الدول العربية والإسلامية، ومنها العراق، الذي يملك جميع المقومات المساعدة على النجاح والتطور والتقدم، ما زال يعاني التخلف والتراجع بسبب سوء الإدارة والتخبط والإهمال في الوظيفة العامة المسؤولة عن تقديم الخدمات وتطوير مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية والزراعية والاجتماعية والخدمية. كما ان الدور الرقابي والتشريعي يعاني هو الآخر من الاختلال...
الوظيفة العامة تعني مجموع المسؤوليات والواجبات والاعباء التي يقوم بها الموظف في تقدم الخدمات العامة المكلف بها بإخلاص وكفاءة وصدق وامانة في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، والتي من شأنها ان توفر الراحة والرفاه والسعادة والتطور للفرد والمجتمع.
وبذلك يمكن القول ان المكلف بهذه الخدمة، في حال قيامه بدورة على أكمل وجه، بانه قد حقق النجاح في تحقيق اهدافه الوظيفية والإنسانية والتزامه الأخلاقي تجاه المجتمع، ويبقى هذا النجاح ضمن إطار الواجب الوظيفية الذي تقاضى من اجله المال (الراتب)، إضافة الى المنصب الذي ميزه عن الآخرين وجعله في واجهة المسؤولية امام الآخرين.
ان معرفة الموظف الذي يكلف بخدمة عامة بأهمية وقيمة ما يملك من أدوات تنفيذية وصلاحيات خولها له القانون تعزز من شعوره بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، وهي فرصة ثمينة من أجل تقديم الأفضل بعيداً عن الانحراف نحو الفساد والظلم والمحسوبية والإهمال وغيرها من مسببات التراجع وضياع الفرص نحو التقدم والازدهار والتطور.
الإطار العام للوظيفة
ولا تحول أهمية ومكانة العنوان الوظيفي ومن يشغله عن الهدف الرئيسي الذي استحدث له هذا المنصب، وهو تقديم الخدمة العامة للمواطنين بأمانة وإخلاص وكفاءة عالية، كما ان أي استغلال او تقصير او اهمال –بقصد ام غير قصد- للمنصب قد يسبب اهدار الفرص او ضياع الحقوق او تراجع الخدمات، ينبغي ان يعرض المقصر الى الحساب والعقاب ان ثبت عليه التقصير في الواجب.
هذا هو المنطق والسياق الطبيعي للوظائف العامة، ولا فرق فيها بين العناوين والمناصب المختلفة (رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، وزير، نائب، قاضي، محافظ، عضو في مجلس المحافظة، رتبة عسكرية...الخ)، فالكل يخضع للإطار العام للوظيفة الذي حدد الخطوط الرئيسية من خلال:
1. وجوب تقديم الخدمات العامة للمواطنين مقابل شغل هذه الوظائف (ذات الدرجات الخاصة والعادية) التي تمنحهم بعض الامتيازات التي نص عليها القانون الوظيفي لقاء الخدمة التي يقدمونها.
2. يخضع الموظف لجميع القوانين النافذة التي حددت حقوقه وواجباته.
3. تقديم الخدمات المسؤول عن تقديمها من خلال وظيفته هي واجب على الموظف (مهما كان منصبة او عنوانه او درجته الوظيفية)، بالتالي لا يستحق الشكر او الثناء والمديح على أداء هذا الوجب الا في حال تقديم جهد استثنائي او إضافي يستحق عليه الشكر.
4. لا يحق لمن يمارس عمله في وظيفة عامة ان يستغل منصبة او وظيفته في تحقيق كسب مادي او معنوي غير مشروع، اثناء أداء الوظيفة او خارجها.
5. ينبغي اختيار الموظف المكلف بخدمة عامة، خصوصاً في الوظائف المهمة التي يعودها نفعها على عموم المجتمع، ضمن مواصفات خاصة تؤهله من القيام بواجباته على أكمل وأفضل وجه، بعيداً عن الوساطات والمحسوبية والفساد في اختيار الفاشلين والفاسدين من اجل مصالح خاصة.
