أثار المقال الذي نشرته مؤسسة گالوب الاميركية لاستطلاعات الرأي قبل يومين تحت عنوان: (العراق، مؤشرات أستقرار في منطقة متقلبة)، ضجة كبيرة في مواقع التواصل وبين النخب التي أنقسمت بين مؤيد بشدة ومعارض بشدة له. يعرض المقال أرقام ايجابية ومتفائلة لأستطلاع رأي عام أجرته المؤسسة في العراق بخصوص أداء حكومة السوداني...
أثار المقال الذي نشرته مؤسسة گالوب الاميركية لاستطلاعات الرأي قبل يومين تحت عنوان: (العراق، مؤشرات أستقرار في منطقة متقلبة)، ضجة كبيرة في مواقع التواصل وبين النخب التي أنقسمت بين مؤيد بشدة ومعارض بشدة له. يعرض المقال أرقام ايجابية ومتفائلة لأستطلاع رأي عام أجرته المؤسسة في العراق بخصوص أداء حكومة السوداني.
لقد مثلت ردود افعال العراقيين عن ما نُشر في المقال، حالة مثالية لمظلومية أستطلاعات الرأي العام والجهل بمبادئها وآليتها في العالم وليس العراق فحسب. فقد قامت الجهات الحكومية ومنصاتها الساندة بالترويج لهذا الاستطلاع والترحيب به باعتباره دليل على نجاح حكومة الأطار الذي على الرغم من المفارقة الكائنة في عدم ثقة مواقع اعلامه ومحلليه بالمؤسسات البحثية الأميركية عموماً، لكنهم روجوا بكثرة لنتائج گالوب (الاميركية) هذه المرة لأنها تمثل دعاية مهمة للحكومة داخلياً وخارجياً، وتلقفوها باعتبارها انجاز وشهادة لهم.
وفي المقابل فأن الجهات المعارضة للحكومة تلقفت النتائج لتصب جام غضبها على أستطلاعات الرأي ودقتها في العراق وتبعية وعدم موضوعية من يقومون بها، لا بل ان البعض قال انها دليل مضاف لدعم الاميركان للسوداني، لكنه هذه المرة من خلال مراكز الأبحاث.
وفي خضم هذا الجدل أود أن أبين الموقف المهني العلمي من هذا الاستطلاع كوني مدير الشرق الاوسط وممثل العراق في أكبر مؤسستين مهنيتين ومرجعيتين في استطلاعات الرأي العام في العالم المنظمة العالمية لاستطلاعات الرأي العام WAPOR ومؤسسة گالوب الدوليةGIA .
استطلاعات رأي
اولا ينبغي العلم أن هناك مؤسستين في العالم لاستطلاعات الرأي تحملان أسم گالوب وهو مؤسس علم الاستطلاعات،الاولى هي هذه الاميركية التي يتم تداول ارقامها الان والثانية هي مؤسسة دولية تضم كل دول العالم (ومنها العراق) وهي منظمة غير تجارية وغير حكومية مقرها سويسرا وتمثلها المجموعة المستقلة للابحاث في العراق.
كلتا المنظمتين تتمتعان بمعايير مهنية دقيقة ولا يمكن ان تجازفا بسمعتيهما لارضاء هذا الطرف او ذاك. لكن اي استطلاع لا يحتاج فقط الى اجراءه بطريقة صحيحة، بل ايضاً قراءته بطريقة صحيحة وغير متحيزة او انتقائية كما حصل مع هذا الاستطلاع. أن مما لا شك فيه أن السوداني أظهر مقدرة عالية على كسب الرأي العام العراقي لصالحه منذ تسنمه الحكم.
فقد أظهرت كل الأستطلاعات التي أجريناها في مؤسسة گالوب الدولية -وليست الأميركية- وهي اكثر من عشرين استطلاع للان، درجة رضا عالية من العراقيين عن اداءه. واستمر هذا الرضا بالتصاعد رغم اني شخصياً كتبت هنا وفي مواقع أجنبية ان شهر العسل الذي يمر به كل رئيس وزراء عراقي مع العراقيين عند تسنمه الحكم،ومنهم السوداني، سينتهي بعد بضعة أشهر كما انتهى مع الاخرين.
