q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

الصفعة

مذكرات قابلة للنسيان الحلقة (15)

كنتُ أظن أنه ذهب ليغسل وجهه في المغاسل، بحثتُ عنه، وتوقعتُ أنه سيعود بعد دقائق، لكنّ دروس اليوم انتهت كلها ولم يعد للصف. في اليوم التالي لم يأتِ (قاسم) لصفّه، حاولتُ العثور عليه، ذهبتُ إلى بيتهم مرة وأخرى وثالثة، لكن مقعده في الصف بقيَ شاغرا، مرت أيام وأسابيع ولم يعد...

لا زلت وأنا في هذا العمر المتقدم أشعر بحاجتي لصديق مختلف عن الآخرين، صديق واحد على الأقل أستطيع أن أبوح له بما لا يُباح للآخرين، صديق على غرار (حسنين)، طالب الابتدائية الذي اختفى من مدرستي ومن حياتي فجأة، ذلك الصديق الذي كان يزرع في قلبي الأمان بمجرد أن أراه، ذلك الطفل الذي كان يبعث في نفسي اطمئنان غريب لم أجده عند غيره إلى الآن.

هكذا عشتُ سنواتي القابلة، أشعر بمرارة فقداني للصديق المرآة، الصديق السند، الصديق الأكثر من أخ، في كل مرحلة أسعى كي أكتشف هذا النوع من الأصدقاء، وفي دراستي المتوسطة وجدتُ شبيها لصديقي المفقود (حسنين)، وما أن رأيته وسمعتُ كلماته الأولى حتى تبادر لي وجه حسنين، وفي نفس اللحظة أصابتني رعشة خوف قوية كأنها صعقة، خفتُ من فقدانه أيضا كما فقدتُ الصديق الأول.

كنتُ في الصف الأول أو الثاني متوسط، وحين فزتُ بالقلم الباركر في مسابقة اليانصيب، شعرتُ أنه الطالب الوحيد بالصف الذي هنّأني من كل قلبه، أما الطلاب الآخرون فبعضهم لم ينبس بكلمة تهنئة، وبعضهم قالها على مضض، أما هو (قاسم) فشعرتُ وهو يبارك لي فوزي بأنه هو الفائز أيضا، منذ تلك اللحظة بادرني شعور راسخ مشعّ وصادق بأنني عثرت على صديق يشبه صديقي المفقود (حسنين).

قاسم كان خجولا، لكنه قوي، وغريب حقا أن يجتمع الخجل بالقوة في شخص واحد، وما جمعني به ربما هي حالة الفقر في مدرسة الأغنياء، نعم هذه المدرسة المتوسطة كنتُ ولا زلتُ أسميها بمدرسة الأثرياء، لأن الثراء واضح في ملابس الطلبة وأحذيتهم، والأوضح من هذا وذاك في وجوههم التي تغصّ بالصحة والجمال.

في إحدى المرات تجرّأ أحد الطلاب الأغنياء ونعتني بصفة جارحة، لذتُ بالصمت، أما (قاسم) فقد صرخ في وجهه و وبّخه وحذره من تكرار هذا الخطأ، حدث هذا أمام طلاب الصف، ومنذ ذلك الموقف ربطت بيننا صداقة وثيقة وعميقة، وأخذ الطلاب الآخرون ينظرون لنا على أننا شخص واحد.

لاحظ بعض المدرّسين علاقتنا القوية أنا و قاسم، وذكروا هذه الصداقة في بعض المحاضرات كمثال للصداقة الجيدة، كنتُ أفرح حين أسمع المدرس وهو يثني علينا ويضرب بنا مثالا عن الصداقة، في لحظتها كنتُ أنظر لوجه قاسم فأراه مغسولا بالخجل، وأنظر إلى الطلاب، فأرى تعابير مختلفة، لكننا مع كل يوم جديد نتّحد أكثر، حتى أنني أخذتُ أنقل له بعض ما يدور في أسرتنا وبيتنا من مشاكل، واقترحتُ عليه أن نعمل معا في بيع الأسكيمو لتقليل المصاعب المالية التي نعاني منها.

