ما كشفته أحداثُ غزة هو الانحياز الأعمى في الغرب الى جانب إسرائيل والازدراء المكشوف لكل ما يمتُّ بصلة الى عالم المسلمين، النتيجة التي ستترك أثرها البعيد والعميق هو تفكك منظومات القيم التي وضعها الغرب نفسه، وانحدار القواعد التي تأسس عليها النظام الدولي...
تتركُ الأحداثُ الكبرى ندوبها العميقة في علاقات الشعوب وفهمها لبعضها الآخر، ويكتشف الناس مقدار النجاح وعدمه في جهودهم لشرح وتبيين مواقفهم ومصالحهم وقضاياهم وطموحاتهم، لا شيء أعقد في العلاقات الدوليَّة من سوء الفهم المتبادل والريبة العميقة، فهي تبني جدراناً من الصد والتقديرات الخاطئة وتبطئ من سير التعافي من حالة العداء والكراهية الى حالة الاحترام والتقدير، ومثلما يسعى الإنسان الفرد الى تلبية حاجات البقاء والاحترام والتقدير والانتماء فردياً فإنَّ الشعوب والثقافات تسعى هي الأخرى لتلبية حاجات التقدير والفهم والاحترام.
في ما يخص علاقات عالم الإسلام بعالم الغرب، فقد احتاجت هذه العلاقات الى قرونٍ من الجدل والنقاش الثقافي والفكري لكسر طبقاتٍ من آثار الحروب والعداء والخوف المتبادل والكراهية المؤطرة بمفاهيم وتصورات ومصطلحات دينيَّة وثقافيَّة، في العقود الأخيرة ربما أمكن القول إنَّ الغرب الرأسمالي بدأ يتراجع عن تصوراته الجامدة وأحكامه الثقيلة بفعل الانفتاح الثقافي وتحسن العلاقات بشكلٍ عام، كان الأمل معقوداً على المثقفين والنقاد وصناع المحتوى الثقافي والمفاهيمي في تبديد الخطوط السوداء في الذاكرة الاجتماعيَّة والسياسيَّة بما يسمح بمزيدٍ من الفهم المتبادل وتشجع على الالتقاء في منتصف الطريق، لكنَّ الأحداث السياسيَّة تنجحُ عادة في إعادة بناء جدران الخوف والكره والأحقاد عندما يفشل أهل الفكر والثقافة في إقناع صنَّاع السياسات اللاهثين وراء المصالح الآنيَّة والمواقف المتسرعة.
ما حصلَ ويحصلُ من تداعيات في حرب إسرائيل على غزة، كشف الى حدّ الدهشة عن طويَّة الغرب المنحاز الى العنصر اليهودي في كل الحالات، وبلا نقاش، يمكن فهم التحيز الرسمي للحكومات والاحزاب والساسة والبرلمانات، ومنطق (الكيل بمكيالين) وسقوط ميزان العدالة (الإنساني) بين دم (يهودي) وآخر مسلم، لكن غير المفهوم هو أنْ يلوذ المفكرون والفلاسفة والمثقفون والأدباء والفنانون وكتاب الأعمدة والمحللون وراء صورة نمطيَّة مؤطرة (بظلاميَّة ووحشيَّة التطرف الإسلامي!) وقياس ما عملته حماس في هجومها المباغت يوم 7 اكتوبر بما عملته القاعدة وداعش.
كان الموقف مشيناً ومحزناً في آنٍ واحدٍ أن ْيمنح ساسة الغرب شيكاً على بياض لآلة إسرائيل العدوانيَّة الجهنميَّة لتمارس القتل المشرعن خلافاً لكل منطقٍ بشري تحت ستار (حق إسرائيل في الدفاع عن وجودها)، بينما لا يجد الفلسطيني الحق ذاته في العيش بأمنٍ وسلامٍ وكرامة.
