التمييز بين شعب وشعب هي السمة الأكثر بروزا في حركة المؤسسات الحقوقية الدولية. فهذه المؤسسات تتفاعل إلى حد كبير عندما يكون الضحية أحد أفراد دولة غربية، ويقل تفاعلها إلى حد كبير عندما يكون الضحية أحد أفراد دولة مثل فلسطين. تتفاعل عندما يكون الجاني دولة مثل سوريا، ويقل تفاعلها...
كثرة الاعتداءات على الإنسان، في كل زمان ومكان، عن طريق قتله أو تعذيبه أو سجنه، أو الاستحواذ على أمواله وممتلكاته، أو تجويعه وتعطيشه، أو تخويفه وأهانته وترهيبه، أو حرمانه من ممارسة حقه في التعليم والصحة والعمل، أو حقه في التعبير عن الرأي والاختيار، وغيرها من الاعتداءات التي طالت شخص الإنسان وشخصيته، كانت سببا رئيسا من أسباب تبني ما يُعرف اليوم بـ(حقوق الإنسان).
مفهوم حقوق الإنسان ولد من رحم المعاناة الإنسانية على طول التاريخ، فأينما وجد ظلم ظهرت دعوة لاحترام الإنسان، وإعطاءه حقه المغصوب. هذه الدعوات والصرخات التي كان يمثلها المظلومون أنفسهم لم تعد مجرد نظرية تدرس، أو كلام يقال في منتدى حواري، ينشغل به أصحاب الترف الفكري، بل تجسدت في قوانين وسياسات وإجراءات، ومؤسسات دولية ووطنية، مهمتها مراقبة هذه الحقوق، والتأكد من الالتزام بها.
حقوق الإنسان -كما تصفها المعاهدات الدولية- هي حقوق نتمتّع بها جميعنا لمجرّد أنّنا من البشر، ولا تمنحنا إيّاها أي دولة. وهذه الحقوق العالميّة متأصلة في جميع البشر، مهما كانت جنسيتهم، أو نوعهم الاجتماعي، أو أصلهم الوطني أو العرقي أو لونهم، أو دينهم، أو لغتهم، أو أي وضع آخر. وهي متنوّعة وتتراوح بين الحق الأكثر جوهرية، وهو الحقّ في الحياة، والحقوق التي تجعل الحياة جديرة بأن تُعاش، مثل الحق في الغذاء والتعليم والعمل والصحة والحرية.
ويشكل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلى جانب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
ووفقا للشرعية الدولية؛ فإن الدول ملزمة بموجب القانون الدولي باحترام حقوق الإنسان وحمايتها وإعمالها. والالتزام بالاحترام يعني أنه على الدول أن تمتنع عن التدخل في التمتع بحقوق الإنسان وعن تقييدها. والالتزام بالحماية يتطلّب من الدول أن تحمي الأفراد والجماعات من انتهاكات حقوق الإنسان. والالتزام بالوفاء يعني أنه على الدول أن تتخذ إجراءات إيجابية لتيسير التمتع بحقوق الإنسان الأساسية. وفيما يحق لنا كأفراد أن نتمتّع بحقوق الإنسان، علينا أيضًا أن ندافع عن كامل حقوق الإنسان الخاصة بالآخرين.
ولا شك أن حقوق الإنسان كما تفرض على الدول واجب احترامها من خلال عدم تقيدها، وواجب حمايتها من خلال الدفاع عنها، وواجب الوفاء بها من خلال تيسير التمتع بها دون تمييز، فان على الشعوب والأفراد واجب الدفاع عن حقوق الآخرين في حال تعرضها للانتهاك، سواء من قبل الحكومات أو الجماعات أو الأفراد الآخرين.
صحيح أن مفاهيم حقوق الإنسان تدعو إلى نبذ التمييز العنصري بأشكاله كافة، ولا تميز بين إنسان وإنسان، وبين شعب وشعب، وبين أمة وأخرى، وبين فرد وفرد، كما جاء في الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري "أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفصيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني، ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارساتها، على قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة".
وتلتزم الدول الأطراف في الاتفاقية بـ:
- أن تنتهج، بكل الوسائل المناسبة ودون أي تأخير، سياسة للقضاء على التمييز العنصري بكافة أشكاله وتعزيز التفاهم بين جميع الأجناس.
- عدم إتيان أي عمل أو ممارسة من أعمال أو ممارسات التمييز العنصري ضد الأشخاص أو الجماعات أو المؤسسات، وبضمان تصرف جميع السلطات والمؤسسات العامة، القومية والمحلية، طبقا لهذا الالتزام.
- إعلان عدم شرعية المنظمات، وكذلك النشاطات الدعائية المنظمة وسائر النشاطات الدعائية، التي تقوم بالترويج للتمييز العنصري والتحريض عليه، وحظر هذه المنظمات والنشاطات واعتبار الاشتراك فيها جريمة يعاقب عليها القانون.
