العالَمُ اليوم يجد نفسَه فجأةً وكأن الأرضَ انكمشت به فضاقت، بشكلٍ أمسى ينتظر الكلُّ فيه مصيرًا مشتركًا محتومًا، لذلك يمكن أن يسقطَ الكلُّ في جائِحَةٍ تغطي العالَمَ كلَّه، لحظةَ حدوث وباءٍ مباغت، أو كارثةٍ جسيمة تهشم البنى الأساسيةَ لمجتمع من المجتمعات، فما يؤذي مجتمعًا يؤذي العالَمَ كلَّه، وما يوهن مجتمعًا يوهن العالَمَ كلَّه...
انهيارُ الحدود المكانية في العالَم اليوم، واختزالُ الزمان فيه إلى ما يقترب من الصفر، يصيّر هذا العالَمَ الكبيرَ صغيرًا جدًا. تحدياتُ العالَم اليوم، وتعدّدُه وتنوعُه واختلافُه وتعقيدُه ومشاكلُه وأزماتُه، بحجم العالَم الكبير جدًا، لكن تحولاتِ هذا العالَم ومنعطفاتِه وإيقاعَ الأحداث فيه بحجم العالَم الصغير جدًا. العالَمُ اليوم يجد نفسَه فجأةً وكأن الأرضَ انكمشت به فضاقت، بشكلٍ أمسى ينتظر الكلُّ فيه مصيرًا مشتركًا محتومًا، لذلك يمكن أن يسقطَ الكلُّ في جائِحَةٍ تغطي العالَمَ كلَّه، لحظةَ حدوث وباءٍ مباغت، أو كارثةٍ جسيمة تهشم البنى الأساسيةَ لمجتمع من المجتمعات، فما يؤذي مجتمعًا يؤذي العالَمَ كلَّه، وما يوهن مجتمعًا يوهن العالَمَ كلَّه، وما ينهك مجتمعًا ينهك العالَمَ كلَّه، وما يزعزع أمن مجتمع يزعزع أمنَ العالَم كلِّه.
توحّدت مصائرُ المجتمعات واقترنت مآلاتُها بما لم تتوحّد وتقترن به من قبل، وكأن كلَّ شيء فيها أمسى يجد صداه في كلِّ شيء. لم تعد جغرافيا التحديات التي تواجه الإنسانية اليوم خاصةً بما هو محلي، بعد أن اضمحلت الحدودُ المحلية، وامتدّ فضاءُ حضور الكائن البشري فأضحى مواطنًا عالميًا، ترتبط مصائرُه بمصائر الإنسان بوصفه إنسانًا. المصيرُ المشترك للكلِّ يفرض على الكلِّ قيمًا مشتركة.
استفاقت كلُّ المجتمعات البشريَّة فجأة على أن الكلَّ في سفينة كونيَّة واحدة، إن غرقت تغرق معًا، وإن نجت تنجو معًا. وباء كورونا وضع الكلَّ للمرَّة الأولى في مواجهة شكلٍ مختلف من الموت العابر لكلّ الحدود الجغرافيَّة والزمانيَّة والطبقيَّة. وضع وباءُ كورونا البشريَّة كلّها أمام مصير واحد، وفضحَ هشاشةَ العالَم، وأعلنَ عن الحاجاتِ العميقة للقيم في الحياة، وضرورتِها الأبديَّة لحماية مصيرِ البشريَّة المشترك. تنبَّهت البشريَّةُ في لحظة ذعر إلى أنَّ إعادةَ بناءِ نظام القيم الروحيَّة والأخلاقيَّة هو الضمان لتحقيق درجة عالية من الشعور بالمسؤوليَّة حيال الخلق، وبناء أسس راسخة لتضامن إنساني يكفل احتياجات الناس، وإشاعة روح التراحم والتكافل والتضامن في الحياة.
