q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

مأسسة الإصلاح الاقتصادي في العراق

ضمانة لنجاح الإصلاحات الاقتصادية لحكومة العبادي

المواطن لا يريد إصلاحات مكتوبة على الورق او شعارات او أطروحات نظرية، كل حكومة تأتي إلى السلطة في العراق ترفع شعار الإصلاح الاقتصادي وتحمل برامج اقتصادية، وكأنها العصا السحرية التي ستحقق حلم الرفاهية للمواطن العراقي الذي تتجاذبه الأزمات من كل مكان (أزمة كهرباء، أزمة ماء، أزمة تعليم، أزمة سكن، أزمة صحة، أزمة بيئة، أزمة سياسية، أزمة أمنية، أزمة مالية وأزمة فقر وبطالة وجوع وهجرة ونزوح...الخ).

فكل الحكومات السابقة في العراق بعد عام 2003 جاءت ببرامج إصلاحات اقتصادية جيدة (سواء في حكومة إياد علاوي، او الجعفري آو نوري المالكي)، ونتساءل لماذا لم تحقق نتائج ملموسة أو إنها لم تكن بمستوى الطموح؟.

بإعتقادنا السبب في ذلك أنها لم تؤطر في أطار مأسسة حقيقية فاعلة ومؤثرة في سلوك القائمين على ادارة الدولة والاقتصاد، ولا نقصد بالمأسسة البنايات او المؤسسات او الشركات والمكاتب، بل المأسسة وحسب تعريف المدرسة المؤسساتية بأنها "قواعد اللعبة" اي أنها القوانين والضوابط والتعليمات والبرامج والسياسات الضابطة للسلوك داخل منظومة السلطة وإدارة الدولة، وبدون المؤسساتية سنكون أمام سلوك غير منضبط من قبل نخب السلطة، فالدول المتقدمة تتميز بوجود انساق مؤسساتية فاعلة ومؤثرة اي ضابطة لسلوك القائمين على أدارة الدولة بكافة مفاصلها السياسية والاقتصادية والمالية والتجارية والخدمات.. الخ، ولا يمكن عندئذ لأي مسؤول أن يكون بعيدا عن الرقابة والمساءلة والعقاب أن بدر تقصير أو أخفاق في أداء مهامه أو صدر منه سلوك منحرف عمدي.

قد يقول البعض نحن لدينا في العراق مؤسساتية، نقول نعم، إلا أنها غير مؤثرة في سلوك القائمين على إدارة الدولة والاقتصاد، أي نخب السلطة داخل العراق فهم فوق المؤسساتية، بمعنى انهم بمنأى عن المساءلة والعقاب بعبارة أخرى فوق القانون، فالمأسسة الفاعلة والمؤثرة هي الوجه الأخر لقوة القانون والقضاة وبدونهما لن تنجح اي محاولة إصلاحية في العراق.

هنا سنحاول تسليط الضوء على ثلاثة محاور:

الأول: استعراض عام لحزمة الإصلاحات لرئيس الوزراء حيدر العبادي.

اولاً/ حزمة الإصلاحات لرئيس الوزراء حيدر العبادي...

حزمة الإصلاحات التي قدمها رئيس الوزراء حيدر العبادي وصادق عليها مجلس الوزراء بالإجماع في 9 آب 2015، وصادق البرلمان عليها في 11 من الشهر نفسه، لم تكن بالجديدة وإنما سبق وان أعلن عنها في برنامجه الحكومي (2014ــ2018)، ويمكن أن نجملها بالمحاور الآتية:

1- محور الإصلاح الإداري

الذي ركز على تبنى منهج واسع للإصلاح المؤسساتي والإسراع بإنجاز برنامج للإصلاح الإداري يتضمن (تقليص أعداد الحمايات لكل المسؤولين في الدولة بضمنها الرئاسات الثلاثة والوزراء والنواب والدرجات الخاصة والمدراء العامين والمحافظين وأعضاء مجالس المحافظات ومن بدرجاتهم، ويتم تحويل الفائض إلى وزارتي الدفاع والداخلية والاستمرار بتحديد الامتيازات الأخرى للمسؤولين بما فيها (السيارات والسكن)، وكذلك إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء وكذلك ترشيق الوزارات والهيئات لرفع الكفاءة في العمل الحكومي وتخفيض النفقات وإلغاء الفوارق في الرواتب من خلال إصلاح نظام الرواتب والمخصصات وإلغاء المخصصات الاستثنائية.

2- محور الإصلاح المالي:

ويهدف إلى معالجة العجز في الموازنة العامة المتمثل بإصلاح هيكل نفقات وإيرادات الدولة من خلال:

أ‌- معالجة التهرب الضريبي سواء فيما يتعلق بضريبة الدخل وتوسيع الوعاء الضريبي ومنع الفساد وتخفيف العبء على أصحاب المهن الحرة.

