كما أن هناك حاجة إلى الكتابة في اليوميات، والدوران في هذا الأفق، وإعطائه درجة عالية من العناية والاهتمام، لكونه يلبي حاجة شريحة كبيرة من الناس، في المقابل هناك حاجة أيضا إلى الكتابة في ما بعد اليوميات أو ما وراء اليوميات الذي يفتح على الناس أفق الثقافة والفكر والعلم...
لماذا لا أكتب في مجال اليوميات الذي يعنى بقضايا الصحة والتعليم والسكن والعمل والبيئة والمواصلات، وغيرها من القضايا التي تهم المواطن في حياته اليومية، وتلامس حاجاته الملحة والعاجلة، وتلبي رغباته ومطالبه المحقة والعادلة، وبشكل تجعل المواطن يشعر أن صوته ليس خافتا أو ضائعا أو مبتورا، وبطريقة تفتح فرص التواصل الفعال بين الكاتب والمواطن، وبصورة تضع الكاتب في منزلة يكون فيها صوت ضمير المواطن بحق ومصداقية، لا بمجرد الادعاء والفضولية.
لا يمكن الاعتراض على هذه الرؤية قطعا، ولا المجادلة والمحاججة فيها بالتأكيد، لا من جهة المبنى ولا من جهة المعنى، ولا من أي جهة أخرى، فهذه الرؤية هي رؤية صائبة ومتماسكة، ولا ينبغي التقليل من شأنها، والتنقيص من أهميتها وقيمتها، بل لا بد من الدفاع عنها، والتمسك بها، والثبات عليها، وذلك لأن الأصل في الكتابة هو تحقيق النفع العام للناس، فأنفع الكتابة هو ما ينفع الناس، وأضر الكتابة هو ما يضر الناس، التزاما بقاعدة انفع العلم ما انتفع به الناس.
ولعل من أقوى الخلفيات التي تستند عليها هذه الرؤية، وأكثرها تماسكا، الخلفية التي ترى أن الكاتب ينبغي أن يعبر عن حاجات الناس لا عن حاجاته، ويقدم حاجات الناس على حاجاته، ويعطي الأولوية لحاجات الناس على حاجاته، ويقترب من حاجات الناس قبل الاقتراب من حاجاته، وهكذا.
بعد هذه الرؤية بهذا المستوى من التماسك، والتي لا تقبل المجادلة والمحاججة، أجدد المساءلة: لماذا لا أكتب في مجال اليوميات؟
أمام هذه المساءلة يمكن النظر لها من جهات عدة، هي في مجموعها لا تخلو من وجاهة ومعقولية، وهذه الجهات هي:
الجهة الأولى: أن الكتابة في اليوميات من ناحية الأفق، تكاد تتحدد وتنحصر في دائرة الأفق المحلي، وهو أحد الآفاق الممكنة، لكنه ليس الأفق الوحيد، وليس الأفق الأوسع أيضا، وإنما هو الأفق الأضيق. وهناك من الكتاب من يرغب في التفاعل والاحتكاك مع الأفق الأوسع الذي يتخطى ويتجاوز الأفق المحلي، والوصول إلى الأفق العربي أو الإسلامي أو الأفق العالمثالثي، وحتى الأفق الإنساني والكوني، وهذه من الآفاق الممكنة.
الجهة الثانية: أن الكتابة في اليوميات هي أقرب إلى اهتمام الكاتب الصحفي الذي يتابع الحدث في لحظته ويومياته، في حين أن الكتابة في ما بعد اليوميات أو ما وراء اليوميات هي أقرب إلى اهتمام الكاتب المثقف والمفكر الذي يتابع الحدث لا من جهة يومياته، ولكن من جهة المعاني وما وراء المعاني في أبعادها الكلية والعامة التي تتخطى الأفق المحلي إلى الأفق الأوسع، وقد تصل إلى الأفق الإنساني.
الجهة الثالثة: ما قبل عصر النت وتطور شبكات الإعلام والتقنيات الرقمية العابرة ما بين الأمم والمجتمعات القريبة والبعيدة، كانت الصحف اليومية يكاد الزمن عندها يتحدد في يومياته، وينتهي عدد اليوم بصدور العدد التالي في اليوم التالي وهكذا، ومن ناحية الأفق كانت المتابعة لهذه الصحف تتحدد في دائرة الأفق المحلي، لكن هذه الصورة قد تغيرت بصورة جذرية في عصر النت وتطور شبكات الإعلام والتقنيات الرقمية التي فتحت أمام الصحف اليومية الأفق الإنساني الواسع، وجعلت منه أفقا متاحا وممكنا، ليس هذا فحسب بل ولا بد من التواصل والتفاعل معه، الأمر الذي يقتضي الحاجة إلى كتابات تنفتح على الأفق الإنساني والكوني، ولا تهمل في الآن ذاته الأفق العربي والإسلامي والعالمثالثي، خاصة وأن هذه الكتابات لم يعد زمنها يتحدد بالنسخة الورقية التي تسحب من الأسواق يوميا، فقد أصبح بالإمكان العودة إلى هذه الكتابات في أي وقت، وعند الحاجة إليها من خلال مواقعها الإلكترونية.
الجهة الرابعة: كما أن هناك حاجة إلى الكتابة في اليوميات، والدوران في هذا الأفق، وإعطائه درجة عالية من العناية والاهتمام، لكونه يلبي حاجة شريحة كبيرة من الناس، في المقابل هناك حاجة أيضا إلى الكتابة في ما بعد اليوميات أو ما وراء اليوميات الذي يفتح على الناس أفق الثقافة والفكر والعلم والمعرفة، بما يوسع من خيالهم وتفكيرهم وإدراكهم، وبما يلهمهم النور والحكمة والبصيرة.
هذه بعض إجابتي عن مساءلة لماذا لا أكتب في اليوميات!
اضف تعليق