لكنه للان-على الاقل-خالف توقعاتي ومازالت شعبيته جيدة ومرتفعة بين العراقيين. لقد نجح السوداني للان في الأستجابة بشكل جيد لرغبات وتوقعات الرأي العام العراقي. كما نجح، من وجهة نظر الرأي العام العراقي، في أن يميّز نفسه عن سابقيه بأنه رئيس وزراء خدمي، وهي صورة أفتقدها العراقيون من قبله وبغض النظر عن أداءه السياسي في النواحي الاخرى.
وأذا عرفنا أن العراقيين يمتازون بمطالبهم الخدمية البسيطة التي أفتقدوها من مدة طويلة مثل التبليط والطرق والجسور وهو ما أجاد أظهاره السوداني وفريقه للجمهور،فيمكن فهم جزء مهم من الصورة الكلية التي عرضها أستطلاع الرأي العام هذا.
هنا يجب التنبيه أن مصطلح الرأي العام لا يعني رأي النخب او الصحفيين أو المختصين وأنما المعدل العام لرأي كل العراقيين بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم ومحافظاتهم،وليس رأي فئة أو مكون أو مجموعة معينة. وهنا على ما يبدو، يكمن جزء من المشكلة، فمعظم الناس في العالم وليس العراق فقط يعتقدون ان رأيهم يمثل رأي كل افراد الشعب وبالتالي يجب ان تتوافق نتائج الاستطلاعات مع آرائهم وتوقعاتهم.
وهنا يتم تناسي قاعدة علمية اساسية في علم النفس تسمى بالفروق الفردية بين الناس. فمن تحبه انت قد لا احبه انا، ومن تعطيه عشر درجات في تقييمك له قد اعطيه درجتين فقط. فالرأي العام العراقي الذي يفترض ان تقيسه هذه الاستطلاعات يمثل معدّل (أو متوسط) رأي أكثر من 25 مليون عراقي ممن تجاوزوا 18 سنة عمراً بحسب المعيار الدولي الذي تعتمده استطلاعات الرأي. فمثلاً صحيح ان السوداني حاز على 69 بالمئة كمعدل عام لرضا العراقيين عن اداءه الا أنه في كوردستان والمناطق (السنية) حاز على معدلات أقل بكثير.
فهم معنى
النقطة المهمة الاخرى هي ضرورة فهم معنى الرقم المنشور. فغالبية العراقيين (69 بالمئة) راضين عن اداءه وليس كما ورد في بعض المقالات يثقون به او يفضلونه، والرضا عن الاداء يختلف عن التفضيل او الثقة. فالتفضيل مثلا، له قياسات اخرى غير السؤال الذي جرى عرض نتائجه في مقال گالوب الأمريكية، وبموجب قياسات التفضيل والثقة، فأن درجة تفضيل العراقيين للسوداني هي قريبة جداً من أعلى نقطة بلغها المالكي والعبادي والكاظمي في فترات محددة من ولاياتهم. وهنا تكمن نقطة اخرى جديرة بالملاحظة. فالاستطلاع الذي نشرته گالوب الامريكية أجري في الشهر العاشر من السنة الماضية وبعد أقرار الموازنة، التي كانت الأضخم في تاريخ العراق وتم تخصيص 20 مليار دولار منها تقريباً لكوردستان مما رفع من درجة الرضا هناك.
وبموجب ذلك تم تعيين مئات الالوف من الموظفين الجدد وهو ما يروق بشدة للعراقيين رغم ضرره على الأقنصاد. وبعد انتهاء الخوف من وقوع صدامات مع الصدريين مما رفع كثيراً من توقعات العراقيين وانعكس ذلك على رضاهم عن أداء حكومة السوداني. كما أن من المعلوم لنا كمختصين في الرأي العام العراقي أنه يتحسن كثيراً في فترتي الخريف والربيع من كل سنة بسبب أستقرار معدلات تجهيز الكهرباء للمواطنين.