وعلى الرغم من أن هندسةَ الجينات والذكاءَ الصناعي فرصتان استثنائيتان توفران للإنسان إمكانات هائلة، إلا انهما يمثلان تحديًا مقلقًا في الوقت ذاته، إذ يمكن أن ينتهي هذا الذكاءُ في المستقبل إلى الإفلات من قبضة الإنسان، فيحدث صدام للروبوتات يربك حياةَ الإنسان ويهشِّم أمنه ويغرقه في أحداث مباغتة لم تكن في الحسبان. يقول أحد الخبراء في هذا الحقل: «ليست ثورة المعلومات أقل دراماتيكية، سواء فُهمت على أنها ثورة ثالثة، من حيث إحداث الرخاء، أو ثورة رابعة، من حيث إعادة صياغة مفهومنا لأنفسنا. وسوف نكون في ورطة خطيرة، إن نحن لم نأخذ مأخذ الجد حقيقة أننا نبني البيئات المادية والفكرية الجديدة التي سوف تسكنها الأجيال القادمة... ينبغي أن يكون الإطار الأخلاقي أخلاقيات بيئة ألكترونية من أجل الإنفوسفير (الغلاف المعلوماتي) برمته»، فوريدي، لوتشيانو، الثورة الرابعة: كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني، ترجمة: لؤي عبدالمجيد السيد، ص 269 – 270.
تقدم هندسةُ الجينات للإنسانية الكثير من المكاسب الفائقة الأهمية، مثل امكانية التحكم بالجينات المسؤولة عن الأمراض الوراثية، والخلاص من لعنة هذه الأمراض المتوطنة لدى العائلات والسلالات البشرية. والخلاص من مشاكل العقم، وتطوير التلقيح الاصطناعي وانتاج الأجنة، وتحديد جنس المواليد، والعمل على انتقاء وتحسين صفاتهم الوراثية.
كذلك تعدنا هندسةُ الجينات بمضاعفة الانتاج النباتي والحيواني، وتحسين أنواعه وتطوير كيفية أصنافه، بدرجة تقضي فيها البشرية على النقص الحاد في كل أنواع المواد الغذائية اللازمة لعيش الإنسان، وتجد حلًا لأزمة المجاعات في البلدان الفقيرة. والخلاص من مشكلات تلوث البيئة عبر المعالجة البيلوجية. هذه بعض المكاسب المهمة لهندسة الجينات. أما ما يمكن أن تحدثه من نتائج سلبية وآثار غامضة، تتمثل في امكانية أن تعيد هندسةُ الجينات تشكيلَ الخارطة الجينية للإنسان، وربما تنتهي إلى تغيير لافت للطبيعة الإنسانية تبعًا لتحوير الجينات، وخطر التلاعب بها، بشكلٍ تظهر آثارُه المثيرة في الأجيال القادمة، وما قد تُحدثه من اختلافاتٍ واختلالاتٍ في طبيعة تكوين البشر بيولوجيًا وما يتركه ذلك من آثار مباشرة على دماغه وجهازه العصبي، وآثار مخيفة على تكوينه العقلي والسيكولوجي والعاطفي والروحي.
مضافًا إلى ما يمكن أن ينتجه ذلك من اختلاف فاحش بين الناس، ينتهي إلى تمايز طبقي غريب، يضع البشر في تراتبية هرمية، يجلس فيها عمالقةٌ استثنائيون بكل شيء على القمة، وتتسع الفجوة بينهم ومن يقع تحتهم بصورة مذهلة، لو تفوق هؤلاء العمالقة على غيرهم بيولوجيا بدماغهم وذكائهم المدهش، وقدرتهم الفائقة على مقاومة الأمراض، وقوتهم البدنية التي لم يشهد لها تاريخ الإنسانية مثيلًا من قبل، وعدم تراجع قواهم بمرور الزمن، وامتداد أعمارهم، وتفوقهم في الجمال، وفي كل الصفات الإنسانية الأخرى، وغير ذلك من امكانات استثنائية تعد بها هندسةُ الجينات، مما يحدث زلزالًا يعصف بالتوازن في اطار الاختلافات الطبيعية الموروثة للبشر، ويخلق اختلافات مذهلة مباغتة، تضع أكثر البشر في مرتبة دنيا، وتقفز بأقلية إلى مرتبة العباقرة المتفوقين في كل شيء مقارنة بمن هم دونهم.
إن ما يقوم به خبراءُ الهندسة الجينية من تحويرٍ لجينات الكائنات الحية المتنوعة، وربما تلاعب البعض بها، قد ينتج هذا التلاعب آثارًا غريبة على طبيعة تكوين هذه الكائنات، وظهور تحولات عجيبة في وظائفها الحيوية، واختلال التنوع الخلّاق للكائنات الحية في الطبيعة، وحدوث مباغتات مزلزلة في التوازن الحيوي في الطبيعة، يقضي على أنواع معروفة ويخلق أنواعًا وسلالات جديدة من الكائنات الحية، والبكتريا والفيروسات الوبائية الخطيرة.
