تُضاف ثغرة أخرى الى أخطاء بعض هذه المنظمات الغائبة عن مشاريع التنمية، إخفاقها في تكريس الثقافة الوطنية في شعاراتها وفي برامج أعمالها، وأن يكون "العراق أولاً" مع توفر كامل المصداقية على ارض الواقع، وملاحظة الاستحقاقات، فلا تتعارض تجارب الخارج مع تطلعات الداخل، وربما تكون لدينا عملية تكاملية لانجاح المشاريع التنموية عندما يعرف الانسان العراقي بأنه ليس بأقل من نظيره...
رغم الحاجة الماسّة اليها، لا نجد حضوراً فاعلاً وملموساً لمنظمات المجتمع المدني في المشاريع التنموية والخدمية بالعراق، رغم انفتاح الابواب امامها منذ الايام الاولى للإطاحة بالنظام الديكتاتوري بهدف مساعدة مؤسسات الدولة الجديدة على تلبية حاجات المجتمع، وايضاً مساعدة هذا المجتمع على النهوض بواقعه الى ما هو أفضل.
بالمقابل نلاحظ حضور المنظمات الدولية في العراق وهي تقوم بما يجب على المنظمات العراقية المنشأ القيام به، وكان آخرها تدخل منظمة يونيسيف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة)، بالتدخل الى جانب الحكومة للعمل على تزويد 250 مدرسة بالطاقة الشمسية، وانقاذ آلاف التلاميذ من حرارة الصيف وظلام الشتاء، تحت شعار "المدارس الخضراء"
ليست المدارس وحدها تشكو النواقص الفاضحة؛ المراكز الصحية، والاسواق، والشوارع، والمواصلات، والبيئة، وغيرها كثير من المرافق والجوانب ذات الصلة بحياة المواطن، هي الاخرى تستنهض الجهود والمبادرات من جماعات عراقية منبثقة من رحم هذا المجتمع، ترفع شعارات العمل للتغيير والإصلاح في ظل تعثّر حكومي في الأداء على المستويات كافة، ونقلت المصادر عن مدير برنامج الاصلاح البيئي في اليونيسف علي الخطيب قوله إن المبادرة تتضمن إنارة اكثر من 250 مدرسة في عموم العراق، وايضاً بعض المؤسسات الصحية من خلال توفير الطاقة النظيفة.
فرصة التجربة الديمقراطية
بما أن ظهور منظمات المجتمع المدني تزامن مع ولادة التجربة الديمقراطية بفترة وجيزة، كان من المتوقع أن تحمل هذه المنظمات هموم الناس الخارجين للتوّ من حرمان وتخلف وكل الأوصاف السلبية للحياة الاجتماعية، لاسيما وأن معظم المبادرين لتشكيل هذه المنظمات كانوا مهاجرين خارج العراق بسبب معارضتهم لنظام صدام، بما خلق آملاً بالاستفادة من تجارب الآخرين لتحقيق بداية طيبة لحياة أفضل للعراقيين من خلال برامج تثقيف وتوعية على صعيد العلاقات الاجتماعية، والأسرية، و تكريس القيم الأخلاقية بما يساعد على النهوض بالواقع المعيشي تحديداً.
الدولة في مؤسستها التشريعية ضمنت حق عمل هذه المنظمات في الدستور في المادة 13، الفقرة(ج) على "الحق بحرية الاجتماع العلني وحرية الانتماء الى الجمعيات والاحزاب والانضمام اليها"، كما جاء في المادة 45، الفقرة(أولاً): "تحرص الدولة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني ودعمها وتطويرها بما ينسجم مع الأهداف المشروعة لها وينظم ذلك بقانون"، علماً أن هذا الاعتراف الدستوري جاء على خلفية الأمر الأداري الذي أصدره بول بريمر في الخامس والعشرين من تشرين الثاني 2003، بصفته الحاكم المدني لقوات التحالف (الاميركي) في العراق، بفسح المجال أمام تشكيل المنظمات غير الحكومية في العراق لإضفاء المصداقية على التجربة الديمقراطية التي بشّرت بها أميركا خلال قرار احتلالها العراق والإطاحة بنظام صدام.
وفي عام 2010 أصدر البرلمان العراقي قانون "مؤسسات المجتمع المدني" رقم 12 لتنظيم عمل هذه المنظمات غير الحكومية على أمل ان تكون حلقة الوصل بين الدولة والمجتمع، و ربما تكون نافذة للتعبير عن رأي وافكار الناس وطموحاتهم، ثم العمل على تحقيق ما يعبر عن النسبة الأعلى من الصالح العام بوسائل سلمية مشروعة.
مشكلة التسييس
الثقافة؛ هي السمة الأبرز لعمل منظمات المجتمع المدني في العراق، وفي كل مكان بالعالم، فعندما تتحدث عن السلم، والحرية، والنظام، والقانون، والعمل، فإنما هي تنشر الثقافة لكل هذا بين الناس، بما يمكنهم من ممارسة حياتهم بشكل أفضل في ظل علاقة تكاملية بينهم وبين مؤسسات الدولة، فعندما يعرف الفرد (المواطن) كيف يتعامل مع مفهوم الحرية؟ وكيف يعمل؟ وما هي حقوق المرأة؟ وكيف يتعامل مع القانون؟ فانه سيوفر على الدولة الكثير من الازمات والتصدعات في العلاقة بينها وبين افراد المجتمع، لاسيما في الجانب الاقتصادي والتنموي، كتوفير فرص العمل، والتدريب، وتطوير المهارات، و نشر ثقافة المنتج الوطني.