كانت الصورة قاتمةً وسوداءً في الغرب الذي لبس نظارات سوداءً ولاذ بالصمت عمَّا كان يفعله الجيش الصهيوني ماضياً وحاضراً، لولا أنْ كسر قسمٌ من يهود أميركا هذا التابو وتظاهروا رافضين أنْ تمثلهم سياسات حكومة اليمين الصهيونيَّة وتواطؤ إدارة بايدن معها، رويداً رويداً تشجع الآخرون وبدأت صورة الرأي العام الغربي تتغير بموقفٍ من هنا وآخر من هناك، الى أنْ بدأت معالم الانحياز تعتدلُ قليلاً ويصبح ضغط الرأي العام أقوى على السياسيين، كان الجمهور الغربي ينتظر موقف مثقفيه وشروحاتهم لكي يستدلّ على الطريق، ما يُؤسفُ له أنَّ الأعمَّ الأغلبَ من هؤلاء المثقفين لاذوا بالصمت تحيزاً أو خوفاً على مواقعهم بسبب الموجة المكارثيَّة التي تشكلت بسرعة بفعل (طوفان الأقصى).
ما كشفته أحداثُ غزة هو الانحياز الأعمى في الغرب الى جانب إسرائيل والازدراء المكشوف لكل ما يمتُّ بصلة الى عالم المسلمين، النتيجة التي ستترك أثرها البعيد والعميق هو تفكك منظومات القيم التي وضعها الغرب نفسه، وانحدار القواعد التي تأسس عليها النظام الدولي، هذا ما انتبه إليه الباحث الإيراني -الأميركي الدكتور ولي نصر، فأحد مداميك القوة التي شيد بها الغرب منظومته المهيمنة على العالم كانت المفاهيم الأخلاقيَّة التي بنى لها منظمات ومؤسسات تحرسها وأراد لها أنْ تكون معياراً وحكماً لكل ما يجري في العالم، مع اندلاع أحداث غزة بدت الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمة الصحة العالميَّة واليونيسيف والمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة والصليب الأحمر عاجزة وساكتة عمَّا يجري من إبادةٍ وإجرامٍ ضدَّ الجنس البشري، عُذرُ الغربيين هذه المرة كان تمترس حماس بالمدنيين وهو العذر ذاته الذي قالت به القاعدة وداعش وأخواتهما في عملياتها الإرهابيَّة، ما عابه الغربيون على التيار الظلامي المتشدد عند المسلمين وجدوا له عذراً عند الصهاينة، فكان ازدواج المعايير هو الشاهد على جريمة الحرب التي غطاها الغرب في غزة وسكت عنها الضمير الأخلاقي واللسان الثقافي.
مشكلة المسلمين الكبرى كانت استعارة النماذج الثقافيَّة رغم شعورهم بتحيزها، فقد هيمن المشروع الغربي على العالم وصار قدراً مقدوراً، ومع القناعة بالتوجه الى شرق الأرض ونفض اليد تدريجياً من الغرب لكنَّ الشرق عاجزٌ حتى الساعة من بناء أنموذجه الثقافي والأخلاقي والقيمي، الشرق نجح اقتصادياً وعسكرياً ببزوغ نجم القوة الصينيَّة لكنَّ عطاء الصين وعموم الشرق حضارياً ما زال محدوداً وغير مشعٍ ولا جذاب، لقد تبدلت مراكز القوة الماديَّة أو هي في طريقها الى التبدل، لكنَّ الهيمنة الثقافيَّة التي تخدمُ المشروعَ السياسي الاقتصادي الراسمالي ومنظوماته المعرفيَّة ما زالت بيد الغرب، وما زالت هذه الهيمنة تغطي معالم القبح فيها بأعذارٍ واهية، كمنع معاداة الساميَّة مثالاً، إذ تعاقب جامعات ومؤسسات إعلاميَّة وأفرادٌ بدعوى معاداة الساميَّة، وتهيمن أجواءٌ من الخوف تمنع البوحَ والتصريحَ بالرأي، بينما يستخدمُ الغربُ حريَّة الرأي والتعبير قيمة عليا ومبدأ أخلاقياً في علاقاته مع الآخرين.
اضف تعليق