ب‌- تطبيق التعرفة الكمركية بصورة عادلة على جميع المنافذ الحدودية، وبضمنها منافذ إقليم كردستان والاستعانة بالشركات العالمية الرصينة في هذا المجال لمنع الفساد وتشجيع المنتوج الوطني ومنع إغراق السوق العراقية.

ت‌- خفض الحد الأعلى للرواتب التقاعدية للمسؤولين.

3- محور الإصلاح الاقتصادي:

يتمثل بتفعيل حركة الاستثمار وتنشيط القطاع الخاص من خلال توفير القروض للقطاع الصناعي والزراعي وقطاع الإسكان والبالغة (5) ترليون دينار، وكذلك دعم المشاريع الصغيرة بقروض تبلغ ترليون دينار من اجل تشغيل العاطلين عن العمل، وكذلك الاهتمام بالقطاع الخاص ودفع مستحقاته التي بذمة الحكومة، وايضا الغاء جميع الاستثناءات من تعليمات تنفيذ العقود الحكومية باستثناء عقود التسليح في وزارة الدفاع حالياً فضلا عن تفعيل إستراتيجيات العمل التي أعدتها مؤسسات الدولة كافة، وايضا اعادة تأهيل الصناعات المملوكة للدولة والتحول التدريجي نحو القطاع الخاص وضمان بيئة تمكينية للنهوض به في مجال التجارة والتمويل والقوانين والتشريعات.

4- محور الخدمات:

ويركز على الارتقاء بالمستوى الخدمي والمعيشي للمواطن العراقي، ومعالجة أزمة الكهرباء بالدرجة الأساس وتوفير البنى التحتية (نقل واتصالات) وتبني برنامج رقابة مجتمعية فعال لكشف التراجع او الفشل في تقديم الخدمات العامة بغية محاسبة المقصرين والفاسدين.

5- محور مكافحة الفساد:

ويركز على أنشاء مجلس (مكافحة الفساد) برئاسة رئيس الوزراء وتفعيل مبدأ (من أين لك هذا)، وتفعيل دور القضاء وفتح ملفات الفساد السابقة ومحاكمة الفاسدين، ووضع سقف زمني لحسم جميع القضايا الخاصة بالفساد، وكذلك تنشيط دور المؤسسات الرقابية وهي (هيئة النزاهة الوطنية، ديوان الرقابة المالية، ومكاتب المفتش العام)، وصياغة برنامج الرصد وتقويم الأداء الحكومي وتكامل الأدوار.

6- كذلك هناك أولويات إستراتيجية جاءت ضمن البرنامج الحكومي الإصلاحي لرئيس الوزراء حيدر العبادي تمثلت بـ:

أ‌. معالجة مشكلة النزوح والهجرة.

ب‌. زيادة إنتاج النفط والغاز وتحسين الاستدامة المالية.

ت‌. النهوض بمتطلبات التنمية البشرية (التعليم والصحة، استدامة البيئة، تفعيل دور منظمات المجتمع المدني، تعزيز دور المرأة وزيادة كفاءة خدمات الضمان الاجتماعي).

ث‌. جذب الاستثمارات الأجنبية وتنويع مصادر الدخل بعيدا عن النفط في ظل تهاوي أسعاره.

ج‌. إعادة هيكلة بعض الشركات المملوكة للدولة، وقال حيدر العبادي "نريد هذه الشركات لتكون أكثر كفاءة وفاعلية في الاقتصاد العراقي، وإن الحكومة ليس لديها نية للتخلص من العاملين في هذه الشركات".

ثانياً/ ميكانزمات الإصلاح: رؤية في المعايير

طالما تصاعدت دعوات الإصلاح في العراق ومنذ سنوات مضت إلا أنها لم تتكلل بالنجاح والسبب كان انطفاء محركاتها، ونحن نشير هنا إذا أردنا تحقق الإصلاح الشامل ونجاحه لابد لها من محركات تديم استمراريتها وهنا نحدد الآتي:

1- مبدأ حسن النية من قبل جميع القوى السياسية الفاعلة في الساحة العراقية وتبنيها الإصلاح كفكر وممارسة في عملها خدمة للشعب العراقي والمبادرة من تلقاء نفسها بتبني إصلاحات والابتعاد عن المنافسة غير الشريفة ومحاولة البعض منهم إفشال الحكومة وإسقاطها، فالإصلاح هو الخيار الوحيد للبقاء في السلطة بدلا من إجبارهم على مغادرة العراق تحت ضغط مظاهرات الشعب العراقي.