لم يمانع بل وجد في هذا الاقتراح فرصة لكي يعاون أباه الذي يتحمل مشقة إعالة الأسرة وحده، خرجنا إلى مركز المدينة فجرا، كان ذلك في يوم جمعة حيث لا دوام في المدرسة، وصلنا إلى منطقة المخيّم ودخلنا الفرن الوحيد، قدمتُ صديقي قاسم إلى مالك الفرن، فرحَّب به وأعطى لكل منّا (50) خمسين رغيفا أو (صمونة كما يسميها العراقيون)، رصفنا الصمون في صينية دائرية من الفافون، كل منّا وضع صينيتهُ على رأسه وانطلقنا خارج الفرن، ورحنا نتجوّل في (الدرابين) الأزقة الضيقة لمركز المدينة حيث لا يزال الناس يغطّون في نومهم العميق...

كنتُ أتحرك برشاقة رغم وجود صينية الصمون فوق رأسي، بينما كان قاسم يمسك بالصينية بكلتا يديه ويخشى أن تسقط من فوق رأسه، وكان يسألني باستغراب كيف لا تسقط الصينية من رأسك، فأقول له سوف تتعلم هذا في ثلاثة أيام فقط، يضحك ويستغرب كلامي لكنه بالفعل تعلّم ذلك.

كنا نحصل على عشرة فلوس عن كل (صمونة) نبيعها للناس، (3) ثلاثة فلوس لنا، وسبعة (7) لمالك الفرن، بعد أذان الظهر نتوقف عن البيع، نحصي مكسبنا، فنجد أننا ربحنا ثلاثة دراهم (150) فلسا، نفرح لأنها تكفي لإعالة العائلة ليوم واحد، ثم أخذتُ (قاسم) معي إلى معمل صنع (الأسكِمو/ الآيس كريم)، وعرّفته على مالك المعمل، وأعطاه عربة ومئة قطعة من المثلجات من دون أن يأخذ منه بطاقته الشخصية (جنسيته) كي لا يفرّ بالعربة وما فيها، فأنا كفيل قاسم وهذا يكفي، في نهاية يوم شاق جدا جُبنا فيه مناطق سكنية عديدة من المدينة، ثم عدنا عصرًا بأربعة دراهم (200) مائتيّ فلس لكل منا، لكن هذه الفلوس كانت تتبخر بمجرد وصولنا للبيت حيث الأفواه الجائعة بالانتظار.

خففّ (قاسم) عنّي كثيرا من وحشة الحياة، ساعدني معنويا، جعلني أشعر بأنني غنيّ به، فالصداقة تغنيك عن المال في أحيان كثيرة، كان الطلاب الأثرياء يشترون لأنفسهم أكثر مما يحتاجونه من الحانوت، وكنا أنا وقاسم أما نشتري حاجة واحدة (قطعة بسكويت مثلا) أو لا نشتري ذلك، ولا توجد مشكلة، كنا نشعر بالغبن نعم، لكننا نعوّض ذلك بالدرجات العالية التي كنّا نحصل عليها في الدروس، فقد سعينا أن نسد نقص الفقر بالتميّز في الامتحانات.

ذات يوم حين قرع الجرس إيذانا ببداية الدرس، هرعنا جميعا إلى الصف وجلسنا في مقاعدنا، كنا بحدود ثلاثين طالبا، نتوزع في ثلاثة خطوط، كل خط فيه خمس (رَحْلات/ مقاعد مزدوجة مصنوعة من الخشب)، في كل خط عشرة طلاب، الخط الأول يقع إلى جانب الجدار الأيمن من الصف، الخط الثاني يقع في منتصف الصف، والخط الثالث يقع إلى جهة اليسار بالقرب من نوافذ الصف.

سمعنا نحن الطلاب الجالسين في الصف خطوات المدرٍّس وهو يخطو إلينا، ساد الصمت التام، كنّا نخاف هذا المدرّس كونه شديدا في تعامله، دخل الصف فنهضنا واقفين في حركة واحدة، كأننا تلميذ واحد، وحنجرة واحدة، وشهيق وزفير واحد يتنفّسهُ جميع الطلاب في وقت واحد، لم نكن نشعر أننا في صف للتدريس، وإنما في مكان مغلق للحساب والعقاب، كما أن ملامح وجه (مدرّس الجغرافية) الجادة الصمّاء، كانت تضاعف من سطوة الخوف علينا.

