإن الشعور المتزايد بأهمية القيم في المجتمع والاهتمام بالطريقة التي يمكن أن تساهم بها المؤسسات الدينية في الرفاهية الاجتماعية، دفع وسائل الإعلام الإخبارية الأمريكية إلى تحويل اهتمام أكبر إلى الموضوعات الدينية".
بناء على ذلك قامت العشرات من الصحف بتخصيص صفحات للموضوعات الدينية، وظهر الدين بشكل تقليدي على أغلفة الصحف الأمريكية، وكان للإذاعات أيضا برامج إخبارية دينية أسبوعية تتحدث عن علاقة الدين بالأخلاق، وبحلول نهاية الألفية، كانت التغطية الدينية تتمتع بشعبية غير مسبوقة في وسائل الإعلام الإخبارية الأمريكية.
الصحافة في الشرق
مع ظهور الطباعة كانت المؤسسات الدينية الإسلامية تتوجس الحذر من التعامل مع التكنولوجيا الجديدة بسبب التقاليد وعدم الثقة بتلك لكن مع ذلك أخذت الصحافة الإسلامية تتطور تدريجيا حتى القرن التاسع عشر الذي شهد تحولات أسرع في توجه المؤسسات الدينية من أجل مواجهة الاستعماري، وبالتالي زاد جمهور المطبوعات بشكل أكبر حيث سعى القادة السياسيون إلى استخدام الطباعة في النضال كما حصل في دول المغرب العربي، والمغرب والجزائر والعراق.
لقد فرضت الظروف تطور الصناعة الإعلامية واتخذت المؤسسات الدينية من وسائلها الإعلامية كمنصات في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، وظهرت نصوص جديدة من خلال الوسائط المطبوعة الإسلامية مثل المجلات، والكتب، والصحف، وكانت التكنولوجيا ساهمت في محو الأمية وتصاعد دور وسائل الاعلام الدينية.
بشكل عام سعت الصحافة الدينية لتطوير نفسها منطلقة من أن الأديان كيانات حية متطورة يتم تفسيرها من خلال عدسة الخبرة ووجهات النظر المتنوع داخل كل دين، واليوم نرى أن المؤسسات مهما اختلفت هويتها، بدأت تستعين بالتكنولوجيا وبالعالم الرقمي والفنون الصحفية والمناهج العلمية، بل بدأت تتفاعل مع الأحداث العالمية مثل التنمية، وحقوق الإنسان، والاحتباس الحراري، والأوبئة، والهجرة، والعمل الإنساني، من خلال الاستعانة بجمهور تلك المؤسسات.
أما على مستوى التعليم يجري الحديث اليوم عن الاعلام الديني وهذا يتضح من خلال صياغة وكتابة الأخبار والتقارير، وتحليل النظريات، واجراء المقابلات، وتحليل الخطاب مما جعل العمل الصحفي يحاول ترجمة الأفكار إلى الجمهور برؤية ومسؤولة تجاه دور الدين واهتماماته.
في ضوء هذه المناقشة، لا يزال هناك محددات وآفاق متبادلة لدور الدين والصحافة:
- حدت وسائل الإعلام من دور الدين في سياقات مختلفة، نتيجة صعوبة اتقانها وفهما وحذرها في تناول تلك الأخبار نتيجة "قدسية" تلك النصوص وصعوبة تفسيرها بما يتناسب مع وسائل الاعلام المختلفة والصياغات الصحفية التي تناسب مع كل وسيلة اعلامية، بمعنى أن الخطاب الصحفي الديني له معايير ومصطلحات بحاجة الى وعي ثقافي للكاتب أو المحرر بشكل يؤهله لفهم النص الديني وتسويقه بطريقة تراعي الأخلاق وفق المعايير الدينية.
- لقد مرت التجربة الاعلامية للمؤسسة الدينية عبر العصور بمواجهة صراع الأفكار بعد أن عرضت النظريات الدينية بشكل غير لائق أو غير علمي وبالتالي جعل المؤسسة الدينية والاعلام الديني أمام انتقادات واسعة.
- المؤسسة الدينية حددت كيفية تناول الأفكار والنصوص في محاولة للحفاظ على الخصوصية، لكن مع الانتشار المعلوماتي ووجود الحريات الفكرية ودور العلمانية والليبرالية لم تعد هناك خطوط حمراء لم تتناولها الصحافة العامة والمتخصصة، وبالتالي وضع الاعلام الديني والمؤسسة الدينية أمام إثبات قدرتهما على التأثير في المجتمعات وايصال أفكارها بشكل وافي.
خاتمة
يظهر الدين كعنصر فاعل مهم في الحياة العامة، وتلعب وسائل الإعلام دورا في فهم الشؤون الدينية ومعالجة التنوع الأيديولوجي المتنامي سياسياً واجتماعياً؛ وأشكال الدين في الشبكات الرقمية؛ والصراعات الدولية حول الدين؛ والحوار والصراع بين مختلف المجتمعات الدينية وغير الدينية؛ والعلاقة بين الدين والعنف..
شكلت وسائل الاعلام صناعات عالمية كبرى وامتدت آثارها إلى ما هو أبعد من علاقاتها البنيوية والاقتصادية ووفرت ترابطاً عالمياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً، بمعنى أن وسائل الاعلام استطاعت أن تصنع الوعي المرتبط برغبات الإنسان في الاتصال والانتماء بشكل يتجاوز الزمان والمكان.
اضف تعليق