تتصاعد هذه الأيام نغمة الحديث عن انهيار الغرب (الحضاري) وتراجع قوته عالميا لصالح قوى الشرق الصاعدة، الصين والهند، تراهن قوى عديدة بدوافع عاطفية انفعاليَّة أو لأسباب أيديولوجية - دينية، على التقدم المضطرد، الذي يحصل في شرق العالم اقتصاديا وتقنيا، لتبشر نفسها والآخرين، بأن أوان أفول الغرب يقترب كثيرا، وأن عالما جديدا بأقطاب متعددة قيد النشوء والارتقاء...
تتصاعد هذه الأيام نغمة الحديث عن انهيار الغرب (الحضاري) وتراجع قوته عالميا لصالح قوى الشرق الصاعدة، الصين والهند، تراهن قوى عديدة بدوافع عاطفية انفعاليَّة أو لأسباب أيديولوجية - دينية، على التقدم المضطرد، الذي يحصل في شرق العالم اقتصاديا وتقنيا، لتبشر نفسها والآخرين، بأن أوان أفول الغرب يقترب كثيرا، وأن عالما جديدا بأقطاب متعددة قيد النشوء والارتقاء.
قبل سنوات انتبه المفكر السياسي الأمريكي المسلم من أصل هندي، فريد زكريا إلى هذه الأصوات المحذرة والمنذرة من تراجع الولايات المتحدة اقتصاديا، والمصاعب التي تواجهها في تمويل جيوشها وآلتها العسكرية ودبلوماسيتها الناعمة والخشنة في العالم، قام زكريا بذهنية العارف المدقق، بعقد مقارنات بين أقرب القوى، التي تنافس وتهدد زعامة أمريكا للعالم وقدراتها الاقتصادية والتقنية، وبين قدرة بلاده على إدامة زخم الاحتفاظ بقوة الإبداع والانتاج والتطوير والإدارة، ليجعلها في صدارة العالم لفترة قادمة، رغم بعض التعثر الاقتصادي المتمثل بارتفاع الدين العام، وتراجع القدرة على التنافسية، وصعوبات التمويل والإنفاق على القضايا الحيوية، علاوة على صعوبة إدارة شبكة النفوذ وشن الحروب الاستباقية، بعد تجارب حربي افغانستان والعراق والتلكؤ الحاصل في أوكرانيا حاليا.
طمأن زكريا القلقين على مستقبل القاطرة الأمريكية، بان الولايات المتحدة ما زالت في المقدمة في محاور كثيرة، وهي المحاور التي تمكنها من الاحتفاظ بمقود الزعامة لفترة قادمة، مع الاعتراف بأن المتغيرات العالميَّة تشي بشراسة المنافسة وصعوبتها.
المراهنون على تراجع الغرب بزعامة أمريكا وصعود الشرق، يقدمون قراءة احادية لما يحصل في البلدان الغربية، منها صعود قوى اليمين المتطرف وتنامي تيارات الانعزال والانغلاق القومي الناتجة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وتوافد المهاجرين واللاجئين وتدهور مستويات المعيشة مقارنة بسنوات الرخاء، وهذه هي أكبر الأمثلة التي تساق الان لتعزيز فكرة تراجع الغرب، وتعزز هذه الأمثلة أيضا بفرضية انتصار روسيا في حربها على أوكرانيا وفرض موسكو نفسها قطبا شرسا لا يمكن تجاوزه، المتحمسون لفكرة التراجع والتدهور الغربي، يتبنون رؤية بوتين ونظرية الكسندر دوغين للحرب الروسية الاوكرانية، وينظرون إليها بأنها حجر الزاوية الأهم، الذي سيرسم مستقبل العلاقات الدولية لفترة قادمة، لان الحرب بزعمهم انطلقت لمنع تمدد حلف الاطلسي ومنع الغرب بزعامة أمريكا عن إضعاف القوة الروسية.
فالحرب في منظورهم هي مقدمة روسية لعالم متعدد الأقطاب، تقوده روسيا المنتصرة والصين الصاعدة المتمددة بهدوء عبر القوة الاقتصادية والتكنولوجيا الفائقة حينا، وعبر الاستعراضية العسكرية في الممرات الحيوية حينا آخر كما يجري في خليج تايوان و بحر الصين الجنوبي، اذا أضيفت الهند إلى الثنائي الروسي -الصيني، في مقابل تراجع ملموس في قدرات أوروبا، لا سيما بريطانيا وفرنسا وايطاليا، فإن الشرق سيواصل معركة انتزاع الصدارة من الغرب، وإن ما زالت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين قادرين على وضع القيود على القوى الجديدة المنافسة.
أحدث الأدلة التي يوردها المتحمسون لإنهاء الهيمنة الغربية على النظام العالمي، هي الانحطاط الأخلاقي والقيمي، الذي ينخر الغرب بعد نجاح القوى المروّجة للمثلية في فرض أجندتها قانونيًّا واجتماعيا، وظهور بوادر انهيار اجتماعي وتهديد للعائلة، التي تشكل صلب البنيان المجتمعي، وما ينشأ عن ذلك من مشكلات كبيرة، ستقود حتما إلى نكوص حضاري كبير، مثلها مثل الحضارات السابقة التي انهارت لا بسبب تراجع القوة المادية وحدها فحسب، بل في انهيار النموذج الأخلاقي الذي ارتكزت عليه.
ومثلما قادت الحرية والفردية والتنافس والرأسمالية، دول الغرب إلى إنتاج القوة وتعضيدها وتنميتها والهيمنة بسببها على العالم لأكثر من 300 سنة، فإن هذه الأسباب المادية والمعنوية، ستقود الغرب حتما إلى التخلي عن هذه الزعامة لصالح قوى صاعدة ماديا ومعنويا.
لأن القوة المادية وحدها لا تصنع نموذجا.
وحتى الساعة لم تستطع قوى الشرق المنافسة للغرب أن تقدم نموذجها الإنساني والحقوقي المثالي ما سيحرمها من بناء صورة النموذج المثالي البديل للغرب، أفول الغرب ليس أمنياتٍ ومؤشراتٍ تدل على قرب خسارة موقع الصدارة على فرض تحققه، بل هو انقلاب في موازين القوى ومنظوماتها الأخلاقية والاجتماعية ونموذجها الجاذب، فهل سيستطيع الشرق أن يملأ هذا الفراغ بسرعة أمنيات الحالمين بتراجع النموذج الغربي؟
القراءة الدقيقة لا تقول بذلك، فالنموذج السياسي والحقوقي والأخلاقي الشرقي، ليس كما يروّج إعلاميا، وعلى شاكلة التفكير الرغبوي، رغم عيوب وقبح الكثير مما يجري في الغرب حاليا، بل إن هذا الغرب نفسه قادر على أن يصحح مساراته بمكامن القوة لديه، وأبرزها قدرته على القراءة النقدية والتعلم من تجاربه وأخطائه، ما يرضينا نحن الشرقيين (المسلمين)، لن يكون تغير أقطاب العالم بين شرق (مسالم) وغرب (عدواني) كما يُظن، بل ببناء النموذج السياسي والاقتصادي والأخلاقي، الذي يصرف اهتمام شعوبنا عن الشغف بنماذج الآخرين، هذا ما تساءل عنه الباحث والمؤرخ الإيراني الشهير رسول جعفريان، وهو يرد على المبشرين بسقوط الغرب، متسائلا لماذا يتجه أبناء المسلمين مهاجرين إلى هذا الغرب، متحملين كوارث الموت غرقًا ودهسًا، اذا كان هذا الغرب سينهار قريبا؟
اضف تعليق