ما زالت ثقافة الفرد، بل المجتمع في العراق غارقة في نمط ثقافة الحكم الاستبدادي الشمولي، فهو يقارن حياته الراهنة في مرحلة ما بعد الحكم الشمولي بحياته وقيمه وسلوكه اثناء مرحلة الحكم الشمولي أو ما قبله ايضا، يستذكر دائما السلطة الغاشمة التي تبطش والتي لاتتيح له فرصة ادراك ذاته السياسية...
أنجز باحثون عراقيون دراساتٍ وبحوثا ذات قيمة تنظيرية وعملية كبيرة، ربطت بين متغيرين مهمين هما الثقافة السياسية والذاكرة السياسية، فثمة ربط أكيد بين الذاكرة الفردية والجماعية وبين اعتقادات وتوجهات وتقويمات الأفراد وبين سلوكهم السياسي، أبرز هذه الأبحاث المهمة كانت أطروحة دكتوراه أنجزها الباحث المرموق الدكتور لؤي خزعل جبر وصدرت بعنوان (الذاكرة التاريخية والثقافة السياسية، دراسة نفسية في ديناميات العجز المتعلم الجمعي في المجتمع العراقي).
كما أنجز الأستاذان المساعدان الدكتور عباس حنون الأسدي والدكتور عبدالحليم رحيم علي بحثا مشتركا بعنوان (الذاكرة التاريخية وعلاقتها بالثقافة السياسية لدى اساتذة جامعة بغداد)، وكانت خلاصة هذه البحوث تؤكد نتيجة خطيرة، وهي الأثر العميق للذاكرة السياسية في بلورة الثقافة السياسية، التي يعيشها الفرد العراقي في لحظته الزمنية الراهنة، والأثر المترتب على ذلك ينبغي ان يكون في نقد هذه الثقافة السياسية وتفكيكها، لا سيما ما ارتبط منها بنوعي الثقافة الأولي، التقليدي والخضوعي لصالح توسعة وتنمية النوع الثالث، وأعني به ثقافة المشاركة السياسية، فما الذي يحول بين ارتقاء ثقافة المشاركة وبين فاعلية وتوجهات واعتقادات الفرد العراقي السياسي؟
جواب السؤال يتعلق بجملة الأفكار والتصورات والقيم والمفاهيم التي يحملها الفرد، ازاء النظام السياسي عامة، واتجاه مؤسسات هذا النظام وتوجهاته ورموزه وأحزابه وفاعلياته وتشريعاته وقوانينه واجهزته البيروقراطية.
ما زالت ثقافة الفرد، بل المجتمع في العراق غارقة في نمط ثقافة الحكم الاستبدادي الشمولي، فهو يقارن حياته الراهنة في مرحلة ما بعد الحكم الشمولي بحياته وقيمه وسلوكه اثناء مرحلة الحكم الشمولي أو ما قبله ايضا، يستذكر دائما السلطة الغاشمة التي تبطش والتي لاتتيح له فرصة ادراك ذاته السياسية بوصفه فردًا لا رعية يُساق حيثما ارتأى النظام الذي يحكم، أنه يتمثل سلطة القوة التي تفرض عليه أن يمتثل دائما بدون اعتراض، وأنه غير مخول ولا معني بالمشاركة في صنع السياسات العامة أو التأثير في قرارات مؤسسة الحكم، إنه خاضع ومنصاع وخائف يراقب نفسه، واذا كان ثمة توجه أيديولوجي أو سياسي لديه فإنه مضطر لكبته أو التعبير عنه بشكل سري ومحدود للغاية، فالذاكرة المشحونة بأحداث سياسية كبيرة وقيم الحكم الشمولي لا تتيح الانفلات من قيودها الا بعد فترة مران ديمقراطي، يتحرر فيها الأفراد من ثقل واغلال عبودية قسرية نحو حياة متحررة من القيود السياسية والتشريعات السلطوية.
تتطلب ثقافة المشاركة إدراك الفرد لذاته انه مواطن صانع للحدث السياسي بمعنى انه صاحب حقوق في اختيار الحاكمين ومراقبتهم ومحاسبتهم على سلوكهم، وانه قادر على التعبير عن رأيه دون خوف أو لوم أو عقاب، وانه يستطيع أن يلمس اثر مشاركته أو مقاطعته للانتخابات، أو الانتماء للاحزاب والمنظمات.
وأن يشارك في النقاش السياسي العام، وأن يتقبل وجود آراء ومعتقدات سياسية اخرى.
كل ذلك مرتبط بايمان الفرد بجدوى المشاركة وايجابية الحراك وبروح المبادرة الفردية والجماعية، من لا يتوفر على هذه الشروط يصبح عاجزا، وقد يتعلم العجز ويعزوه إلى عوامل وظروف ومؤثرات، وقد يتحجج بمعاذير مختلفة، منها عدم فائدة المشاركة واليأس من التغيير والتطوير والاحباط الناجم من عدم تبلور نتائج ايجابية سريعة.
ما يمنح الفرد الحيوية والرغبة في المشاركة وتفعيل مفهوم المواطنة، هو التربية على المواطنية وبناء الثقافة السياسية التي تنمي الاحساس بدور الفرد السياسي وبالحياة السياسية النشطة.
ما حصل في بلادنا طيلة الاعوام التي خرج فيها العراق من حقبة الحكم الشمولي، هو استمرار بقايا ثقافة الخضوع وارتكاس المجتمع والافراد إلى الثقافة التقليدية، التي تعلي شأن العشيرة والجهة والطائفة وجماعات المصالح المسلحة، التي تمنح الأفراد مشاعر الاستقواء على المجتمع والدولة والافتئات على القانون وتسخير المال السياسي وممارسة النشاط السياسي المندفع بروح الزبونية ومشاعر الاغتناء.
هذه المظاهر اضعفت التوجه إلى المشاركة السياسية الفعالة والى العمل الحزبي السليم والتفكير النقدي الملائم، صار المجتمع خاضعا لمسلمات سياسية وتفكير مناطقي أو حزبي مؤدلج يقود إلى اتجاهين متعاكسين، الأول الاستئثار والاندفاع نحو السلطة واضفاء الشرعية على وسائل بلوغها بانتخابات أو صفقات، أو الهروب واليأس من واقع الحال وانتظار الحلول تبريرا لعدم الفاعلية.
كلا الاتجاهين لا ينسجمان مع نظام ديمقراطي يتوقع منه الفرد المساواتية والعدالة والانجاز والحرية المنضبطة بروح الدستور.
ما تميز به العراق خلال العقد الاخير هو تراجع المشاركة الجماهيرية وظهور ثقافة تواكلية وتدني الاداء الحزبي وانحصار المشاركة السياسية على نخبة وجمهور حزبي يوصف بانه مندفع بدواعي هويات فرعية يتحرك بزخم طائفي أو مناطقي، الخطر الاكبر على النظام البرلماني يتأتى من عزوف كتلة جماهيرية كبيرة لا تعود ممثلة سياسيا اي انها تصبح خارج اللعبة الديمقراطية وتعيش حالة اللامبالاة رغم انها متضررة وغير راضية، انها تنصاع لضغوط بسبب غياب البدائل السياسية والبرامج الانتخابية وانعدام الثقة بالطبقة السياسية بلا تحرك فعال نحو تجديد الحياة السياسية بمشاريع واحزاب وقوى مؤمنة بجدوى التغيير.
اضف تعليق