2- يجب على الحكومة العراقية اعتماد نظام الجدارة عند ملء المناصب القيادية، بعيدا عن المحاصصة الطائفية والحزبية، لما يمكن أن يعزز النظام القضائي في حربه ضد الفساد.

3- يجب استمرار زخم المظاهرات ودعمها من قبل المرجعية الرشيدة، لأنه أن خفت وطأتها لن يتحقق إصلاح حقيقي في العراق وستكون فقاعة كما الفقاعات الماضية.

4- توفر الدعم الإقليمي والدولي لإصلاحات العراق، وخاصة من المؤسسات المالية الدولية والبنوك الدولية والإقليمية وصندوق النقد والبنك الدوليين لتوفير التمويل اللازم لإنجاح الإصلاحات، فضلا عن الوكالات المتخصصة في رسم سياسات الإصلاح وكيفية تنفيذها والاستعانة بالخبراء الدوليين في هذا المجال، فالعراق بحاجة إلى الدعم الاقتصادي المناسب في هذه المرحلة لمساعدته في إنجاح عمليات الإصلاح الاقتصادي.

ثالثا/ إنشاء هيئة التحول الاقتصادي (ضمانة للتحول الاقتصادي الناجح في العراق)

نقترح على الحكومة إنشاء وزارة للتحول الاقتصادي بعد أن يتم دمج كل من (الهيئة الوطنية لتشجيع الاستثمار الأجنبي ودائرة الاستثمار الأجنبي في وزارة التخطيط، ودائرة العلاقات الخارجية في وزارة التجارة، ودائرة العلاقات الاقتصادية في وزارة الخارجية، وهيئة الخصخصة المجمدة في مجلس الوزراء)، وان ترتبط بعلاقة خاصة مع البنك المركزي ووزارة المالية ووزارة التجارة وسوق العراق للأوراق المالية، وفي ذلك أهداف:

1. ترشيق للجهاز الإداري من خلال دمج الوزارات وكل الهيئات أعلاه وبالتالي ضغط للمناصب الإدارية والتخلص من امتيازاتها وما يترتب عليه من ضغط للنفقات بشكل كبير مع الإبقاء على الكوادر المتخصصة بالاقتصاد والتجارة والاستثمار والمال فقط على الأقل القيادات المتقدمة من الموظفين وإعادة تدوير باقي الموظفين الى الفروع التي ستنشأ عن وزارة التحول الاقتصادي أو وزارة الاقتصاد وكل حسب اختصاصه.

2. توحيد مصدر اتخاذ القرار الاقتصادي بجهة واحدة فقط بدلا من تعدد جهات اتخاذ القرار الاقتصادي.

3. ضمان كفاءة اكبر في ادارة الاقتصاد العراقي من خلال تبني فكر اقتصادي سليم قائم على اقتصاد السوق المنضبط بإطار مؤسساتي يحقق مصالح الجميع ويضمن عدالة اجتماعية في نفس الوقت، وهذا ما يحتاج إليه العراق في ظل فترة الإصلاح الاقتصادي فلا يمكن أن نظل نعتمد على الدولة بإعتبارها الراعي ورب العمل، وإنها المسؤولة عن تحمل كل المشاكل الاقتصادية وهي المعنية بالتنمية الاقتصادي فيجب انسحاب الدولة لتمارس أدوارها كما في الدول المتقدمة وهي:

أ‌. الدفاع والأمن الخارجي والداخلي.

ب‌. التشريعات وتطبيق القانون.

ت‌. الرقابة والإشراف على سير اقتصاد السوق وتوفير الأطر المؤسسية الضامنة لتحقيق العدالة الاجتماعية أي أن لا تترك اقتصاد السوق يعمل بدون ضوابط.

وتكون تلك الهيئة العامة آو الوزارة ركن من أركان الدولة العراقية وشرط من شروط وجودها واستمرارها، ويكون عملها على جانبين:

الأول: خارجي يهتم بالعلاقات الاقتصادية الخارجية والاهتمام بكل برامج الإصلاح الاقتصادي مع المؤسسات الاقتصادية الدولية (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، منظمة التجارة العالمية)، وكذلك مع المؤسسات التمويلية الإقليمية والدولية، وإجراء عمليات تدريب واسعة النطاق بخصوص تطبيق برامج الإصلاحات الاقتصادية واستقدام الخبراء المخصصين بالتحول والإصلاح الاقتصادي.

الثاني: داخلي يتولى شؤون الاستثمار الأجنبي والوطني والقطاع الخاص والعام والتجارة الداخلية والشؤون المالية، وكذلك تبني ادارة ملف الخصخصة وعلى كافة القطاعات وبما يخدم الإصلاح الاقتصادي والنهوض بالاقتصاد العراقي.

