إن التحدي الأكبر أمام الشعب الفلسطيني ليس الكيان الصهيوني الغاصب، كما ليس ما يواجه الشعوب المضطهدة؛ هي الأنظمة الديكتاتورية، ولا حتى الجماعات الارهابية والتكفيرية، إنما هو في منهج التعامل مع هذه التحديات، وإلا فما ننتظر من الفكر الصهيوني الموغل في العنف والخديعة منذ أبعد بعيد؟ وما نتوقع من ديكتاتور لا يفكر سوى بوجوده في قمة السلطة؟...
ما يجري اليوم في قطاع غزّة يستوجب أكثر من تضامن بالقول عبر منصات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الاعلام، بل يتجاوزه الى العمل على أرض الواقع.
مشاهد موت الأمهات أمام أعين اطفالهنّ، واستخراج الاطفال الصغار موتى من تحت الانقاض، فضلاً عن إزهاق أرواح مئات الاشخاص المدنيين من سكان المدينة بفعل القصف الجوي الاسرائيلي، ثم تطويقها وحرمانها من الماء والكهرباء والدواء، وفيما بعد التهديد بإخلاء المدينة كاملة، وفرض التهجير القسري، كل هذا ينسف مقولة "استمراء المأساة"، إن جاز لنا التعبير، بذريعة أنها ليست المرة الأولى التي نشاهد فيها موت الأمهات في غزة، وعموم فلسطين المحتلة، وايضاً موت الاطفال والمدنيين برصاص وصواريخ القوات الاسرائيلية، لأن المعيار في هذه القضية بات اليوم بين الحق والباطل، فحتى لو تكررت جرائم القتل عشرات، بل مئات السنين، يبقى المقتول على أرضه صاحب حق، والقاتل الغاصب على باطل، وهذه حقيقة لا اعتقد يماري فيها مُنصف.
التضامن ثقافة
عندما نتجاوز القول الى العمل يكون التضامن ثقافة مجتمعية تؤدي الى نتائج ملموسة بفضل ابتكار أقصر الطرق وأفضلها لإيصال مواد الاغاثة، والسعي في كل الاتجاهات لتعبئة الرأي العام الاسلامي والعالمي، يشارك في هذا المجهود؛ الطالب الجامعي، والكاسب، والمرأة، والعلماء والخطباء والأدباء، ومختلف شرائح المجتمع، بل حتى الطفل ايضاً؛ له دورٌ مؤثر و مجرّب في إثارة المشاعر الانسانية، عندما يشارك برسوماته، او بأعماله اليدوية، بل وحتى في حصالته المالية الصغيرة.
في مقال سابق ذكرت أن التضامن مع المظلوم والمضطهد يكون فريضة؛ ليس فقط أخلاقية، ودينية، وإنما حضارية ايضاً، عندما يجلس افراد العائلة في المساء مع اقداح الشاي، والفاكهة، ويتابعون ما يهمهم في "الموبايل" في جو آمن، مع توفر مستلزمات المعيشة بالشكل المتوسط على الأغلب، وعند الصباح ينطلق كل واحد منهم الى حيث طلب العلم او طلب المال دون أن يشكو أحدٌ من تهديد في الخارج، على نفسه او وظيفته، فان ثقافة التضامن سترسم له صوراً محتملة ربما يتعرض لها يوماً ما، فكما يريد هو أن يقف الآخرون مع معاناته وقضيته، عليه هو ايضاً أن يستعد دائماً ليكون مع الآخرين، وهذه معادلة انسانية ثابتة يقرها العقل والفطرة والدين.