ان لوقت أجراء الاستطلاع أهمية كبرى على نتائجه. فأستطلاع الرأي العام هو صورة فوتغرافية للحظة معينة.وعندما تظهر في الصورة وأنت تبتسم فهذا لا يعني أنه بعد يوم أو يومين أو ساعات فقط ستبقى فرحاً ومبتسماً.فمثلاً بعد 100 يوم فقط من إستيزار الكاظمي وصلت درجة تفضيله الى زهاء 80 بالمئة لأن التوقعات عنه كانت مرتفعة جداً، وهو قد جاء في اعقاب فترة حرجة ومقلقة جداً مر بها العراق نتيجة أنتفاضة تشرين. لكنه عانى بعد ذلك من أنخفاض شديد في شعبيته نتيجة سوء أداءه بحسب نفس الأستطلاعات التي فضلته سابقاً. كما أن العبادي بلغ نفس الدرجة المرتفعة تقريباً بعد إعلان الانتصار على داعش،حيث كانت معنويات العراقيين مرتفعة جداً.لذا يجب قراءة الارقام واجراء المقارنات ضمن سياقها الزمني وليس كما يفعل كثير من المروجين للسوداني او حتى الرافضين له.
ثالثاً، يجب الابتعاد عن نزعة تحيزية معروفة في علم النفس تسمى تحيز التوكيد confirmation bias بمعنى انتقاء أجزاء من الصورة (أو أرقام في حالتنا) تناسب وتؤكد ما نحبه، وإهمال أخرى لأنها تتناقض مع ما نحبه او نود عرضه.فنفس التقرير الذي أشار وأشاد بحكومة السوداني أشار الى إخفاقات خطيرة للحكومة.فمثلاً 29% فقط من الكورد يؤيدون أداء القيادة في بغداد، و 40% من العراقيين ابلغوا عن مشاكل يواجهونها في تأمين الطعام لهم ولأسرهم،ونفس النسبة قالوا أنهم يواجهون مشاكل في السكن، و 60% من المستطلعة آراؤهم قالوا أنها أوقات صعبة لإيجاد عمل، و 76% قالوا أن الانتخابات ليست نزيهة.مع ذلك لم تُشِرْ أي منصة حكومية أو داعمة للإطار والحكومة لهذه الأرقام وركزوا فقط على الأرقام الإيجابية.
مقابل ذلك وضمن نفس النزعة التحيزية نجد أن الرافضين او المعارضين لحكومة السوداني انتقدوا الاستطلاع ومن اجراه واتهموه بالتحيز على الرغم من أن نفس الجهة أجرت ذات الاستطلاع وبنفس المنهجية وفريق العمل عام 2019 وجاءت النتائج مرضية جداً لمعارضي الإطار التنسيقي لأنها لم تعطي سوى 13% كدرجة رضا عن حكومة عبد المهدي التي كانت مدعومة ايضاً من الإطار آنذاك. وهكذا تبرز مرة أخرى نزعة التحيز في قراءة الارقام اذا يتم الرضا عنها مادامت تتوافق مع افكار المادحين،ويتم نقدها بشدة ما دامت لاتناسب افكار الناقدين وقناعاتهم.
أخيراً فأن الاستطلاعات مثل أي علم يجب أن يؤخذ من مؤسساته الرصينة، كما يجب أن تقرأ أرقامه من قبل المختصين تماماً مثل أرقام المختبرات الطبية التي يجب ان يقرؤها الأطباء وليس الحلاقين. وعلينا ان نتذكر أن الظهور ضاحكاً في صورة فوتغرافية لا يعني أن الشخص سعيد.ولو كنت محل السوداني ومساعديه لقرأت هذه الأرقام ليس من أجل الدعاية والإعلان فقط، بل من أجل تحليلها بطريقة تعزز من إيجابياتها وتصلح من سلبياتها. فقد نجحت حكومة السوداني في ملفات وفشلت في أخرى. ونجحت في كسب فئات وشرائح من العراقيين وفشلت مع أخرى. والتحليل العلمي التفصيلي للارقام هو من يحدد الفشل والنجاح وليست أقلام أو تغريدات هذا الطرف أو ذاك.
اضف تعليق