q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

الصدفة العجيبة

الصدفة هي: التزامن الملحوظ للأحداث أو الظروف التي لها علاقة سببية واضحة بعضها مع بعض. فقد يُنظر لها على أنها أعمالٌ خارقة للطبيعة أو غامضة، أو يُنظر لها من زاوية الإيمان بالقضاء والقدر؛ لذلك فهي تجمع ما بين علم الاجتماع الشعبي وعلم الفلسفة...

الصدفة، هي تاريخ فلسفة؛ كما يرى بعض الفلاسفة، لها العديد من المعاني المختلفة، ويمكن أن نتعلم من هذه الكلمة من خلال النظر إلى نقيضها. وبالصدفة أيضا يمكن تحديد أضدادها أو عدم المفاجأة باعتبارها فكرة ذاتية. والعديد من الأحداث في الحياة اليومية هي مصادفات، والكون بأكمله عبارة عن بحرٍ شاسع من العشوائية، والكثير من الصدف. وهي تقع في دائرة المفارقات، وتضعنا أمام أسئلة استفهامية، تُغيّر مصائرَ وتُحدث منعطفات.

فالصدفة هي: التزامن الملحوظ للأحداث أو الظروف التي لها علاقة سببية واضحة بعضها مع بعض. فقد يُنظر لها على أنها أعمالٌ خارقة للطبيعة أو غامضة، أو يُنظر لها من زاوية الإيمان بالقضاء والقدر؛ لذلك فهي تجمع ما بين علم الاجتماع الشعبي وعلم الفلسفة.

ومع ذلك يقولون بأن الصدفة غير محددة، وهي دائماً غامضة على الإنسان. وليست معقولة. وأنها قد تجلب السعادة، وقد تجلب الشقاء. وكل ما هو (بخت) هو صدفة؛ لكن ليست كل صدفة (بختاً)، لكن بعض الفلاسفة يعللونها بالعلة التي لا يعقلها العقل الإنساني، وبعضهم الآخر يعللونها بالمعلول.

يبدو أن الصدفة وحدها هي التي تقرر مصائرنا التي بقيت لغزاً من الغاز العلم والحياة. لذلك فان الحياة، كما تبدو، سلسلة من المصادفات الغريبة؛ فيها إنجازات وإخفاقات، وعلامتها البارزة هي أنها تأتي من دون تخطيط سابق، وليست لها علاقة سببية واضحة، وإلا كانت الأحداث محض صدفة على الأطلاق.

ولو قرأت عن الصدفة في حياة كبار الكتاب والعلماء، وكيفيّة اكتشاف الاختراعات والنظريات العلمية؛ لقلت إن الصدفة هي التي تحكم الكون ومستقبله. وكأن الصدفة أم الاختراع؛ فالبنسلين، وفرن المايكروويف والبلاستيك، والأشعة السينية، والزجاج الآمن، والفياغرا، والكينين المضاد للملاريا، وجهاز تنظيم ضربات القلب، ومعجون الأطفال، والأنسولين، والمطاط، ورقائق الذرة، والفازلين، والكبريت، والبارود وغيرها من الاختراعات هي التي صنعتها الصدفة.

والصدفة وحدها هي التي علَّمتنا سر الجاذبية في الكون، فكانت تفاحة (إسحاق نيوتن) الأكثر شهرة في حكايات الصدفة العجيبة في العالم، حين سقطت تفاحة على رأسه في عام (1666م)، وهو جالس في حديقة منزله؛ ما جعله يُفكر في لغز سقوطها للأسفل؛ حتى توصل لنظريته في الجاذبية الأرضية، ثم يضمن مكانته في التاريخ إلى الأبد.

وبعيداً عن الفيزياء والفلك والرياضيات ونظريات الجاذبية وقوة البخار، فإن الصدفة أيضاً كانت سبباً في شهرة الأدباء ورجال الإعلام والفن، لكن الفارق هو بين الثابت والمتحرك، حيث القوانين العلمية تبقى أمداً أطول في تفاصيل الحياة؛ بينما الثاني يحتاج إلى مثابرة وذكاء وموهبة وتحدٍّ متجدد مع كل عمل له؛ لإدامة الحضور. وهنا تكون الصدفة تتويجاً لمثابرته ودأبه.