كان مدرّس الجغرافية هذا قد كلّفنا برسم إحدى الخرائط كواجب بيتي، لا أتذكر الآن أية خريطة، وطلب من جميع الطلاب، أن يضعوا كراريس الرسم على ظهور المقاعد (الرحلات)، وبدأ في التفتيش عن أداء (الواجب)، ولم يكن أحدنا يجرؤ على عدم إنجاز الواجب خوفا من الصفعة الحادّة التي كانت تميّز كفّ هذا المدرّس عن غيره، جميع الطلاب رسموا الخريطة المطلوبة، ولم يجد المدرّس أحدا مقصّرا من الطلاب كي يصفعه.

كان صديقي (قاسم) آخر الطلاب، يجلس إلى جانب جدار الصف الأيمن، الوهن بدا واضحا عليه، وظهر في قسمات وجهه الذابل، فعلى الرغم من مرضه أدى واجبه في رسم الخريطة، لكنه لم يكن متنبّها إلى أن كراسة الرسم الخاصة به كانت مغلقة، أي أنه لم يفتح الكراسة ويُظهر الصفحة التي رسم فيها الخريطة كما فعل الطلاب الآخرون، فظلّتْ كراسته مغلقة ولم يتنبّه للأمر بسبب وهنه وضعفه، أتذكّر أنني قلتُ له همسا (افتح كراستك) لكنه بسبب المرض لم يسمعني، حين وصل إليه المدرّس سأله هل رسمت الخريطة؟؟

أجاب (قاسم) بصوت خفيض، نعم أستاذ، فسأله المعلم: وأين هي الخريطة؟؟

في هذه اللحظة مدَّ (قاسم) يده كي يفتح الكراسة وقبل أن تصل يدهُ إلى الكراسة، بادره المدرّس بصفعة قوية جعلت رأسهُ يرتطم بالجدار بقوة.....

لم يجرؤ أحد من طلاب الصف أن يلتفت إلى (قاسم)، لقد كان مريضا ولم يستطع أن يفتح كراسته على الخريطة التي قام برسمها دونما تقصير، كنّا في حالة صمت مطبق، لكنني إلى الآن أتذكر أن الصوت الوحيد الذي كنّا نسمعه في الصف الصامت، هو البكاء المكبوت الضعيف لقاسم بعد أن تعرَّض لصفعة المدرّس.

حين دقّ جرس انتهاء الدرس خرج الطلاب جميعهم من الصف، لكي يتمتعوا بالدقائق القليلة الفاصلة بين محاضرتين، الوحيد الذي لم يترك الصف هو (قاسم) الذي أبكتهُ صفعة المدرّس، كنتُ أقف إلى جانبه، لا أعرف ماذا أقول له، وضعتُ يدي على كتفه ولذتُ بالصمت، كنتُ أظن أنه لم يخرج للتمتع بالفرصة بسبب المرض، لكنه في الحقيقة كان يفكر بشيء حاسم وخطير اتخذه بينه وبين نفسه.

انتهت الفرصة الخاطفة بين المحاضرتين، عاد جميع الطلاب إلى صفّهم، جلسوا جميعا في مقاعدهم، إلا مقعد واحد، ظل فارغا، يعود للطالب (قاسم) الذي صفعه مدرّس الجغرافية، فقد كان خاليا، حين دخل مدرّس الكيمياء سأل الطلاب: لماذا هذا المقعد شاغرا، فأجبناه بأنه كان موجودا معنا.

كنتُ أظن أنه ذهب ليغسل وجهه في المغاسل، بحثتُ عنه، وتوقعتُ أنه سيعود بعد دقائق، لكنّ دروس اليوم انتهت كلها ولم يعد للصف. في اليوم التالي لم يأتِ (قاسم) لصفّه، حاولتُ العثور عليه، ذهبتُ إلى بيتهم مرة وأخرى وثالثة، لكن مقعده في الصف بقيَ شاغرا، مرت أيام وأسابيع ولم يعد، انتهت السنة الدراسية ولم يعد، وإلى اليوم لم أرَ (قاسم) بسبب صفعه مدرّس الجغرافية.

اضف تعليق