بيد أن مشكلة التسييس المتجذرة في العراق كانت من بين أهم اسباب تغييب هذه المنظمات عن مبادرات تتعلق بالتنمية والتدريب والتطوير، الى حدٍ كبير، بينما كان حضورها مكثفاً في "التطوير الديمقراطي"، وحرية التعبير، والمشاركة في الانتخابات، وقضايا تتعلق بالأمن والقانون، كلها ذات صلة بالسياسة والحكم، بما يعني أن الفوائد تصل الى النخبة السياسة الحاكمة وليس لشرائح المجتمع، حتى قضايا "حقوق المرأة"، هي الاخرى تصبّ في المشاركة السياسية، أكثر مما تخدم المرأة نفسها والأسرة، في حين إن أبرز مشكلة و أزمة كانت تتصدر المشهد منذ الايام الاولى لسقوط صدام هي؛ الاقتصاد والوضع المعيشي للناس، حيث الحرمان والتخلف وفقدان فرص العمل والسكن، وليس السياسة التي صدّعت رؤوس العراقيين طوال قرن من الزمن، ولم يكسبوا منها سوى الحروب والانقلابات والأنظمة السياسية التي حولت الانسان العراقي الى أجير يقتات من مائدة الحاكم وفق نظرية "العصا والجزرة".
وهذا ما لم تدركه بشكل كامل عديد منظمات المجتمع المدني في العراق التي تحمل هي نفسها ثغرات منهجية في طريقة عملها المستنسخ من أجواء اجتماعية وسياسية في الغرب، حيث المواطن هناك يعيش علاقة مميزة بينه وبين نائبه في البرلمان، و الوزير بالحكومة، بل وحتى أعلى سلطة في البلد، مما يسهل مهمة هذه المنظمات في نشر ثقافة المشاركة السياسية، والاسهام في مشاريع التنمية، بل وتجعل جماهير الشعب رقيباً مباشراً على أداء الحكومة، لاسيما في المجال الاقتصادي، وما يتعلق بالوضع المعيشي لهم، وهو ما يفتقده العراقيون.
فكان الأولى النزول الى أدنى مستوى بالواقع الاجتماعي بما فيه من مشاهد مأساوية لإجراء مسح ميداني كامل يكشف حجم المشكلة وجذورها ليُصار الى معالجتها، في مقدمتها العمل والسكن، قبل الحديث عن "المشاركة في تقرير المصير"، او "الاسهام في صنع القرار السياسي"، وهذا لا يعني إهمال الجانب السياسي بقدر ما يفترض حدوده كإطار عام ينظم حياة الناس، لا أن يكون كل شيء في حياتهم، كما هو الملاحظ حالياً، فالشاب –على سبيل المثال- يتم تثقيفه على معارضة الحكومة، وشجب الفساد، والتظاهر للتشهير بالاحزاب الفاسدة، في وقت هو يفتقد لروح العمل والابداع والتضحية لتغيير واقعه، ومن ثم ليكون بديلاً للفاسدين.
وبذلك تحولت العديد من منظمات المجتمع المدني من صف المواطن وما يعانيه ويريده، الى صف الاحزاب السياسية الحاكمة، لتكون واجهة جماهيرية مقبولة تأخذ على عاتقها التثقيف السياسي لهذا او ذاك، بنفس الشعارات المدنية؛ "حقوق الانسان"، و"حرية الرأي"، و"تمكين المرأة"، و"محاربة الفاسدين"، وإلا ماذا نفهم من الفارق الكبير لحجم وجود هذه المنظمات بين العاصمة بغداد ومدينة مثل العمارة، حيث ذكرت إحصائية إنه يوجد منظمة واحدة لكل (11,472) شخص في بغداد، بينما هنالك منظمة واحدة لكل (53,969) شخص في محافظة ميسان!
تُضاف ثغرة أخرى الى أخطاء بعض هذه المنظمات الغائبة عن مشاريع التنمية، إخفاقها في تكريس الثقافة الوطنية في شعاراتها وفي برامج أعمالها، وأن يكون "العراق أولاً" مع توفر كامل المصداقية على ارض الواقع، وملاحظة الاستحقاقات، فلا تتعارض تجارب الخارج مع تطلعات الداخل، وربما تكون لدينا عملية تكاملية لانجاح المشاريع التنموية عندما يعرف الانسان العراقي بأنه ليس بأقل من نظيره الفرنسي، او السويدي، او الكندي، إنما الفارق في الظروف والتطبيقات وحسب.
ولا ننسى أن المنظمة المنبعثة من رحم المجتمع العراقي أجدر وأقرب الى النجاح في مشاريعها التنموية والتوعوية من منظمة قادمة من اوربا او اميركا، فهي ربما تحقق نجاحاً يذكر، بيد أن قسطاً كبيراً من النجاح ستأخذه معها الى بلدها وحكوماتها التي سهلت لها إقامة العلاقات والوصول الى المفاصل الدقيقة في المجتمع العراقي، مثل المدارس والمراكز الصحية، والاسواق، والمزارع والمصانع التي تعقد الأمل على الشباب العراقي المنظم الى حوالي 5000 منظمة غير حكومية في العراق، وهو رقم مهول جداً يلقي بمسؤولية أخلاقية وحضارية للقيام بالواجب لتغيير الواقع المعيشي للانسان العراقي مما هو فيه من تخلف وحرمان وضنك.
اضف تعليق