بين النجاح والفشل
من أبرز أسباب تطور بعض الدول هو احترامهم الشديد للوظيفة العامة، وعدم مخالفة الأنظمة والقوانين التي شكلت اطارها العام، والتفريق بينها وبين شخص المكلف بها، خصوصاً انتماءاته الأخرى التي تعتبر خارج سياقه الوظيفي، سواء أكانت سياسية ام حزبية ام دينية ام اجتماعية...الخ، وان أي تداخل بينهما خارج إطار القانون سيعرضه للمسألة القانونية وربما المحاكمة في حال ثبوت تقصيره، وبالتالي قد يؤدي الى ضياع مستقبلة السياسي او الاجتماعي او الحزبي خصوصاً وأنها خاضعة باستمرار الى الرقابة الشعبية والحكومية ووسائل الاعلام.
هذا الحرص الشعبي والحكومي الغربي على حماية الوظيفة العامة وابعادها عن شبح الابتزاز والاستغلال والسرقة والمغانم، وفر لهم الكثير من الجهد والوقت والهدر في المال العام، وحقق لهم التقدم الاقتصادي والرفاه والتطور، رغم الإخفاقات والتدهور الاجتماعي والأخلاقي الذي تعاني منه هذه المجتمعات، الا انها استطاعت النجاح في هذا الملف.
الغريب ان الدول العربية والإسلامية، ومنها العراق، الذي يملك جميع المقومات المساعدة على النجاح والتطور والتقدم، ما زال يعاني التخلف والتراجع بسبب سوء الإدارة والتخبط والإهمال في الوظيفة العامة المسؤولة عن تقديم الخدمات وتطوير مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية والزراعية والاجتماعية والخدمية.
كما ان الدور الرقابي والتشريعي يعاني هو الآخر من الاختلال في ممارسة دورة الطبيعي والمرسوم ضمن السياسيات العامة والتي من شأنها الارتقاء بمستوى الخدمة المقدمة للمواطن، ويأتي هذا الإخفاق نتيجة لتراكم التجارب الفاشلة التي مرت على البلاد طوال عقود في ظل غياب الرؤية التطويرية الواضحة او الرغبة في عملية التغيير واجراء الإصلاحات الحقيقية.
ان أسباب هذا الفشل في إدارة الوظيفة العامة بطريقة مهنية واحترافية يعود الى جملة من الأسباب لعل أهمها:
1. وجود ثقافة سلبية تجاه الوظيفة العامة باعتبارها مغنم ومكسب خاص وليس باعتبارها حق عام يمارس من خلالها المكلف الصلاحيات المخول بها من اجل التطوير والارتقاء وتقديم أفضل الخدمات للجميع.
2. الفساد والرغبة في الكسب غير المشروع واستغلال المنصب للصالح الشخصي او لفئة محدودة من الافراد او الجماعات، في مقابل الإهمال المتعمد للخدمة العامة واهدار الفرص.
3. الاختيار للمكلفين لا يتم عبر آلية علمية ومهنية واحترافية، وانما يتم عبر الوساطة او المحسوبية او الرشى، لتحقيق مصالح معينة، وبالتالي تدمير كل مخرجات الوظيفة العامة وعدم تحقيق النجاحات المطلوبة كون المتصدي للمسؤولية لا يتمتع باي خبرة او كفاءة او نزاهة في الأداء الوظيفي.
4. ضعف الأداء الرقابي والتشريعي، وربما ابتعاده عن دوره الحقيقي في المحاسبة او تطوير التشريعات ومعالجة الإخفاقات المتكررة أدى الى تفاقم الازمة.
5. ابعاد منظمات المجتمع المدني عن ممارسة دورها الحقيقي في التقييم والتطوير والرقابة ساهم في استمرار الفشل والتخبط في القرارات، خاصة وان هذه المنظمات تعتبر أحد اهم روافد المعرفة القادرة على التشخيص الدقيق وتقديم النصح والإرشاد.
والخلاصة التي يمكن قولها هي ان الوظيفة العامة ومن يكلف بها هي الأساس في تطوير جميع الخدمات والقطاعات الأساسية للدولة، وهي اللبنة الأولى التي يمكن من خلالها بناء حضارة إنسانية متكاملة توفر جميع مقومات السعادة والرفاه والرقي للمجتمع، وبالتالي لا يتحقق الاستقرار والامن والتقدم الا بتوفر البيئة الملائمة لها من اجل ضمان النتائج والمخرجات الصحيحة.
* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com
اضف تعليق