وهنا نؤكد على ثلاثة أمور في غاية الأهمية لدعم ومساندة وزارة أو هيئة التحول الاقتصادي المقترحة:

1- إنشاء المحكمة الاقتصادية العليا:

تعد تلك المحكمة مهمة لإنجاح عمل هيئة التحول الاقتصادي في العراق، فتعد مأسسة اقتصادية متخصصة تضبط السلوك الاقتصادي لكل القائمين على إدارة الشؤون الاقتصادية والمالية والتجارية والاستثمارية في داخل العراق او فض النزاعات وحسم القضايا التي تنشأ مع إطراف خارجية يتعامل معها العراق، وهذا النوع من المحاكم موجود في الدول المتقدمة وتشكل احد عوامل تحسين القدرة التنافسية للاقتصاد على المستوى العالمي، ونقترح ان تضم قضاة متخصصين بالقانون الاقتصادي والتجاري والقانون الاقتصادي الدولي وقانون الشركات حصراً وان كان العراق الآن يعاني من نقص الكوادر المتخصصة بالقانون الاقتصادي، كما ندعو إلى تأسيس أكاديمية متخصصة بأعداد قضاة اقتصاديين او فتح فرع ضمن معهد القضاء العالي لإعداد كوادر لها والإلمام بالأمور الاقتصادية وبالعلاقات الاقتصادية الدولية والأمور المالية والاستثمارية والقانون الاقتصادي الدولي بما فيها قانون منظمة التجارة العالمية وعقود الاستثمار الدولية وغير ذلك من العقود الاقتصادية المتخصصة.

2- إنشاء المحكمة المالية:

اقترح تفعيل عمل محكمة الخدمات المالية الموجودة لدى البنك المركزي العراقي وتوسيع عملها او إنشاء أخرى متخصصة فقط بالأمور المالية والمحاسبية على الصعيد الداخلي والخارجي، وتتولى أيضا مهمة النظر في كل عمليات الفساد المالي والإداري سواء كان فساد نخب السلطة (رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، أعضاء مجلس الوزراء، رؤساء مجالس المحافظات، أعضاء مجالس المحافظات، وجميع أعضاء مجلس النواب والمدراء العامون في وزارات الدولة ومؤسساتها)، وكذلك الفساد البيروقراطي (الموظفين دون درجة مدير عام)، وان يتم دمج دوائر المفتش العام، ودوائر الرقابة المالية، وهيئة النزاهة) لتكون تحت مسؤولية تلك المحكمة، وهذا فيه ترشيق لعمل الحكومة أيضا وضغط للمناصب وامتيازاتها وتقليص دائرة المسؤولية بدل من تشتتها وترهلها.

3- إعادة النظر بكل التشريعات والقوانين:

ذات الصلة بالاقتصاد العراقي وتعديلها بما يخدم الإصلاح الاقتصادي في العراق حصراً وتشريع قوانين جديدة نسميها قوانين التحول الاقتصادي كي تتلاءم مع القوانين الدولية وخاصة منظمة التجارة العالمية وقوانين التهرب الضريبي العابر للحدود وقوانين المؤسسات المالية الدولية وقوانين التجارة الاليكترونية والتسويات الدولية وقوانين الاستثمار الأجنبي وقوانين الأسواق المالية وقوانين الشركات الأجنبية وغير ذلك من القوانين التي بدونها لا يمكن للعراق أن يحقق التحول الناجز إلى اقتصاد السوق ويمكن الاستعانة بالوكالات الدولية والمنظمات المتخصصة في هذا المجال.

وعليه، فان وزارة أو هيئة التحول الاقتصادي استكملت أركانها الأساسية المتمثلة بالمؤسساتية والتي تضم (قواعد اللعبة)، وهي الفكر الاقتصادي السليم والتشريعات والقوانين الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والمالية والضريبية والكمركية... الخ)، والبرامج والسياسات الاقتصادية العامة والضوابط والتعليمات وهذه كلها ستكون ضابطة لسلوك اللاعبين الاقتصاديين داخل الاقتصاد العراقي أو اللاعبين الخارجيين سواء كانت حكومات أو شركات أو مجتمع رجال الأعمال أو منظمات ومؤسسات استثمارية وتمويلية دولية.

وكذلك الركن الآخر المتمثل بالمحكمة الاقتصادية العليا، أما الركن الأخير فهو المحكمة المالية، كل ذلك سيشكل ضمانة حقيقية لإنجاح الإصلاحات الاقتصادية في العراق، وهنا نكون قد أطرنا الإصلاح الاقتصادي بإطار مؤسساتي ضابط لسلوك القائمين على ادارة الاقتصاد العراقي وضابط لحركة التفاعلات الاقتصادية الثلاثة (التجارة والاستثمار والتمويل).

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق