ففي كل دورة انتخابية نرى ضعف الاقبال على صناديق الاقتراع، بينما كان يفترض اتساع المشاركة لإحداث التغيير المنشود، وأن ضعف المشاركة هي اعلى درجات الاغتراب السياسي؛ بسبب عدم المبالاة وشعور الفرد بأن الموضوع لا يعنيه، كما أن الاحباط المتولد من استشراء الفساد في مفاصل الدولة وانعدام الخدمات، فضلاً...
في الانظمة الديمقراطية التي تتخذ من الانتخابات الطريق الوحيد للتغيير السياسي وتداول السلطة بشكل سلمي، بعيدًا عن الثورات والانقلابات والتمرد وما شابهها، ربما ليس أمام مجتمعاتها أية خيارات أخرى للتغيير السياسي، الا أن تسلك طرق الانتخابات، إذا ما ارادت تغيير القابضين على السلطة او الاحزاب السياسية القابضة عليها، ولاسيما اذا ما كانت تلك الأحزاب تمتلك المال والسلاح والسلطة.
اي بمعنى اخر، يصعب ازاحتها بالطرق السلمية مثل التظاهر والاعتصام والاحتجاج؛ لأن اللجوء إلى هذه الطرق، يعد بمثابة انتحار، وسُترتكب ضد المحتجين أبشع الوسائل من مجازر واغتيالات وتسقيط إعلامي واجتماعي وسياسي بشتى الطرق، كما حدث في احتجاجات تشرين 2019 في العراق.
وفي كثير من الاحيان تُعَد مقاطعة الانتخابات، في جوهرها، فعلَ مقاومة سياسية، غالبًا ما تكون مقرونة بمطالب تنادي بتغيير السياسات وبدعوة لإجراء انتخابات أكثر نزاهة، ولتحقيق المساءلة. ومن ثم، هناك اعتبار آخر يجب مراعاته في تقويم فاعلية مقاطعة الانتخابات؛ وهو مدى توافر أجندة سياسية ذات مطالب محدّدة وخطوات لتحقيق هذه المطالب. فهناك من يؤمن بأن مقاطعة الانتخابات أو العزوف عنها، هو بمثابة سلوك سياسي يعبر عنه الناخب بالرفض المطلق للنظام السياسي وادواته وما ينبني عليه من مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، وأن مقاطعته لهذا النظام او القائمين عليه، تتجلى في الامتناع عن التصويت أو في عدم تحديثه لبياناته في سجل الناخبين أو رفض العملية الانتخابية بشكل عام، وهي بالفعل قد تكون كذلك، وتعبر عن حالة من الاحتجاج أو اليأس أو السخط الجماهيري على النظام السياسي أو المنظومة التي تديره أو على الاداء الحكومي والسياسي للأحزاب السياسية، لكن في الانظمة السياسية الديمقراطية أو الهجينة**، ولاسيما الانظمة التي لم تضع حد أدنى أو نسبة مئوية للمشاركة السياسية ونجاح العملية الانتخابية، فإن مقاطعة الانتخابات او العزوف عنها، ليست حلًا للمشكلة بقدر ما هي تعقيد لها، وسترتَّد نتائجها السلبية على المجتمع والدولة بشكل عام، وستعّضد من قوة القابضين على السلطة، وترفع من حجم المشاكل والازمات السياسية والاقتصادية والأمنية.
في العراق أصبح العزوف الانتخابي تعقيدًا مركبًا: فهو يبقي نفس الأحزاب بالميدان السياسي دون أي تغيير مع كل دورة انتخابية، ومن جهة أخرى، يؤدي إلى تعقيد أزمة الدولة والمجتمع على كافة المستويات (السياسية، الاقتصادية، الأمنية والاجتماعية)، فضلًا عن افشال النظام السياسي، على الرغم بأن الخلل ليس في النظام، بقدر ما يكمن في القائمين عليه؛ مما ينعكس سلبًا على أداءه بشكل عام.
ولاسيما أن المقاطعين والعازفين عن المشاركة في الانتخابات، يدركون جيدًا بأن الدستور لا يحدد نسبة مقبولة للتصويت، ويعتبر النتائج قانونية حتى اذا كانت نسبة المشاركة 5%. فضلًا عن ذلك، يدركون تمامًا بأن الامتناع عن الانتخابات ومقاطعتها أو العزوف عنها، هي غاية سياسية لأغلب الأحزاب السياسية؛ لكونها ستوفر الفرصة للمنتمين لأحزاب السلطة والمنتفعين منها في انتخاب مرشحيها، وهذا ما يمنح تلك الأحزاب المزيد من الاستبداد السياسي والانفراد بالسلطة والثروة والتلاعب بمقدرات البلاد، فضلًا عن ذلك، فإنهم سيوظفون فوزهم الانتخابي، إعلاميًا وشعبيًا ويسوَّقونه إلى المجتمع المحلي والعالم الخارجي، على أنه استحقاق انتخابي ممنوح من قبل كافة أطياف الشعب وأن الشعب أو المجتمع قد اختارهم كممثلين عنه.