شخصياً، لم أكن أتوقع يوماً أن أدخل إلى عالم الإعلام، مثل الكثيرين، لا في البال ولا في الأحلام، وليست لي جرأة القول، كما يقول البعض، بأنني إعلامي منذ أن كنت في بطن أمي، أو أن جيناتي تحمل الحمض النووي للإعلام، أو جاء حلم الإعلام منذ الطفولة المبكرة وأنا أشرب قنينة حليب النيدو. ربما حدثت بعض الأحلام والهلوسات للبعض بسبب التأثير الطارئ، لكن الحقيقة أن الكثير منا ذهب إلى ما لا يرغب أو يتوقع من الوظائف، لسببٍ بسيطٍ هو أن المفاسد والغيبيات والمحسوبية في أوطاننا لا تجعلك مخيّراً بما تريد.

ما أكثر قصص الأحلام الخادعة التي كنا نحلم بها ونتمناها، لكنها كانت كارثية على الكثيرين، فهذا الذي كان يحلم أن يكون عالِماً في الفيزياء بعد عودته للوطن؛ يجد نفسه في مخزن الطحين في وزارة التجارة!، وآخر جاء مُتبختراً من الخارج يحمل دكتوراه في التخطيط الاقتصادي؛ يجد نفسه في علوة جميلة يخطط في تمرير السلع الفاسدة للناس، وكاتب مبدع في الثقافة والفنون يحلم أن يكون مواطناً تنويرياً صالحاً للعيش، ويتنفس هواء الحرية؛ فلن تجده إلا في بيوت الإيواء، أو ينام تحت مساكن متهالكة، أو يرقد في مستشفى يَعُد أيامه، وهو مصاب بالجلطة وبشللٍ في الجسد والعقل.

ونجد العكس أيضاً في قصص الحياة والوطن، فها هي جيوش من الجهلة والأغبياء، قادتهم الصدفة أن يتبوأوا المراكز المتقدمة في الحكم والسياسة والاقتصاد والمال. صار لهم القدح المعلا في الحياة؛ فكان أجمل أحلامه أن يكون مشرفاً للقمامة في أمانة بغداد!، أو صاحب مطعم صغير للفلافل!، أو موظفاً في دائرة بسيطة يقبل الجلوس على كرسي خشبي قديم!

كان حلمهم لا يتعدى أن يمتهن جمعَ القناني البلاستيكية من المزابل، وشراء نخالة الطحين والخبز اليابس من البيوت، ويعمل بوظيفة (حملة دار) يختلط فيها الإيمان بحرام تزوير الجوازات والوثائق، وبعضهم وجد في تهريب الأغنام والسكاير وقطع الطرق والابتزاز طريقاً لجمع الثروة، ومنهم من امتهن السرقة والقتل وقراءة الكف وطرد الشياطين من الأجسام! كلهم كانوا يحلمون؛ لكنهم لم يتوقعوا يوماً أن يدخلوا قصور الرئاسة والبرلمان ومجالس السياسة، أو يكونوا من أصحاب المليارات والتريليونات!

وإذا كانت الصدفة أو الحظ قد قدمت للبشرية أرقي المخترعات التي ساهمت في تطور البشرية، فإن الصدفة ساقت لنا أينشتاين عراقي، قادته (الصدفة) إلى أن يقود العراق بعقل الماضي وخزعبلاته، وأن يكون وزيراً بعد أن كان بقالاً للسلع والخضروات!، وسفيراً بعد أن كان بنجرجياً لإطارات السيارات، وسياسياً بعد أن اخترع نظرية الجاذبية الطائفية وملاحقها السرية. صار القاتل بطلاً، والجاهل خبيراً، والعميل مجاهداً، والطائفي من التخصصات النادرة والمطلوبة.

.....................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق