لماذا لم تُترجم كفاحات الشعب الفلسطيني وعذاباته طوال أزيد من مئة عام إلى مكتسبات ملموسة على الأرض الفلسطينية... ثورة تلو أخرى، انتفاضة تليها انتفاضة، حرب إثر حرب، ومعارك بين الحروب، استعدادات هائلة للتضحية والبطولة، والتزام متوارث جيلاً بعد جيل، ومع ذلك، لم ينجح الفلسطينيون في كنس الاحتلال عن أرضهم...
لا يمكننا ونحن نبحر في ثنايا السابع من أكتوبر وتفاصيل "طوفان الأقصى"، أن نتعرف إلى المعاني والدلالات الأبعد والأعمق للزلزال وتداعياته، ما لم نجر جولة في العقل الاستراتيجي لحركة حماس، لمعرفة ما هي الشواغل الاستراتيجية للحركة، وما هو موقع "الطوفان" منها وفي سياقاتها... فالحدث لم يكن بحال، مسبوقاً بمثله، وما بعده ليس كما قبله.
وتُعطي الحوارات المُعمّقة مع قادة الحركة الفرصة للتعرف إلى ثلاثة شواغل/ أولويات، احتلت مكانة بارزة في تفكيرهم الاستراتيجي، ومن أجل معالجتها والتصدي لها، تم إطلاق "الطوفان"، بوصفه حرباً فاصلة وكاشفة، تنطوي كأي عمل ثوري، على قدر من "المغامرة"، وإن كانت من النوع المحسوب، كما يؤكد قادة الحركة الذين أخذوا على عاتقهم كامل المسؤولية عنه وعن تداعياته.
الشاغل الأول؛ سؤال استراتيجي كبير: لماذا لم تُترجم كفاحات الشعب الفلسطيني وعذاباته طوال أزيد من مئة عام إلى مكتسبات ملموسة على الأرض الفلسطينية... ثورة تلو أخرى، انتفاضة تليها انتفاضة، حرب إثر حرب، ومعارك بين الحروب، استعدادات هائلة للتضحية والبطولة، والتزام متوارث جيلاً بعد جيل، ومع ذلك، لم ينجح الفلسطينيون في كنس الاحتلال عن أرضهم، أو ممارسة حقهم في تقرير مصيرهم، إذ حتى في الشريط الضيق المعروف باسم "قطاع غزة"، ظل "التحرير" ملتبساً ما بين انسحاب وإعادة انتشار، ومثقلاً بقيود الحصار الذي أثقل كاهل ساكنيه، وأحالهم إلى أسرى في أكبر سجن مفتوح على سطح الكرة الأرضية.
صحيح أن الشعب الفلسطيني بقيادة حركاته الوطنية المتعاقبة، سجل إنجازات كبرى لا يمكن نكرانها: حافظ على هويته الوطنية في مواجهة عمليات الطمس والتبديد والإلغاء، وجدد التزامه بمشروعه الوطني، ونجح في إنتاج "كيانية خاصة" تمثله في مختلف المحافل الدولية، على الرغم من محاولات التفريغ والتهميش وحالة "الاختطاف" التي تعيشها منظمة التحرير الفلسطينية... لكن الصحيح، أن جميع هذه المكتسبات "المعنوية"، لم تنتقل بعد إلى الأرض، على صورة كيان مستقل أو دولة قابلة للحياة في إطار ممارسة "تقرير المصير"، ولا على صورة عودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم التي شُرّدوا منها أول مرة.
ثلاثة أرباع قرن، مرت على قيام هذا الكيان الإلغائي العنصري، فيما الأرض تكاد تفلت من بين أصابع أصحابها، والحقوق تُختزل إلى مجرد ممارسة الحق في الحياة، وإن بصعوبة بالغة، والمقدسات تنتهك حرماتها في رابعة النهار، والقضية الوطنية لشعب فلسطين، في مجملها، تصبح عرضة للتهميش حتى من قبل "ذوي القربى"، ومسارات التطبيع من إبراهيمية وغير إبراهيمية، تكاد تنذر بتصفيتها كلياً، وإخضاعها لحلول تتطابق مع "المواصفات والمقاييس" الإسرائيلية الأكثر تطرفاً في إنكارها وتنكرها لشعب فلسطين وحقوقه المشروعة.