وكما أن التضامن، ومواساة الآخرين في آلامهم ومعاناتهم، يمثل ثقافة للفرد وللمجتمع، فان الانطوائية والاعتكاف على الذات يمثل ثقافة ايضاً، استجابة لبعض الافكار الداعية للاهتمام بالذات والفردية، وعدم "التورط بمشاكل الآخرين" بذرائع ليس هنا محل البحث فيها، كلها تسعى للإيهام بعدم جدوائية إنفاق المال والوقت والجهد الذهني والعضلي لرفع المعاناة عن الآخرين، فمادام وجود الانسان هو الأهم في حياته، وعليه أن يصوغ أفكاره وسلوكه وحياته، وايضاً؛ ثم يكون هو الوحيد المسؤول عن مصيره، فما الداعي ليكون مسؤولاً عن الآخرين، فليفكروا هم ايضاً كما يفكر هو، وإذن؛ جميع افراد البشر، يخوضون تجارب الحياة القاسية بمفردهم، ثم يخرجون منها منتصرين او مهزومين بمفردهم ايضاً! ومن يتحدث عن النجاة عليه ان يجرّب المعاناة والألم حتى يصل الى شاطئ الأمان!
إن التحدي الأكبر أمام الشعب الفلسطيني ليس الكيان الصهيوني الغاصب، كما ليس ما يواجه الشعوب المضطهدة؛ هي الأنظمة الديكتاتورية، ولا حتى الجماعات الارهابية والتكفيرية، إنما هو في منهج التعامل مع هذه التحديات، وإلا فما ننتظر من الفكر الصهيوني الموغل في العنف والخديعة منذ أبعد بعيد؟ وما نتوقع من ديكتاتور لا يفكر سوى بوجوده في قمة السلطة؟
علماً إن ثقافة تحمل المسؤولية بين أفراد الأمة لا يحول دون قصف الطائرات الاسرائيلية للمدنيين في غزة، ولا يلجم القوات الاسرائيلية عن التفكير باجتياح غزة في ظل التهديدات المستمرة، ولكنه يؤسس لقاعدة الانتصار على المدى البعيد عندما تتبلور الصورة في ذهن الانسان العراقي والسعودي والتركي والمصري والاندونيسي والماليزي بأن في أرض فلسطين قضية شعب تم اغتصاب أرضه من قبل عصابات الصهيونية، وأن اسرائيل دولة لم تنشأ في ظروف طبيعية مثل سائر دول العالم، فهي قائمة على الخداع والتضليل والإرهاب.
وفي مرحلة لاحقة يكون هذا الفهم قاعدة لحراك جماهيري واسع من شأنه التأثير على القرار السياسي، عندما نجد آثار هذا الفهم والتضامن في المدارس والجامعات، والمتاجر، والاسواق، والحسينيات، والمراكز الثقافية، فضلاً عن الاحزاب والتنظيمات السياسية ذات العمق الجماهيري، وهذا ما فعله الصهاينة تحديداً طيلة العقود الماضية، عندما نشروا مظلوميتهم المزعومة في جميع أرجاء العالم، وأنهم الضحية أمام الجماعات الفلسطينية المسلحة، فهم قبل أن يتسلموا الدعم المالي العسكري الاميركي، ضمنوا التأييد الجماهير الاميركية، لذا فان مليارات الدولارات التي ترسلها الادارات الاميركية المتعاقبة طيلة العقود الماضية، جزءٌ منها متشكل من الضرائب المستحصلة من جيوب المواطنين الاميركيين، تصلهم على طيب خاطر من اميركا؛ حكومة وشعباً.
بالمقابل؛ نجد الدعم المجان دون دعوة من الاسرائيليين انفسهم في أوساط بعض المثقفين العرب وهم يتحدثون "دولة مؤسسات في اسرائيل"! ولابد من التفكير "بموضوعية" إزاء الحرب بين فصائل المقاومة الفلسطينية والكيان الغاصب، أي؛ لا مجال لاحكام مسبقة رغم الحقائق التاريخية.
هذه الصورة الذهنية تحول بين اصحابها ومبادرات جمع مواد الإغاثة، أو تسجيل مواقف داعمة في الشوارع بالهتاف بصوت عالٍ تضامناً مع صرخات الفلسطينيين المضطهدين، والحديث بلغة الحقائق والأرقام عما يجري في غزّة وسواها من الاراضي المحتلة، ونشر هذا الحديث في واسائل الاعلام المختلفة.
اضف تعليق