العزوف الانتخابي كسلوك سياسي يعبر عنه الفرد او المواطن العراقي نتيجة سخطه واستياءه من النظام السياسي والعملية السياسية وإدارة السلطة في العراق وطبيعة تشكيل الحكومات وكيفية الاستهانة بصوته بعد كل دورة انتخابية، فضلًا عن الصراع السياسي القائم منذ 20 عامًا وحالة عدم الاستقرار وتفشي الفساد والترهل في كل...
لقد أضحت ظاهرة العزوف الإنتخابي وانخفاض نسب المشاركة السياسية داخل النسق السياسي العراقي ظاهرة ملحوظة، وذلك منذ الاستفتاء على الدستور العراقي النافذ عام 2005 وصاعدًا، حتى بلغت ذروتها في الانتخابات التشريعية الماضية 2021، ومن المتوقع أن تنخفض نسبة المشاركة إلى أدنى مستوياتها في الانتخابات المحلية المقبلة (مجالس المحافظات)، ولاسيما مع ارتفاع السخط الجماهيري والرفض المجتمعي لعودة نشاطها السياسي، الذي عُلق العمل بها بعد تصاعد احتجاجات تشرين 2019.
إنَّ العزوف عن المشاركة في الإنتخابات غدت ظاهرة اجتماعية تتكرر وتنمو وتتواتر مع كل دورة انتخابية جديدة، ويمكن إرجاع السبب في بروز ظاهرة العزوف عن المشاركة في الانتخابات إلى أسباب قانونية تتعلق بالدستور والقوانين الانتخابية العراقية واداء السلطة التنفيذية والتشريعية وطبيعتها الرقابية، وأخرى سياسية تتعلق بسلوك الأحزاب والقوى والتيارات السياسية العراقية، فضلاً عن سلوك الطبقة السياسية الحاكمة وطريقتها في إدارة السلطة او الحكم في العراق.
ومع اقتراب موعد الانتخابات المحلية المقبلة، المزمع أجراؤها في شهر كانون الاول المقبل، سنحاول في هذه المقالة استقراء الاسباب السياسية للعزوف الانتخابي وتسليط الضوء عليها، وهي جزء من سلسلة مقالات نحاول فيها استقراء كل اسباب العزوف الانتخابي في العراق (السياسية، القانونية، الاجتماعية والاقتصادية)، فضلًا عن الفواعل المؤثرة التي تؤثر في ظاهرة العزوف الانتخابي.
يعد الانتخاب او التصويت تعبيرًا يقوم به المواطن لإظهار مدى ولائه للنظام السياسي أكثر من أي شيء آخر، فهو اما أن يقدم مشروعية للحكام والنظام السياسي، تمكنهم من تطبيق القوانين، أو بالعكس يعبر عن رفضه للنظام السياسي أو لنظام الحكم وطريقة إدارة السلطة فيه أو لسياسة معينة. فالناخب العراقي لا يذهب إلى الانتخابات للتصويت من أجل التأثير في القرارات السياسية العليا أو المشاركة في اتخاذ او صنع القرارات، بقدر ما يريد الابقاء على الاتصال الفعال بينه وبين السلطة أو النظام السياسي.
فمشاركة المواطن الاساسية في الانتخابات بكل دول العالم، تنطلق من طريقة أعجابه وولائه للنظام السياسي وأداءه وطريقة إدارته والقائمين عليه، وأن كل الاسباب السياسية للعزوف الانتخابي، ربما تتعلق بهذه الجزئية. كذلك تتمثل في عدم كفاءة المرشحين وفساد بعض السياسيين والمصالح الخاصة التي تسعى إليها الاحزاب السياسية، وعدم تمثيل مصالح المواطنين ومتطلباتهم. وفقدان الثقة في الطبقة السياسية سواء الحاكمة أو المعارضة، وغياب المعارضة السياسية الصحيحة، بمعنى آخر، لم تترك الأحزاب السياسية فرصة لأي معارضة برلمانية داخل السلطة التشريعية.
كذلك ضعف البرامج الانتخابية وعدم ملائمتها ومتطلبات المواطنين، إذ يقتصر دور الاحزاب بين كل دورة انتخابية وأخرى على الدعاية الانتخابية والتحشيد الجماهيري لتعبئة القاعدة الانتخابية والتعامل مع المواطنين كخزان أصوات ينتهي دورهم بانتهاء الاقتراع العام، كذلك فشل النخبة السياسية في توفير الحافز الضروري لإشراك الاشخاص في الانتخابات وزيادة ميولهم الانتخابية والتصويت.