لا شيء يتحقق بالرغم من المقاومة الباسلة والصمود الأسطوري لشعب فلسطين... المسجد الأقصى يتحضر لاستقبال خطوة "التقسيم المكاني" بعد أن قُسّم في الزمان منذ أزيد من عام... الأسرى يتكدسون في معسكرات الاعتقال النازية، وبعضهم شارف على إتمام نصف قرن خلف قضبانها وفي زنازينها الموحشة... الاستيطان لا يُبقي ولا يذر، ويتهدد الأخضر واليابس، ويحيل الفلسطينيين إلى تجمعات سكانية، في بانتوستانات معزولة، مسيّجة بالجدران والحواجز ودوريات "الجيش" وميليشيات المستوطنين المدججة بالسلاح والكراهية...
حتى سلطة التنسيق الأمني، "لم يعد لها عازة"، بعد أن تولت "إسرائيل" زمام الأمن في مناطقها وقصبات مدنها، وبات يتعين على رئيسها الحصول على "موافقة أمنية" للانتقال من بيته إلى مكتبه... الحصار المضروب على غزة، طال واستطال، من دون أن يثير ذلك غضب العالم أو عتبه... لا شيء يتقدم، مع أن المقاومة تتصاعد، والفواصل الزمنية بين المعارك والحروب تتقلص، وجيلاً جديداً يبزغ من خارج "هندسات" أوسلو وطوني بلير وكيت دايتون. كيف يمكن كسر هذه "الحلقة الشريرة"، وكيف يمكن فتح الباب أمام تراكم الإنجازات، بعد أن تراكمت التضحيات والخبرات لدى الأجيال الفلسطينية المتعاقبة؟... كيف يمكن حل "اللغز" الناجم عن عدم تناسب المكتسبات مع جسامة التضحيات والاستعدادات لتقديم المزيد منها؟
هنا، وفي هذا السياق، يندرج التفكير في "طوفان الأقصى"... هنا، وهنا بالذات، قفزت فكرة استحداث الانعطافة الاستراتيجية – التاريخية الكبرى في مجرى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ومساراته... هنا والآن، لا بد من فتح الباب أمام تراكم "المنجزات" وليس التضحيات فحسب.
الشاغل الثاني: سؤال استراتيجي يتعلق بترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، بعد قرابة عقدين من أطول وأعمق انقسام في تاريخ الشعب الفلسطيني... حماس خاضت غمار انتخابات 2006 وسجلت فيها فوزاً كاسحاً، بيد أنها لم تُعطَ الفرصة لممارسة حكمها وسلطتها... بل إن فوزها قوبل بتدبير المؤامرات عليها في ليل بهيم، بإشراف أميركي وانخراط عربي وتواطؤ فلسطيني، ومذ ذلك التاريخ، وعمليات العزل والشيطنة والحصار والاستهداف لم تتوقف... وزاد الطين بلّة، إن مواقف بعض العرب والعالم من حماس، تماهت في كثير من الأحايين، مع مواقف هذه الأطراف من الإسلام السياسي و"الإخوان المسلمين"، تحديداً في عشرية "الربيع العربي" وما بعدها.
ثمة سؤال لم تتوفر الجهود والمحاولات الكثيفة في توفير إجابة عنه: القوة الشعبية صاحبة النفوذ الأكبر والأهم، قبل "الطوفان"، وبالأخص بعده، ما زالت خارج إطار "الشرعية التمثيلية"، مع أنها حازت على "الشرعية الثورية" بالتزامها بخط المقاومة، و"الشرعية الانتخابية" بفوزها الساحق في انتخابات 2006، وبفوزها المتكرر في الانتخابات العامة الأخرى، من طالبية ونقابية وبلدية وغيرها... كيف يمكن حلّ هذه المعضلة؟
حماس اليوم، ليست فتح في أواخر ستينيات القرن الفائت... لم تحتج فتح لأكثر من أربع سنوات للدخول إلى منظمة التحرير والسيطرة عليها مع فصائل أخرى، فصارت العمود الفقري لها وللحركة الفلسطينية... يومها، كانت الأنظمة العربية بحاجة إلى فتح والمنظمة، للتعويض عن هزيمتها الأقرب إلى الفضيحة في حرب الساعات الست... يومها، لم يكن النظام العربي قد تخلى عن "الكفاح المسلح" كطريق لتحرير فلسطين، بل كانت "لاءات الخرطوم الثلاث" ما زالت تخيم على مناخات النظام العربي الرسمي... اليوم، الصورة مغايرة تماماً، حماس لا تحظى بفرصة كهذه، وصعودها تزامن مع هبوط النظام العربي إلى مستنقع "السلام خيار استراتيجي وحيد"، وأولوياته تتجلى في مجابهة "التهديد" المتمثل في المعارضات، والإسلامية منها بخاصة، وحماس تدفع من حيث لا ترغب ولا تريد، فاتورة الخشية المتأصلة عن بُعد الحكومات والحكام، من الإسلام السياسي و"الإخوان المسلمين".
تدرك حماس ثقل هذه المعضلة... المنظمة، بما هي ممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، تحوز على المكانة والاعتراف العربيين والدوليين، وأي محاولات لخلق بدائل أو كيانات موازية، ستُمنى بالفشل، وهذا مصير بعضها من قبل، سواء ما حاولته حماس أو ما حاولته فصائل أخرى في سبعينيات القرن الفائت وثمانينياته... فيما المنظمة اليوم، يجري تقزيمها وتحجيم دورها، عن سبق الترصد والإصرار، ويجري استبدالها بالسلطة (التي لا سلطة لها)، من ضمن مؤامرة على الشتات وحق العودة وفلسطينيي – 48 وهدف وحدة الشعب والأرض والقضية والنضال... والشعب الفلسطيني يُراد اختزاله بشعب الضفة والقطاع على أبعد تقدير، والأخطر من كل هذا وذاك، أن ثمة "تساوقاً" مع هذا المشروع، من قبل نفرٍ من القيادة الفلسطينية التي تتحكم بمقاليد صنع السياسة والقرار في مؤسسات النظام الفلسطيني، مدعومة بتيار من المستفيدين والعجزة والانتهازيين.
المنظمة اليوم، مختطفة، من قبل "ترويكا" فلسطينية، متساوقة إلى حد كبير، مع شروط "الحل الإسرائيلي" ومعاييره، مؤسساتها ديكورية معطّلة، لا مطرح فيها حتى للفصائل المنضوية في إطارها، وحين يُقال لحماس إن الباب مفتوح أمامك لولوج عتباتها، فإن المقصود بهذه الدعوة: أهلاً بكم في "نادي المهمشين"، من أنصاف وأرباع الفصائل الميكروسكوبية، التي تُستحضر على عجل في جلسات "الأمناء العامين" لرفع الأيدي وعدّ الرؤوس.
يلومون حماس، والقول لقادتها، على تفردها بقرار الحرب ضد العدو، ولكنهم لا يلومون أنفسهم، وهم الذين يتفردون بقرار السياسة والسلم والاستسلام والتنسيق الأمني ولعب دور "الوكيل الأمني"، بالضد من قرارات الإجماع الفصائلي وقرارات مؤسسات المنظمة، بما فيها تلك التي صوتوا إلى جانبها... حماس لا تثق بالترويكا الممسكة بزمام المنظمة، وتعتقد أن "صلاحيتها السياسية والأخلاقية والوطنية" قد انتهت، وأنه لا بد من استعادة المنظمة من دون هؤلاء، ولا بد من تحريرها من قبضة آسريها، الذين أحالوها إلى مجرد "خاتم" للتوقيع على اتفاقات وتفاهمات مُذلة للغاية ومفرّطة دوماً.
لحماس تصورها لكيفية استعادة المنظمة، ليس الآن مجال الخوض فيه، ولكنه يلحظ تفعيل مفهوم الشراكة الفعلية في عمليات صنع السياسة والقرار وتحمّل المسؤولية عنهما، بالذات بين فتح وحماس... فلا أحد، فصيلاً كان أم "زعيماً" من حقه التفرد بقيادة الشعب وتمثيله، والأهم، أن المنظمة، والمنظمة وحدها، هي التي يتعين أن تكون الإطار الجامع والممثل لشعب فلسطين، بعد بعثها وتفعيلها، وتجديد شرعيتها، عبر صناديق الاقتراع حيثما أمكن، وبالتوافق الوطني العريض حين يتعذر إجراء الانتخابات...في هذا السياق، يمكن فهم "طوفان الأقصى"، فترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، هو أحد سياقات "الطوفان" ومساربه، وإن لم يكن السياق الأوحد أو حتى الأهم.
الشاغل الثالث: وهو سؤال استراتيجي آخر، حول الأفق السياسي لكفاح الشعب الفلسطيني الممتد لأكثر من مئة عام، وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً...هنا، تجدر الإشارة إلى أمرين اثنين، في ظاهرهما تناقض شكلي، وفي جوهرهما، تكمن العلاقة الجدلية بين ما هو تكتيكي/مرحلي، وما هو استراتيجي أبعد مدى وأعمق أثراً.