تلك تحديات عظمي تواجه المستقبل البشري، وتهدد عند عدم ضبطها بمنظومات القيم بتحولات معقدة في التوازن الحيوي للأرض، وربما تغيير عميق في الطبيعة الإنسانية. هذه التحديات تتدخل في اختياراتِ الإنسان الأخلاقية، ونمطِ وجوده في العالَم، وتؤثر على كلِّ مجالاتِ حياته العقلية والروحية والأخلاقية والجمالية، وعلومِه ومعارفه وثقافته وآدابه وفنونه، وأنماطِ علاقاته الاجتماعية، لأنها لا تختصّ ببلد أو إثنية، بل تشمل الجغرافيا الإنسانية كلَّها.
واذا حدثت مثل تلك التحولات، تحتاج الإنسانية الى منظومات قيم مشتركة تضبط صلة الإنسان بالله، وتحدد استغلاله للطبيعة، وترسم اطارًا لعلاقته بغيره من البشر، يتناغم مع ايقاع تلك التحديات التي لا ندري ما تنتهي اليه غدًا.الأرض تنتقم لنفسها بعدَّة أشكال، وتواصل انتقامَها حتى يعود الإنسانُ لنظام القيم الذي يضبط عمليَّة الإنتاج وتوجيهها إلى ما ينفع الإنسان، ويشعره بالسكينة والأمان، ويرسِّخ العدالةَ في التوزيع، بشكل يضيق فجوةَ التفاوت الفاحش بين الطبقات، ويُرشِّد الاستهلاك، ويحمي حياةَ الإنسان بأنظمة عادلة تضمن الأمنَ والسلمَ والعيشَ الكريم والتعليم والصحةَ للفقراء، وتهتمّ بتأمين احتياجاتهم الأساسيَّة.
عندما تمرض الأرضُ يمرض كلُّ شيء فيها. أتمنَّى ألا تكون البشريَّة هذه اللحظة على أعتاب نمطِ وجودٍ مختلف في العالَم، يتباطأ فيه التقدّمُ العلمي، أو يتقهقر فيفشل في إنجاز وعوده، التي كنَّا نحلم بأن تجعلَ معاشَنا أسهلَ وحياتَنا أجمل.
إن مشاكلَ الطبيعة لا يحلّها إلا العلم، ولم يمكّن الإنسانَ من الطبيعة، واكتشاف قوانينها وتسخيرها واستثمارها في إعمار الأرض، وجعل حياة الإنسان أسهل، إلا العلم، ولم يمكّن الإنسانَ من التحكّم بالآثار الفتَّاكة للكوارث الطبيعيَّة، والأمراض المُمِيتة والأوبئة، وكل ما يفسد الأرض، إلا التطوّرُ العلمي، والذكاءُ الصناعي، وبناءُ مجتمع المعرفة.
العلمُ هو مَنْ يكتشف لقاحات الأوبئة، العلمُ هو مَنْ ينتج الأدوية لمختلف الأمراض.
لسنا هنا بصدد الحديث عن أخلاقيَّات العلم، والقيم الضابطة للتقدُّم العلمي، والآثار الجانبيَّة السلبيَّة للتكنولوجيا، مثل: الانبعاثات الحراريَّة الفتَّاكة على المناخ، وتدمير الأرض، وإبادة التنوّع الحيوي، والتلاعب بالجينات، وغيرها. حضورُ القيم الأخلاقيَّة الموجِّهة للتقدّم العلمي، وتفادي الآثار السلبيَّة الجانبيَّة للتكنولوجيا، ضرورةٌ تفرضها حماية الإنسان والبيئة والأرض من آثارها المدمِّرة. إن ضروراتِ العيش في عالم أصبح فيه الإنسان مواطنًا عالميًا تفرض عليه قيمًا أخلاقية بسعة العالَم الذي يعيش فيه، وبحجم مشكلات هذا العالَم الكبرى وتحدياته الهائلة، لأن من يصبح مواطنًا عالميًا تتطلب حياتُه قيمًا تتسع لما يفرضه عليه حضورُه الفاعلُ والمؤثّر في العالَم.
اضف تعليق