وسيروجون لفوزهم الانتخابي كضد نوعي للأحزاب والحركات السياسية الناشئة، التي يتهمونها بأنها حركات (عميلة وملحدة). وهذا ما يبقي الدولة والمجتمع أسيران لهذه الأحزاب وطبيعة تقاسمها السلطة والنظام السياسي ومؤسساته. فمالم تكن هناك نسبة مشاركة عالية في الانتخابات من شأنها أن تحدث تغييرًا يضعف من غطرسة واستبداد احزاب السلطة، ويسهم بتحويل العملية السياسية نحو سكة الاصلاح واستعادة وطن يمتلك كل المقومات التي تجعل اهله يعيشون بكرامة ورفاهية، لا يمكن الحديث عن تغيير سياسي حقيقي، تغيير من شأنه أن يعالج الاختلالات البنيوية في الدولة العراقية والنظام السياسي على المستوى (الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأمني). فمن التداعيات أو الآثار المهمة التي تترتب على العزوف الانتخابي على المستوى السياسي يمكن قراءتها على ثلاث مستويات:
أولًا: الشرعية المنقوصة
يعد النظام السیاسي نتاج تفاعل وتجانس بین مختلف مؤسساته الرسمیة وغیر الرسمیة، وتعد الأبنیة الحكومیة هي الركیزة الأساسیة لاستمراریة النظام، فضلاً عن عملیة التفاعل الدائم ما بین النظام وبیئته الداخلیة "المجتمع"، ويكتسب النظام السياسي صفته الشرعية بالجوانب الشكلية المتمثلة في دستورية السلطة، والجانب الموضوعي المتعلق بقبول ورضا وقناعة الافراد عن السلطة أو الحكومة، التي يفرزها صندوق الانتخابات. إي أن هناك مؤشرات يمكن من شأنها أن تعطي الشرعية لأي نظام سياسي، كالمشاركة السياسية الفاعلة ودورها في إرساء البناء المؤسساتي للدولة، وهي بذات الوقت تعد عائقًا حقیقیًا أمام عملیة التنمية السیاسیة. وأنَّ ضعف المشاركة السياسية أو تدنيها قد يضعف شرعية النظام السياسي (محليًا وخارجيًا) ويمكن أن تتجلى مخاطر نقص الشرعية، من قبل أطراف داخلية وخارجية، وأن تتحين الفرص للإطاحة بالنظام السياسي والقائمين عليه.
ثانيًا: غياب الشعور بالمواطنة
إنَّ الحدیث عن الدیمقراطیة كنظام سیاسي یقضي بنا إلى التفكیر في العلاقة السیاسیة التأسیسیة الحاكمة بين النظام وقاعدته الجماهيرية، أي مدى علاقة النظام بالمواطنة، إذ یشكل مبدأ المواطنة ركیزة أساسية للمذهب الدیمقراطي والتنمیة الإنسانیة وأساس عملیة الاندماج الوطني في بناء الدولة القومية الحدیثة والمدخل إلى إرساء نظام حكم دیمقراطي حقيقي. ولترسيخ النظام أو البناء الديمقراطي في العراق یحتاج إلى تحولات عمیقة ومن أهمها تثبیت مبدأ المواطنة بكل دلالاتها كحق لأفراد المجتمع مما یمكنهم من المشاركة في العملیة السیاسیة، وبالتالي فإن غیاب هذا المبدأ أو محاولة تغییبه أو تهميشه، سوف ینعكس سلبًا على أي محاولة لبناء نظام دیمقراطي أكثر استقرارًا.