- كفالة حق كل إنسان في التظلم ورفع الحيف عنه على نحو فعال بصدد أي عمل من أعمال التمييز العنصري، وكذلك التماس تعويض عادل مناسب أو ترضية عادلة مناسبة عن أي ضرر لحقه كنتيجة لهذا التمييز.
إلا أن التمييز في الحقوق والحريات بين الناس واضح جدا في ممارسات الدول والحكومات، وفي ممارسات المؤسسات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان وحرياته، والتي من المفترض أن تكون هي الحامي من التمييز بين الناس. فالدول والحكومات تنقسم على قسمين: حكومات لا تعترف بحقوق شعبها نظريا وعمليا، وتمارس بحقهم مختلف الأنواع من الاضطهاد الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، تحت عناوين مثل حفظ الأمن، وتحقق السلام، وسيادة القانون. وحكومات تعترف بحقوق شعبها نظريا وعمليا، ولكنها تمييز بين أفراد شعبها، وأفراد الشعوب الأخرى. فحقوق مواطنيها هي الأساس في التعامل مع أفراد الشعوب الأخرى، وتنتهك كل الحقوق والحريات والمبادئ والقوانين في سبيل تأكيد حق مواطنيها على حق مواطني دولة أخرى، أقل عددا، أو أضعف قدرة.
كذلك المؤسسات الدولية المكلفة بحماية حقوق الإنسان، التي من المفترض أن تكون أكثر التزاما بالمبادئ العامة لحقوق الإنسان، وأكثر شفافية في التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان، أيا كان الجاني، وأيا كان المجني عليه. إلا أن التمييز بين شعب وشعب هي السمة الأكثر بروزا في حركة المؤسسات الحقوقية الدولية. فهذه المؤسسات تتفاعل إلى حد كبير عندما يكون الضحية أحد أفراد دولة غربية، ويقل تفاعلها إلى حد كبير عندما يكون الضحية أحد أفراد دولة مثل فلسطين. تتفاعل عندما يكون الجاني دولة مثل سوريا، ويقل تفاعلها عندما يكون الجاني دولة مثل أمريكا أو إسرائيل. ولعل أسباب ذلك هو سيطرة الدول الكبرى على مصادر القرار في المنظمات الأممية الحقوقية من حيث توفير المال، ومن حيث الموظفين.
وللأسف هذا هو أيضا نهج بعض الشعوب الأوربية والأمريكية التي تتصدى لانتهاكات حقوق الإنسان عندما يكون الضحايا من مواطنيها، وتغمض العين عنها عندما يكون الضحايا من مواطني دول أخرى. ولعل هناك سببين: الأول هو النظرة الفوقية لبعض الشعوب على الأخرى، والثاني التأثير الإعلامي على هذه الدول.
ان حقوق الإنسان اليوم تحتضر بكل ما للكلمة من معنى، وشعوب العالم لم تعد تصغي للمنظمات الدولية الحقوقية، ولم تعد تأبه بمقولات وتصريحات قادة المنظمة الدولية وحقوق الإنسان، لأنهم بباسطة يرونهم جزء من مشكلات انتهاكات الحقوق والحريات، ووسيلة من وسائلها المدمرة، وليس جزء من معالجة تلك الانتهاكات والتعديات. وببساطة لم نعد نؤمن أن اتفاقيات حقوق الإنسان ومؤسساتها الدولية والوطنية قادرة على التعامل الجدي مع ما يحدث من ظلم واضطهاد، بل هي مؤسسات تستبطن التعمية والتضليل عن تلك الانتهاكات.
ولذلك ندعو إلى ما يأتي:
1. ندعو الشعوب والأمم الحرة على الانتفاضة بوجه المنظمات الحقوقية الأممية التي ثبت الدليل على تعاطيها المنحاز في قضايا حقوق الإنسان، لاسيما الشعوب والأقليات التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها.
2. ندعو الحكومات العربية والإسلامية إلى أخذ المواقف الوطنية والإسلامية في رفض التعامل والتعاطي مع تلك المنظمات التي تفرق بين الناس على أساس الانتماء والعرق.
3. ندعو المنظمات الحقوقية الأممية إلى الاستغناء عن المسؤولين والموظفين الذين تعاطوا سلبا على ما يحدث من انتهاكات مروعة في فلسطين وغيرها.
4. ندعو إلى تأليف منظمات إنسانية حقيقية في عالمنا العربي والإسلامي تنظر للإنسان كما ينظر إليه الإسلام من أنه مكرم ومعزز، وأنه لا فرق بين إنسان وإنسان، وأن المواقف الحقوقية تكون على معيار واحد هو الوقوف مع الضحية والاقتصاص من الجاني.
اضف تعليق