فضلاً عن ذلك، فإن مواقف الأحزاب السياسية وبرامجها وخطابها في كثير من الأحيان متشابهة، وكذلك عدم وضع برنامج مجتمعي شامل وحداثوي يلمس مكامن الخلل والحلول الناجعة والواقعية لهذا الخلل، أو يلامس "على اقل التقادير" حاجة المواطن العراقي واحتياجاته الاساسية (الضرورية والترفيهية)، وافتقاد كل الاحزاب إلى عنصر الديمقراطية في نظامها الداخلي، وعدم إيمانها بالديمقراطية في طريقة إدارة الحكم، وربما بعضها قد أُجبر عليها؛ لذلك نشاهد رئيس الكتلة او القائمة أو زعيم الحزب السياسي، هو المتحكم الرئيس في كل الادوار السياسية والرقابية وطريقة إدارة المفاوضات السياسية مع الأحزاب الأخرى، أو المنافسين الآخرين في تشكل الحكومات وغيرها من المفاوضات.
وهذا وَّلد نوع من الدكتاتورية، أو ما يمكن تسميته بالدكتاتورية الجديدة في العراق، وهي إشارة إلى دكتاتورية رؤساء أو زعماء الكتل او الأحزاب السياسية. ولعل الصراع السياسي على مغانم السلطة وإدارة الحكم وآلية تشكيل الحكومات العراقية بعد كل انتخابات، والمشاكل التي تواجهها، تعد من أبرز الاسباب السياسية التي زرعت اليأس في ذهن الناخب العراقي ودعته إلى مقاطعة الانتخابات او عزوفه عن الانتخاب.
ففي العراق بعد انتهاء العملية الانتخابية تبدأ مرحلة المفاوضات والتوافقات بين الفائزين، فالكتل جميعها تطمح بأن تستلم حقائب وزارية وفق ما حققته في نتائج الانتخابات، او بعيدًا عن نتائج الانتخابات، فتنتج حكومة محاصصاتية توافقية لا تفرز الحزب الفائز من الحزب الخاسر، أو الحزب المشَّكل للحكومة عن الحزب المعارض لها.
فضلاً عن ذلك، أنَّ عملية التوافق تجعل السلطة الرقابية خالية من المعارضة البرلمانية، فمجلس النواب خلال معظم دوراته التشريعية، لا يمتلك جهة معارضة حقيقية تتابع الحكومة وتتقصَّى أخطاءَها وتحاسبها؛ لذلك لا يكون هنالك شعور بالخوف أو التقصير من الحكومة، وعادة ما تسجل الاخفاقات التشريعية والسياسية وحالات الفشل ضد مجهول.
بالمجمل، يمكن قراءة العزوف الانتخابي كسلوك سياسي يعبر عنه الفرد او المواطن العراقي نتيجة سخطه واستياءه من النظام السياسي والعملية السياسية وإدارة السلطة في العراق وطبيعة تشكيل الحكومات وكيفية الاستهانة بصوته بعد كل دورة انتخابية، فضلًا عن الصراع السياسي القائم منذ 20 عامًا وحالة عدم الاستقرار وتفشي الفساد والترهل في كل مفاصل الدولة، بالإضافة إلى حجم التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السياسي الداخلي، وضعف السلطة المركزية بالمقارنة مع سلطة اقليم كردستان.
لهذا لا يمكن قراءة العزوف الانتخابي في العراق، بمعزل عن السلوك السياسي الجماهيري وبعيدًا عن تلك الاسباب "سابقة الذكر"، أو بأنه حالة من غياب الوعي في الثقافة السياسية الشعبية، أو غياب في الإدراك جماهيري، بقدر ما هو سلوك سياسي، ينم عن وعي سياسي يحاول من خلاله المواطن الممتنع عن التصويت، بسحب الشرعية الشعبية عن النظام السياسي والقوى والاحزاب السياسية، أو هو تعبير سياسي ساخط لمنع إعادة انتخاب القوى والاحزاب السياسية التي فشلت في إدارة الدولة والسلطة، ولاسيما مع انعدام الوسائل القانونية (كقانون الانتخابات وضعف السلطة الرقابية والتشريعية) التي تمكن المواطن من محاسبتهم أو تغييرهم من خلال صندوق الانتخابات أو بالأدوات القانونية.
وهذا ما نحاول بحثه في المقالة القادمة التي تتعلق بدراسة الاسباب القانونية للعزوف الانتخابي في العراق.
اضف تعليق