إنَّ المشاركة السیاسیة في العراق تعد أحد أهم المظاهر التي یرتكز علیها مبدأ المواطنة، وهذا من خلال المشاركة في العملیات الانتخابیة التي تسجل عزوفًا انتخابیًا ومقاطعة كبیرة؛ وذلك بسبب عدم قناعة الشعب بطبيعة وركائز العملية السياسية وادواتها والقائمين عليها؛ مما أدى إلى اهتزاز الثقة السیاسیة وعدم الشعور بالمواطنة. وعليه، أن الوصول لتحقیق الشعور بالمواطنة، أمر لا يمكن تحقيقه بالشعارات السياسية، مالم يكون هناك تغییر في طبیعة وبنية النظام السیاسي وطريقة إدارته، وترسيخ مبدأ المواطنة لدى الفرد والمجتمع وتعزیز آلیات تسمح بتوفر فرص المشاركة في الانتخابات واسترجاع الثقة المفقودة بین المواطن والنظام السیاسي؛ الأمر الذي من شأنه أن يسهم في تعزیز شرعیة النظام السیاسي.
ثالثًا: الاغتراب السياسي
يعد الاغتراب السياسي من اهم الآثار المترتبة على العزوف الانتخابي، إذ يتوالد شعور لدى اغلب المواطنين، ولاسيما عند فئة الشباب، حالة من اليأس وفقدان الأمل من القدرة على احداث تغيير سياسي أو حكومي أو في نتائج الانتخابات، او يتولد لديهم شعور بأنهم غير مؤثرين على القرارات الحكومية التي يصدرها صانع القرار، وبالتالي تحولهم الى متلقين فقط؛ مما يزيد من فرصة اعتزالهم عن الفعاليات الاجتماعية والتطورات السياسية، وفي ظل مجريات الاحداث في العراق وحالة عدم الاستقرار وتفشي الفساد والبطالة، ظهرت نخبة حاكمة واغلبية محكومة، وهذه النخبة تعيد نفسها بمسميات جديدة، مما مكنها من احتكار القرار السياسي دون تغيير؛ وهذا من شأنه أن يبعث برسائل سلبية نحو فقدان الامل بتحقيق الطموح السياسي، ففي كل دورة انتخابية نرى ضعف الاقبال على صناديق الاقتراع، بينما كان يفترض اتساع المشاركة لإحداث التغيير المنشود، وأن ضعف المشاركة هي اعلى درجات الاغتراب السياسي؛ بسبب عدم المبالاة وشعور الفرد بأن الموضوع لا يعنيه، كما أن الاحباط المتولد من استشراء الفساد في مفاصل الدولة وانعدام الخدمات، فضلاً عن حالات الفقر وارتفاع معدلات البطالة، أهم الاسباب التي تؤدي إلى عزلة الفرد عن بيئته وشعوره بالاغتراب السياسي.
إنَّ حالة الإحباط التي اصيب بها الناخب العراقي نتيجة لتكرار المشهد السياسي لأكثر من عقدين من الزمن، وفشل الحكومات المتعاقبة في توفير الخدمات الاساسية وحماية الدولة والمجتمع والمال العام، فضلًا عن التدخلات الخارجية، ولدت قناعة لدى الناخب العراقي بأن بعض الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة، لا يمكنها أحداث تغيير سياسي لصالحه وأمنه ورفاهيته، بقدر ما تبحث عن تعضيد وادامة مكاسبها السياسية والأمنية والاقتصادية مع كل دورة انتخابية جديدة، والعمل على أدامة وجودها لأطول فترة ممكنة؛ ونتيجة لذلك نرى أن الاغتراب السياسي، قد دفع بالمواطن العراقي لعدة صور: فمرة يدفعه إلى التحالف أو الانضمام للمجاميع الإرهابية والجهادية المتطرفة، كما حدث ابان اجتياح داعش للموصل وصلاح الدين وتكريت والرمادي، وطبيعة التحالف الذي حصل بين التنظيم وبعض الاهالي المستائين من السلوك السياسي للحكومات المتعاقبة، ومرة تدفعه إلى الانتماء للجماعات المسلحة، وهي ظاهرة منتشرة وواضحة في وسط وجنوب العراق، ومرة تدفع بالمواطن إلى الاحتجاج بشكل راديكالي على النظام والقوى السياسية الحاكمة، كما حصل في انتفاضة تشرين 2019، أو غيرها من الاحتجاج التي حصلت من داخل المنظومة السياسية المشاركة في إدارة العملية السياسية، وهو ما يؤدي بالمواطن إلى مقاطعة الانتخابات بكل أشكالها؛ مما ينعكس سلبًا على عملية التغيير السياسي ويجعل الانتخابات وما تفرزه من نتائج ومخرجات غير فاعلة وليست مؤثرة في القرار السياسي الداخلي والخارجي، وما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات وتحولات على النظام السياسي والعملية الديمقراطية في العراق، فضلاً عن تداعياته على المجتمع والدولة بشكل عام.
اضف تعليق