حماس تدرج "طوفان الأقصى" في "استراتيجية التحرير"، ولكنها ليست "واهمة" أو "حالمة" لتعتقد بأن تحرير أرض فلسطين وإنسانها، هو النتيجة المترتبة على السابع من أكتوبر أو الهدف منه... "الطوفان" خطوة نوعية كبرى على الطريق، وهو "بروفة" لما يمكن أن يحدث مستقبلاً، وهو فصلٌ في مسلسل أكثر كلفة وأبعد مدى... لكن كتائب القسام لم تطلق "طوفانها" من أجل إتمام صفقة تبادل أسرى فحسب، أو لتخفيف قبضة الحصار الجائر ورفع العقوبات الجماعية عن القطاع المحاصر والمجوّع، على أهمية هذه الأهداف وإلحاحيتها ومشروعيتها.
حماس تدرك حاجتها إلى "الانسجام" مع البيئات الفلسطينية والعربية والدولية المحيطة بها وبكفاح شعبها في المرحلة الراهنة... حيث يكاد ينعقد الإجماع على إقامة دولة فلسطينية على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية... لقد أبدت في حوارات المصالحة واستعادة الوحدة، استعداداً للانسجام مع هذه الأطروحة، من دون التزام– كفصيل فلسطيني مقاوم – بتبعاتها، هي تدرك إجماع العرب والمجتمع الدولي على هذا البرنامج، ولن تكون عقبة في طريق ترجمته، حين تتوفر، أو بالأحرى، إذا ما توفرت الفرصة لترجمته. لكنها، وهي تعرض موقفها هذا، بعد "الطوفان" وفي سياقاته، في مبادرة النقاط الأربع التي أطلقها رئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنيّة، تميّز بين قبول "المؤسسة الرسمية الفلسطينية" بطرح كهذا، وبين اضطرارها كفصيل مقاوم، للأخذ به... هي لا تمانع في قبول المؤسسة، وتعارض في قبولها كمقاومة لتلك الاشتراطات المكبلة لكفاح الأجيال القادمة من شعب فلسطين.
ولدى حماس ما تقوله في هذا المجال، فالحكومة الأكثر يمينية في "إسرائيل"، تقوم على ائتلاف ترفض معظم مكوناته، وجود شعب فلسطين، بل ولا تعترف بهذا الوجود أصلاً، و"إسرائيل"، الطرف الآخر في معادلة الصراع، تبنت قانون القومية الذي ينكر على شعب فلسطين حقه في تقرير مصيره على رقعة من أرضه، بين النهر والبحر... وما دام أن العالم ارتضى أن يتعامل مع "حكومة إسرائيل الشرعية" وضمنها سموتريتش وبن غفير، فلماذا لا يتعامل مع حكومة فلسطينية، ترفض بعض أطرافها الاعتراف بـ "إسرائيل".
لكن الفارق بين الحالتين الفلسطينية والإسرائيلية، أن بعض من في قيادة السلطة والمنظمة، يحاول إثبات أنه "كاثوليكي أكثر من البابا نفسه"، فيُصر على مطالبة حماس بالاعتراف بـ"حق إسرائيل في الوجود" وتسليم سلاحها و"نبذ الإرهاب"...في حين أن الحكومة على المقلب الآخر، تعاقب وتشيطن من يعترف بوجود الشعب الفلسطيني وتنبذ من يطالب بحقه في تقرير مصيره من بين مواطنيها اليهود، وتضع علم فلسطين وصور شهدائها في خانة "الأدلة الجرمية" على التطرف والإرهاب ومعاداة السامية.
في هذا السياق، تندرج "مبادرة هنيّة"، وحديثه عن "الأفق السياسي" المفضي إلى دولة وعودة، وهي مبادرة تقول حماس، إنها لا تتعارض مع خطها في "استراتيجية التحرير"، في حين يقول آخرون، إنها بداية تكيّف مع مشروع منظمة التحرير، وخطوة استباقية/ احترازية في مواجهة "حرب التطويق والإبادة" التي تتعرض لها الحركة، ميدانياً في غزة والضفة، وسياسياً من خلال المشاريع و"الهندسات" التي تعمل واشنطن عليها بكثافة هذه الأيام، ويراد لها وبها، إخراج حماس من جغرافيا غزة وسياسة فلسطين...وللبحث صلة.
اضف تعليق